في أواخر عام 2011، خرج شقيقي منير من النزهة (حارتنا) في حمص وهي ذات أغلبية علوية. كان ذلك في عز أيام الحرب الأهلية في حمص بين العلويين والسنّة، وكان منير يقود سيارة التاكسي التي يمتلكها بالشراكة معي باتجاه حي الإنشاءات المجاور لبابا عمرو.
وفيما كان يقوم بتوصيلة لأحد الزبائن، أوقفه حاجز لـ"الجيش الحر" كُتب عليه "كتائب خالد بن الوليد"، واقتادوه إلى حي بابا عمرو حيث ظلّ معتقلاً حتى عام 2012، ومن هناك نقل إلى حمص القديمة، وقبل خروج مسلحي "الجيش الحر" من المدينة نقلوه إلى ريف حمص في الرستن، وهناك وقع أسيراً لدى جبهة النصرة لمدة عامين، تعرّض خلالهما لشتّى أنواع التعذيب خصوصاً الجنسي منها.
لم نتوقف عن ملاحقة أخباره، حتى وجدنا وسيطاً تكفّل إخراجه مقابل فدية، فبعت منزلي بـ5 ملايين ليرة سورية، ودفتعها للوسيط حتى خرج منير، ولكنه لم يكن الشخص نفسه الذي كنا نعرفه قبل الاعتقال.
ظلّ شقيقي صامتاً أشهراً طويلة، ثم فتح قلبه لنا ولأصدقائه، لكن أحدهم روى تفاصيل تعرضه للاغتصاب فانتشر الخبر، وأصبح منير مثاراً للسخرية بين أبناء الحارة.
في البداية، كنت مؤمناً أن شقيقي سيتعافى من صدمته النفسية، لكن للأسف بعد التنمّر عليه انعزل عن الجميع وظلّ في غرفته إلى أن قرّر الهروب والالتحاق بخدمة الجيش الإلزامية، ولكن حتى في الجيش كان قصته تسبقه.
التعذيب في سجون "الجيش الحر"
أخبرنا منير أن الفترة الأولى من أسره كانت في حي بابا عمرو، ظلّ أسبوعين مع العديد من السجناء، في منزل كبير في بساتين الحي المجاورة لطريق طرطوس الدولي، وحين علم معتقلوه أنه من الطائفة العلوية وحي النزهة، قاموا بالتحقيق معه عن طريق الضرب والرش بالماء المغلي ثم بالبارد.
"مع إصرار شقيقي على عدم مجاراة الضابط بالاعتراف، حقنوه بإبرة مازوت بيده، وهنا غاب عن الوعي ساعات، ثم تلقى علاجاً من أحد الأطباء في حي باب عمرو، ذلك لأنهم قرروا أن يضعوا اسمه في عملية تفاوض".
وروى منير أن ضابطاً من "الجيش الحر" برتبة ملازم يدعى بلال أجبره على الاعتراف بأنه قتل وعذّب متظاهرين، وحين قال له إنه مدني ويعمل سائقاً، بدأ بلال بضربه على وجهه وجسده وهو يصرخ "أنتم العلويون جميعكم أمن ومخابرات وشبيحة، ولا يوجد مدني واحد بينكم، اعترف حتى نجعلك ترتاح وإلا فستتمنى الموت".
كانت أقسى لحظات تعذيبه الحقن بالإبر. بداية، تمّ حقنه بإبرة هواء بكمية كبيرة، فتضررت رئتاه بشكل كبير وأصبح تنفسه صعباً طوال أشهر وعانى أوجاعاً كبيرة، وحين لم يقدّم للمحققين أي معلومة على هواهم، لجأ المسلحون إلى أسلوب آخر وهو الحقن بإبر المازوت.
مع إصرار شقيقي على عدم مجاراة الضابط بالاعتراف، حقنوه بإبرة مازوت بيده، وهنا غاب عن الوعي ساعات، ثم تلقى علاجاً من أحد الأطباء في حي باب عمرو، ذلك لأنهم قرروا أن يضعوا اسمه في عملية تفاوض لتبادل المخطوفين، ورأوا أن بقاءه على قيد الحياة أكثر نفعاً، خصوصاً بعدما عرفوا أنه ابن أخ ضابط معروف في الجيش.
روى شقيقي أنه لا يتذكر تفاصيل الأيام التي تلت الحقن بالإبر فقد شعر أنه في جحيم متواصلة، إلى أن نقل إلى حمص القديمة مع اقتراب سيطرة الجيش السوري على حي بابا عمرو عام 2012.
