لم يعد مشهد إقبال الفلسطينيين في قطاع غزة على ارتياد المقاهي وتناول النرجيلة مقتصراً على فئة الشباب كما في السابق، وباتت المقاهي مقصد الفتيات أيضاً كنوعٍ من التحرّر المجتمعي، التسلية، والترفيه، والهروب من الواقع والحصار، وتبادل الأحاديث والهموم.
بالطبع لا يخفى على أحد أن المجتمع الغزي يعيش تحت عباءة الطابع المحافظ، لكنه بدا أكثر تقبلاً نوعاً ما لتلك الفكرة في الآونة الأخيرة، لا سيّما بعد الانتشار الواسع للمقاهي، والمنتجعات السياحية، والمطاعم على شاطئ البحر، ووسط المدينة، والأحياء السكنية.
"جيم في الصباح وشيشة في المسا"
تجلس ثلاث شقيقات في أحد مطاعم غزَّة الفارهة ذات الطابع الكلاسيكي، المقامة على ارتفاعٍ شاهق فوق أحد العمارات السكنية، تمتزج فيه قرقعة النرجيلة مع صوت طائرة الاستطلاع الاسرائيلية، "الزنانة" كما يسميها الغزيون، فهي لا تكاد تغيب عن سماء المدينة، وتدنو لتصبح على مسافةٍ قريبةٍ منهم أحياناً.
إحدى الشقيقات تدعى لينا صالح (28 عاماً)، خريجة قسم التجارة، وهي واحدة من الفتيات اللواتي اعتدن زيارة المطعم بشكلٍ شبه يومي، خاصَّة في فصل الصيف، تقول لرصيف22: "نعيش في غزة أوقات فراغٍ كبيرة ونعاني من الملل، قد يرجع ذلك الى افتقادنا للأمان الوظيفي والاستقرار المعيشي والمجتمعي أيضاً، إذ يدفع الشباب الثمن الأكبر في غزة، ولا أبالغ حين أقول إنّ عمرنا يذهب سدى في البحث عن أية فرصة عمل أو حياة جيدة".
وكانت لينا تعمل قبل ثلاثة أشهر في إحدى الشركات، وانتهى عقد عملها، ترفض فكرة الجلوس حبيسة جدران المنزل، فتفضّل الذهاب للمطعم المفضل بالنسبة لها كونه قريباً من منطقة سكنها.
وتضيف لينا: "الآن لديّ مُتَّسع من الوقت، أحاول في الصباح الذهاب الى الجيم، والمساء أحرص على تناول النرجيلة خارج بيتي للتفريغ نفسياً، والتخلص من الطاقة السلبية، بدل إطالة التفكير المرهق في البطالة وأزمات المدينة وهمومها، لكن يظلّ الخوف يتربص بنا أثناء جلوسنا، طالما هنالك طائرات اسرائيلية تحلّق فوق رؤوسنا، ففي أي وقت تقوم الحرب".
وحسب ما ذكرت لينا أنها تجد مُتكأ لها وراحة في الذهاب للمطعم، وهذا بسبب أن جميع مرتاديه من نفس الطبقة الاجتماعية التي تعيشها، حسب وصفها، ويبدو أنَّهم متقبّلون بشكل طبيعي مشاهدتها تمسك بخرطوم النرجيلة "الشيشة"، وتنفث دخانها دون أن يرمقها أحدهم بنظرات قد تُسبِّب لها مضايقة.
علاوة على ذلك، تجد في مقصدها لجلسات النرجيلة فرصةً لتكوين شبكة علاقات مجتمعية علّها تفيدها في إيجاد فرصة عمل بدخل جيد، بعد أن أنهت دراستها الجامعية بتخصص إدارة أعمال قبل ثلاثة أعوام.
"أبتعد عن المجتمع لأعيش الحرية"
تأخذ المقاهي في غزة عدة أشكال منها ما يغلب عليها الطابع الكلاسيكي، يزيد ثمن النرجيلة فيها عن 50 شيكل بما يعادل 20 دولاراً، وهذا ثمن ليس زهيداً بالنسبة للسكان، وهنالك "الشعبي" تقصده جميع طبقات المجتمع والعائلات، لا يزيد ثمن النرجيلة فيه عن عشرة شيكل أي 4 دولار، كذلك أشكال وهيئات الـ"رستو كافيه" ذات التصاميم الحديثة، والصغيرة، باتت منتشرة، بشكل واضح يقصده الشباب والفتيات وأحياناً يقتصر على الشباب دون الفتيات.
"أذهب الى الجيم في الصباح، والمساء أتناول النرجيلة، ويظلّ الخوف يتربص بنا... فالطائرات الاسرائيلية تحلّق فوق رؤوسنا، وفي أي وقت يمكن أن تقوم الحرب".
وبعيش في قطاع غزة قرابة 2 مليون فرداً يعيشون ظروفاً اجتماعية ونفسية ومعيشية متدهورة، بسبب الحصار المفروض على مدينتهم منذ عام 2006، إذ يحاولون التعايش والتأقلم مع ظروف مدينتهم المغلقة عن العالم، وإيجاد متنفسٍ لهم، في ظل اغلاق المعابر وحرمان جزءٍ كبير منهم من حقه في التنقل والسفر خارج البلاد.
