يعتاد الناس شراء بعض السلع الاستثمارية أو الخدماتية، لأغراض معينة، بالتقسيط، على أن يتم التسديد خلال فترة زمنية يتم تحديدها وفق ما يتناسب مع الأطراف المتعاقدة بالاتفاق، لكن في قطاع غزة لم يعد الأمر مقتصراً على هذا فحسب، فقد أصبح بإمكان الغزيين أداء فريضة العمرة، وهي أحد أركان الاسلام بالتقسيط، فـ"الكاش" مرهق بالنسبة لهم.
مع بداية موسم العمرة في ديسمبر الماضي، تبدأ شركات السياحة والسفر وبعض المؤسسات، إعلان شروطها، أملاً باستقطاب وتشجيع الغزيين الراغبين في شدّ الرحال للبيت العتيق مقابل التقسيط لعدة أشهر.
"فرصة لأن نسافر"
تقول وفاء (32 عاماً)، تعمل في المجال الإعلام، لرصيف22: "نحن بحاجة ماسة، كفتيات في قطاع غزة، لمعايشة أنماط جديدة من التجارب، كتجربة أداء العمرة، فكثير من العائلات لا تسمح لبناتها بالسفر وحدهن، فيجدن في السفر بغرض أداء منسك ديني أمراً جيداً، كذلك نشر الوعي لدى فئة الشباب لممارسة العمرة، لتغيير الصورة المرسومة في أذهان الكثيرين، وهي أن مثل هذا المنسك الديني مقتصر على كبار السن دون غيرهم".
وعن تقسيط تكاليف سفر العمرة، تقول وفاء: "فكرة أداء العمرة بالتقسيط مريحة جداً، فيها تيسير كبير بالطبع في ظل الظروف الاقتصادية القاسية، وحالة العوز التي يعيشها معظم السكان، والتي قد تحرمهم من أداء منسك ديني، لاسيما مع ارتفاع التكاليف الباهظة للعمرة التي تفوق القدرة المالية للغزيين".
"نحن بحاجة ماسة، كفتيات في قطاع غزة، لمعايشة أنماط جديدة من التجارب، كثير من العائلات لا تسمح لبناتها بالسفر وحدهن، فيجدن في السفر بغرض أداء منسك ديني أمراً جيداً"
وتضيف وفاء: "التقسيط أتاح الفرصة للعديد من الشباب والشابات المتعطشين لمعايشة تجربة رحلة السفر، فباتت العمرة متنفساً لهم، يأدون فيها أغراضاً دينية، ولم شملهم مع عوائلهم، والبعض يهدف للتجارة".
واعتمدت وفاء على آلية تقسيط 930 ديناراً (أي ما يقارب 1300 دولار) موزعة على 18 شهراً، فهي تجد في هذا الأمر فرصة جيدة لها، رغم وجود فائدة ربحية على المبلغ بنسبة 10%، وتبلغ تسعيرة العمرة في غزة، 890 ديناراً أردنياً، شاملة لجميع التكاليف والخدمات خلال 14 يوماً، وفق ما أعلنت عنه لجنة الحج والعمرة بوزارة الأوقاف والشؤون الدينية، في التاسع عشر من نوفمبر العام الماضي، بعدما كانت قد استأنفت السفر للديار الحجازية بعد منع دام لأكثر من أربع سنوات، وفق اتفاق مع الإدارة المصرية التي بدأت تسمح بتوافد رحلات العمرة من القطاع أخيراً.
"التقسيط غرضه استثماري"
حالة من السجال بدت واضحة بين الغزيين الذين انقسموا ما بين مؤيدين لفكرة أداء العمرة بالتقسيط، وبين معارضين كونها مناقضة لما ينص عليه دينهم الإسلامي، بحسب بعض المذاهب الفقهية المحافظة، والذي يحرّم أي معاملة مالية فيها نسبة من الفائدة المشروطة على مبلغ المال الأصلي، كالقروض مثلاً، ويسمونها "ربا"، لكن يبدو أن الظروف الصعبة التي يعيشونها اضطرتهم لأن يتقبلوا الفكرة.
وتبلغ نسبة انعدام الأمن الغذائي في سكان قطاع غزة 70%، كما أن نسبة الفقر والبطالة ارتفعت خلال عام 2019 إلى ما يقرب من 75%، في حين 33.8% تحت خط الفقر، بحسب وزارة التنمية الاجتماعية في غزة، .
على خلاف وفاء، يرى الخمسيني ياسر العوضي، أنه ليس لزاماً عليه اللجوء لأداء منسك العمرة بالتقسيط، فالأولى وفق رأيه، أن يتم تخفيض ثمنها بدل أن تشكل عبئاً ثقيلاً على كاهل المواطن الغزي، وغير منصف لأوضاعه الاقتصادية، كما أنه يعتبر أن بعض شركات العمرة التي تتبع القسط غرضها استثماري بحت.