أشغال شاقة
حين وصل منير إلى حمص القديمة هو ومئات المخطوفين الذين لم يتم الإفراج عنهم، قام مسلحو "الجيش الحر" وبعض الكتائب الإسلامية المتطرفة باستغلال المخطوفين وإجبارهم على العمل في أشغال شاقة، كحفر الأنفاق ونقل الأتربة وبناء السواتر الترابية.
وعلى الرغم من وضع منير الجسدي والنفسي الصعب، تم استغلاله مع المخطوفين بالعمل الشاق وغير الإنساني طوال الوقت. كان الطعام يوزع مرتين في اليوم، وفي كل وجبة يأكل المخطوفون البطاطا المسلوقة والبيض وبعض الخضار، لكن مع اشتداد الحصار على حمص القديمة كان الطعام لا يتوفر بسهولة حتى للمسلحين.
عانى منير في تلك الفترة نقص الغذاء والإرهاق، لكن في الوقت نفسه قال إنه وجد عناصر من "الجيش الحر" يملكون قلباً طيباً ويتقاسمون الطعام مع المخطوفين، حتى تكونت علاقات صداقة في ما بينهم بسبب الوقت الطويل الذي عاشوه معاً، وكان قائد مجموعة اسمه لؤي من حي الخالدية حريصاً على معاملة المخطوفين بشكل جيد.
في أحد الأيام من عام 2013، قرر ضابط من الجيش الحر يدعى أبو ياسر الحمصي تصفية بعض المخطوفين بحجة عدم الاستفادة منهم واقتراب الخروج من مدينة حمص، ومن بين الذين قرر تصفيتهم كان منير، لكن لؤي رفض بشكل تام ذلك، لأن علاقة صداقة كانت قد نشأت بين الاثنين.
وقال منير عن تلك الصداقة إن لؤي شعر بالحزن عليه، خصوصاً أن جسده كان يرتجف خلال العمل، ويبقى صامتاً، وفي الليل عندما ينام يصدر أصواتاً وصراخاً ويبكي في منامه، فقام لؤي بمساعدته وجعله يرتاح كثيراً في عمله، وعندما بدأت بعض الفصائل من "الجيش الحر" الخروج من حمص القديمة بسبب الظروف السيئة للحصار، اصطحب لؤي منير وبعض المخطوفين، وطمأنهم بأنهم سوف يُفرج عنهم والتواصل مع أهلهم في وقت قريب.
"هاد منيح، بدي إياه إلي"
عندما وصل منير إلى ريف حمص في الرستن وضعوه مع حوالي 200 من المخطوفين في مزرعة دجاج كبيرة جعلوها سجناً، وحين شعر منير بأنه على أعتاب الخروج من الأسر وفق ما وعده لؤي، كان الأخير قد اختفى وانقطعت أخباره.
في ذلك المكان، كانت السيطرة لـ"جبهة النصرة" التي بدأت بإعدامات جماعية لبعض المخطوفين، والبعض الآخر تم التواصل مع أهله لدفع فدية مالية، هنا تواصلوا معنا عبر وسيط من حي الوعر وطلبوا فدية خمسة ملايين ليرة سورية، لكن استغرق الأمر ثلاثة أشهر حتى تدبرنا المبلغ، وخلال هذه الأشهر ذاق منير أقسى مراحل العذاب التي عاشها في حياته.
في إحدى الليالي الباردة في شهر كانون الأول عام 2013، كان منير نائماً في المزرعة، استفاق هو وزملاؤه على صراخ السجّانين الذين طلبوا منهم الخروج والاصطفاف أرتالاً. وقف الجميع ينتظر ماذا سيحدث. كانوا أربعة سجانين بقامات طويلة ولباس أسود وذقون طويلة، وأحدهم مكحل العينين، ثم اختاروا خمسة مخطوفين من بينهم منير، والبقية أرجعوهم إلى المزرعة.
يقول منير إن اختياره هو والأربعة الآخرين تم بشكل عشوائي، وحين كانوا ينتقون شخصاً كانوا يتمتمون ويضحكون. رأى منير كلمة مكحّل العينين ينظر إليه ويقول لزميله: "هاد منيح، بدي ياه إلي من هلق"، ثم تعالت الضحكات في ما بينهم، لم يفهم منير والبقية ما معنى ذلك إلى أن دخلوا إلى بيت كبير، كان يبدو أحد مقار "النصرة".