أحلام يوسف ( 33 عاماً)، وتعمل موظفة لدى حكومة رام الله، هي الأخرى تجد في ذهابها للمقاهي طقوساً لا يمكن الاستغناء عنها بشكلٍ شبه يومي، تقول وهي متكئة على طاولة في إحدى "كافيهات" شاطئ كورنيش غزة، الذي يعتبره السكان واجهتهم السياحية، يرافقها في جلستها إحدى روايات "باولو كويلو" العالمية، والنرجيلة في يدها: "أحاول الابتعاد عن المجتمع وأعيش الحرية بمفردي، لذا آتي باستمرار للبحر، فهو قبلتنا وملاذنا الوحيد، وبالطبع أستثمر وجودي لتناول النرجيلة، أجدها وسيلة تخلّصني من الكبت، والضغوطات المجتمعية التي أعيش فيها، واعتدتُ تناولها منذ فقدت ابنتي قبل 8 سنوات، ولا أعرف عنها أي تفاصيل".
تحكي أحلام قصتها، لا يقطع سردها سوى أنفاس النرجيلة، طويلة، وبطيئة، تقول أنها انفصلت عن زوجها، وهذا ما جعله يأخذ طفلتها البالغ عمرها آنذاك عامين، وهرب بها عبر أنفاق غزة المرتبطة مع مصر، وفرّ بها الى ماليزيا، وحتى الآن لم تلتق بها قط.
"البحر قبلتنا، وملاذنا الوحيد، والنرجيلة تخلصني من الكبت، والضغوط الاجتماعية"
وتفكر أحلام أحياناً أنَّ والدها قد يكون أخبرها بأن أمها توفيت، وتحاول الإفلات من ألمها بالجلوس على البحر، تشاركها أمواجُه همومَها.
فيما ترى الشابة نداء سعيد، (27 عاماًً) صحفية، عادت إلى غزة من القاهرة قبل سنوات ليست بالبعيدة، أن قطاع غزة مختلف تماماً عن مدن مصر من حيث العادات والتقاليد والحريات، لكنها ترى القطاع أرضاً خصبة للعلاقات الاجتماعية، والتآلف بين السكان، كونهم يعيشون في مدينة ضيّقة، والجميع يلتقي عادة في نفس الأماكن، فلا اختلاف فيها.
وتحرص نداء باستمرار على التنزه مع صديقاتها وأصدقائها بعد العمل، متجهةً للمقاهي الشعبية أو المطاعم للترفيه والتسلية في "جلسات وناسة" تتخللها النرجيلة، فلا تكاد تخلو أحاديثهم من مناقشة أحلامهم، وطموحاتهم، وأوضاع البلد، والمزاح، ولعب "الكوتشينة" أحياناً.
وتشعر نداء بأنّ هذه الوسيلة فرصة لا بأس بها للترفيه عن النفس في الوقت الذي تفتقد فيه غزة لوسائل الترفيه الأخرى، كالسينما، رحلات السفاري، أو السفر لقضاء أوقات الاستجمام في الخارج، حيث يعيقها إغلاق المعابر المتكرّر.
"يدخنّ النرجيلة ويشجّعن الأندية"
في عام 2010 أصدرت حكومة غزة قراراً يقضي بمنع تداول النرجيلة للنساء في الأماكن العامة، على اعتبار أنَّ ذلك منافٍ للعادات والتقاليد التي اعتاد عليها المجتمع الغزي، لكن يبدو أنَّ القرار لم يستمر كثيراً، وكان قد أثار جدلاً بين فلسطينيي غزة، لكنها مازالت تفرض رقابة على أصحاب المقاهي والمطاعم، وتقيّد تقديم النرجيلة لمن هم أكبر من سن الثامنة عشر، وتلتزم بعض المقاهي بهذه الشروط.
يقول أبو رشدي، صاحب مقهى "مارينا" المطلّ على بحر غزة، لرصيف22 إنه بات ملاحظاً خلال السنوات الأخيرة الإقبال المتزايد من قبل الفتيات على ارتياد المقاهي، ليس وحدهنّ بل برفقة عوائلهنّ، وهذا ما يؤكد على أن المجتمع الغزي بات يتقبل هذا السلوك.
ترى نداء السعيد قطاع غزة أرضاً خصبة للعلاقات الاجتماعية والتآلف بين السكان، كونهم يعيشون في مدينة ضيقة، والجميع يلتقي عادة في نفس الأماكن، فلا اختلاف فيها
ويضيف أبو رشدي بأن السبب في ذلك ظروف الحصار، وربما الضغوطات المجتمعية، والحصار هو من فرض على المجتمع تقبّل هذه الفكرة، خاصة وأن الكافتيريات لا تقتصر على تقديم المشروبات فقط، بل هناك خدمة الانترنت والكهرباء، وهذا ما يشجع البعض لزيارة المقاهي للقيام بأعمالهم، خاصة الفتيات والشباب الذين يعملون بشكل حر، ويكونون بحاجة لمشروب، وتناول النرجيلة أثناء العمل، أو مشاهدة المباريات، والفتيات لهنَّ باع في هذا الجانب، ويأتين لتشجيع أندية معيّنة.
كما أشار إلى أنَّ المرحلة الحالية تشهد إقبالاً أكثر من الفتيات عما سبق في الفترة التي كانت تحكم فيها "سلطة رام الله" غزة قبل 13 عاماً، رغم أنّ الانفتاح على العالم في تلك الفترة كان أكبر، وكان غالبية المرتادين من السائحين، إضافة لتعدّد بدائل الترفيه في تلك الفترة، على عكس ما يعيشه الغزيون حالياً.
تعيش الفتيات في قطاع غزَّة الحصار حصارين، ويحاولن الخروج من هذا المأزق والبحث عن بدائل للحياة لعلهن يجدن لذلك سبيلاً، رغم عدم تقبل البعض لتوجّه الفتيات للمقاهي ونفث النرجيلة التي اعتادوا مشاهدتها بين أيدي الذكور، ولكن يبدو أن الفتيات تجاوزن تلك النظرات، وصرن أكثر تمسّكاً بحريتهن الشخصية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...