ويعمل ياسر كبائع خضروات في أحد أسواق غزة الشعبية، يعيل ثمانية من أفراد أسرته، لدية رغبة ملحة للسفر لأداء المنسك الديني، لكن المغالاة في التكلفة غير المناسبة لمعيشته تقف مانعاً أمامه، ويرفض فكرة التقسيط كونه لا يستطيع تسديد المبلغ شهرياً، ما يمكن أن يترتب عليه معضلة قانونية، كذلك لديه تخوفات من أن فكرة التقسيط تخالف ما نصّ عليه الدين، كون فكرة التقسيط قائمة على "ربح ربوي"، وفقه رأيه.
"بيع منفعة" أم "تحايل ربوي"؟
تقوم فكرة العمرة بالتقسيط في قطاع غزة، من خلال التسجيل عبر مكاتب السفر المختصة بذلك، والتي يبلغ عددها 15 من أصل 75، تتعاقد مع بنوك إسلامية في معاملاتها، تأخذ حصتها من ثمن العمرة الأساسي وليس الفائدة الربحية، والتي تتراوح من 100-150 دينار أردني، أي 10 بالمئة في العام الواحد، يتم تسديدها وفق آلية الاتفاق مع المعتمر والبنك، خلال مدة عام أو عامين، مقابل أن يقدم المعتمر كفلاء يعملون بعقد ثابت لضمان التسديد، ويتم خصم ما قيمته 70 ديناراً شهرياً من راتبهم لحصالة البنك، وهو مبلغ السداد الشهري، وفي حال التخلف عن الدفع تتعرّض الأطراف لمساءلة قانونية.
ولم يقتصر الجدال على آلية العمل بنظام العمرة بالتقسيط بين صفوف المواطنين، بل أيضاً طال رجال الدين، فالبعض منهم أجاز، والآخر لم يجز هذه الفكرة من الناحية الشرعية.
شدد الداعية سميح حجاج، المشرف على المعاهد الأزهرية للعلوم الشرعية، في تصريحات لرصيف22 على أن العمرة سُنّة وليست فرض، كذلك الحج له شروط وهي "حج البيت لمن استطاع إليه سبيلا"، من باب التخيير وليس الإجبار كباقي الفروض، إذا كان غير مكلف.
ويعارض حجاج أداء الغزيين العمرة بالتقسيط، إذا لم يتوافر لديهم المال الكافي لسداد حاجتهم الأساسية، فهذا يزيد من أعبائهم، نظراً لأن الواقع المعيشي والاقتصادي يُحمّلهم أعباء إضافية، ويراكم الديون عليهم.
يعارض الداعية سميح حجاج أداء الغزيين للعمرة بالتقسيط، إذا لم يتوافر لديهم المال الكافي لسداد حاجتهم الأساسية، فهذا يزيد من أعبائهم، ويراكم ديونهم
يقول حجاج موضحاً رأيه الفقهي: "إن معظم شركات الحج والعمرة تهدف في شرعنة برنامج العمرة بالتقسيط للاستثمار فقط، كأي مشروع تجاري غرضه الربح، لا سيما أنها تتبع آلية التقسيط مقابل أن يتم دفع مبلغ مالي بنسبة معينة، وهنا تصبح المعاملة ربوية بحتة، مثلها مثل القروض التجارية التي حرّمها الله في القرآن، استنادا لقوله: أحل الله البيع وحرّم الربا".
وأضاف حجاج أن هنالك "تحايل ربوي" على المعتمر لكن بصورة غير مباشرة، مبيناً أن جميع البنوك، سواء كانت "إسلامية أو تجارية"، تهدف للربح، كونها مرتبطة بالبنك الدولي، وهذا "غير جائز"، بحسب حجاج.
لكن الشيخ صادق قنديل، رئيس هيئة الرقابة الشرعية بغزة، يختلف مع حجاج، ويجيز فكرة العمرة بالتقسيط، معتبراً إياها "بيع منفعة"، يشرح قنديل لرصيف22 نظرته الفقهية: "معاملة تتم من خلال بنك إسلامي ملتزم بأحكام الشريعة الإسلامية، وليس ربوي، كونها تعتمد على ما يسمى في الإسلام ببيع الأعيان، وهو مشابه لبيع الخدمات التي تقدمها شركات متنوعة، كالاتصالات، الأقساط التعليمية الجامعية المقدمة للطالب والخدمات الطبية التي تقدمها بعض المؤسسات، يتم من خلالها شراء منفعة مقابل مبلغ مادي".
"أداء العمرة بالتقسيط جائزة شرعاً، وتعتبر فقهياً بيع منفعة".
ويشدّد الشيخ قنديل على أن العمرة بالتقسيط في حد ذاتها هي "بيع منفعة، وهو جائز بالشريعة الاسلامية، فالمعتمر أو الزبون، يدفع مالاً مقابل حصوله على منفعة وهي أداء العمرة الدينية، دون وجود فائدة ربوية، لأن البنك لم يعط المعتمر نقوداً، بل اشترى الخدمة وباعها للمعتمر، بما يترتب عليه من ربح وليس فائدة ربوية، وهذا ليس محرم".
وأشار قنديل الى ضرورة الاجتهاد الفقهي في عالم الاقتصاد المالي، فهو واسع ومتطور، والقصد من برنامج العمرة بالتقسيط هو منفعة للناس وتشجيعهم على أداء منسك ديني، فالعديد محرومون من أداء فريضة العمرة بسبب عدم توافر المال لديهم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...