أدخل اثنان من الخاطفين منير إلى غرفة فيها ضوء خافت ينبعث من إحدى الزوايا. رُمي شقيقي أرضاً واقترب السجان المحكّل منه وهمس في أذنه: "الليلة ليلتك يا حلو، كل شي بدو يصير عالساكت ما بحب إسمع صوت، ماشي؟". حينذاك لم يفهم منير ما يقصد وسأله: كيف يعني ما فهمت؟ أمسك السجان الآخر بيد منير وربطها باليد الأخرى وقال له: "بعد شوي بتفهم".
تفاصيل تلك القصة كانت من أصعب الأشياء التي تكلّم عنها منير، حتى أنه في كل مرة يتذكرها تأتيه نوبة صرع شديدة، إذ إن مرض الصرع لازمه بعد تلك الحادثة.
عندما اقترب الشخصان من منير بعد ربط يديه ظنّ أنهما سيعذبانه، ولأنه كان معتاداً ذلك لم يصدر صوتاً، لكن أحدهما أنزل بنطاله وسرواله الداخلي فأصبح عارياً تماماً. حينذاك، قال السجان ذو االعينين المكحلتين لزميله وهو ينظر إلى مؤخرة منير: "شفت، متل ما قلتك، توقعت تكون حلوة نظرتي ما بتخيب".
"بعد كؤوس كثيرة من العرق، بدأ منير الحديث عن مراحل التعذيب، حتى وصل إلى قصة اغتصابه فكانت ردود فعل الأصدقاء كالصاعقة. لاحقاً، ندمت على تلك السهرة التي جعلت منير يدخل في عزلة أخرى لا تقل صعوبة عن سابقتها"
"رُمي شقيقي أرضاً واقترب السجان المحكّل منه وهمس في أذنه: الليلة ليلتك يا حلو، كل شي بدو يصير عالساكت ما بحب إسمع صوت. حينذاك لم يفهم منير ما يقصد وسأله: كيف يعني؟ أمسك السجان الآخر بيد منير وربطها باليد الأخرى وقال له: بعد شوي بتفهم"
تعالت ضحكات الاثنين، هنا فهم منير ماذا يحدث فبدأ بالصراخ والبكاء وهو يحاول رفس أحدهم، عندئذ ربط الاثنان رجليه كذلك، واقترب المكحّل من منير ممسكاً بشعره وفي يده قطعة قماش وقال له: "قلتلك ما بحب يلي بيعيطوا، وهلق رح نعيشك ليلة الدخلة يا حلو، فخليك عالساكت ولا حركة أحسن ما موتك بأرضك" ثم وضع قطعة القماش على فمه.
أجلسه الاثنان بوضع القرفصاء، فظلّ يئن ويبكي ويصرخ من دون صوت، وقدماه ترتجفان، حتى ثبّت أحد السجانين قدميه وجسده، وعرّاه الثاني ووضع قضيبه في مؤخرة منير بقسوة.
أخبرنا منير عن تلك اللحظة المؤلمة، قال : "أغمضت عيني عند شعوري باقتراب قضيبه من مؤخرتي، علّني أهرب من الوجع، لكن في لحظة إدخال قضيبه، شعرت بأن ضوءاً قوياً يخرج من رأسي، كانت الأوجاع التي شعرت بها في تلك اللحظة أقسى من كل إبر الهواء والمازوت وتعب الأشغال الشاقة في حمص القديمة. لن أنسى ذلك الوجع، ولن أنسى كيف شكل ذلك الضوء القوي الأبيض المشعّ الذي شعرت به في دماغي ورأسي وأنا مغمض العينين. ثم مارس المكحّل الجنس معي بقوّة لدقائق، نزفت من مؤخرتي، شعرت بتمزّق كبير، وحين أفرغ سائله المنوي في مؤخرتي، شعرت بالعار، تمّ اغتصابي، وأنا أنزف. تلك الدقائق كانت أطول ما عشته في حياتي".
بعد انتهاء الأول من اغتصاب منير، اغتصبه الآخر أيضاً. وبعد الانتهاء من جريمتهما البشعة، أخبرنا شقيقي أنه فقد الوعي قبل أن يستفيق على الماء البارد الذي سُكب عليه.
كان منير ورفاقه الأربعة غير قادرين على المشي بسهولة حين تمت إعادتهم إلى المزرعة. عند دخولهم، التف الجميع حولهم وفي أنظارهم حزن وخوف باديان، إذ أصبح كل واحد من البقية يخاف من لحظة مشابهة مقبلة.
العودة إلى المنزل
كانت قد مرت أيام على حادثة الاغتصاب، حين دفعنا الفدية وتم إطلاق سراح منير. عاد شقيقي إلى الحي وسط احتفالات كبيرة، لكنه كان طوال الوقت صامتاً وشاحباً، لم يبدُ فرحاً لخروجه.
في تلك اللحظة، علمت أن منير قد عاش أموراً أصعب من أن نتصورها. لم يبرح غرفته لأيام طويلة، رافضاً الحديث مع أحد حتى مع أفراد أسرته.
في إحدى الليالي، قررت وبعض أصدقائنا المشتركين أن نخرج منير من عزلته بسهرة في منزل أحد الأصدقاء نشرب فيها العرق ونأكل اللحم المشوي. وهذا طقس يحبه منير، واعتقدنا أنه سيساعده على الخروج من عزلته. في تلك الليلة، وبعد كؤوس كثيرة من العرق، بدأ منير الحديث عن مراحل التعذيب، حتى وصل إلى قصة اغتصابه فكانت ردود فعل الأصدقاء كالصاعقة. لاحقاً، ندمت على تلك السهرة التي جعلت منير يدخل في عزلة أخرى لا تقل صعوبة عن سابقتها.
حين عرف سكان الحي بقصته
نشر أحد الحاضرين في تلك السهرة الخبر حتى عرف جميع سكان الحي بقصته. وحين عرفت من هو الشخص الذي أفشى بالسر قمت بضربه بشدة أمام جميع سكان الحي، حتى دخلت في مشكلة كبيرة أدخلتني السجن لأيام بسبب كسر في يد ذلك الشخص وأنفه.
لم أستطع ضبط أعصابي حين رأيت منير غارقاً في دموعه بعدما علم أن الجميع يتنمّرون عليه وينادونه بأسماء بنات من باب السخرية، وضربت ذلك الشخص أمام جميع سكان الحي كي يعلموا أن من يتجرأ على التنمّر على شقيقي سيلقى ردة الفعل نفسه.
للأسف، بات منير بعد تلك الحادثة منعزلاً بشكل كامل في غرفته. لم يقبل التحدث مع العائلة وأمام الناس، وأُصيب باكتئاب حاد لم تفلح معه محاولات العائلة لإخراجه من عزلته، لكنه حين طُلب لتأدية الخدمة الإلزامية في الجيش قرر فجأة كسر تلك العزلة والذهاب للجيش هروباً من واقعه، وتحدث مع عمي ليؤمن له خدمة عسكرية مريحة مراعاة لوضعه النفسي.
هروب فاشل
لم يكن هروب منير إلى تأدية الخدمة الإلزامية مفيداً كما توقع، فبعد أشهر قليلة تعرّف أحد أولاد حارتنا عليه في إحدى القطع العسكرية في ريف دمشق، وأخبر ذلك الشخص قصة منير لعساكر وضباط.
"تعرّض منير للتنمّر أثناء الخدمة، كما تعرّض للتحرّش، وفي إحدى المرات ضرب أحد المتحرشين بقسوة فسجنه الضابط المسؤول شهراً".
تعرّض منير للتنمّر أثناء الخدمة، كما تعرّض للتحرّش، وفي إحدى المرات ضرب أحد المتحرشين بقسوة فسجنه الضابط المسؤول شهراً إلى أن أخرجه عمي من السجن وطلب تسريحه بسبب "الوضع النفسي"، وبالفعل سُرّح منير وعاد إلى المنزل.
منذ تلك اللحظة حتى الآن، ظلّ منير حبيساً في عزلة طويلة، وقد أصبح حملاً مادياً ومعنوياً ثقيلاً، خصوصاً أنه يدمن أدوية مهدئة ومضادات اكتئاب مكلفة الثمن في وضع اقتصادي سيّىء للعائلة.
أنا تزوجت وخرجت من منزل العائلة بعد أن يئست من محاولة إخراج منير من غرفته، لكنني أزوره كل يوم وأطمئن عليه.
في الأشهر الأخيرة بدأ يتحسن تدريجياً ويبادلني الحديث أحياناً ثم يعود إلى صمته الطويل. عودته للحديث معي مؤشر جيد وآمل في المستقبل أن يتحسن ويتجاوز المحنة الطويلة.
هذه الشهادة كتبها فريد شاكر بناءً على مقابلة مع أحمد، شقيق منير (اسم مستعار).
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ يومينحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 5 أيامtester.whitebeard@gmail.com