كانت حفصة، تصور فيديوهات لأمها وهي تغني باللغة النوبية، وتشارك الأمر مع أصدقائها على صفحتها على "فيسبوك"، وحينها وجدت تفاعل أصدقائها، وسؤال بعضهم عن معاني الكلمات، ثم بدأت بترجمة الأغاني وشرح الكلمات بالعربية.
وبعد مرور عام، استطاعت حفصة إمبركاب، من أسوان جنوب مصر، أن تجمع كلمات من اللغة النوبية، اندثرت أو قاربت الاندثار، في كتيب على غرار قاموس اللغة، وذلك للمساعدة في حفظ اللغة التي ينحصر متحدثوها في النوبيين.
في منتصف 2019، شاركت حفصة في ورشة عمل لإنتاج الأفلام الوثائقية في القاهرة، وكانت خلال 7 أشهر تأتي من أسوان إلى القاهرة العاصمة، لتتدرَّب على التصوير والكتابة، وكيف تصبح مؤثرة على منصات التواصل الاجتماعي، وفي نهاية الورشة استطاعت إنتاج فيلم عن فنّ الكفّ النوبي الذي يمتاز بالارتجال، لكن قبل كتابة السيناريو، زارت أكثر من قرية في مدينة نصر النوبة في محافظة أسوان، وخلال التسجيل اصطدمت ببعض المصطلحات النوبية التي لم تعرفها أو تفهمها، على الرغم من اتقانها للنوبية.
"لم أفهم كلمات كبار السن"
تقول حفصة لرصيف22: "وأنا أجري اللقاء مع بعض فناني الكفّ، سمعت كلمات من كبار السن لم أفهمها، بالرغم من حديثي النوبية، إلا أن هذه الكلمات كانت غريبة، وبدأت أسأل: ماذا تقصد؟ وبدأ يبسط لي الكلمات، واكتشفت أن هناك مصطلحات عدة، لم تنتقل إلى جيلنا الحالي من الأجيال التي تجاوزت الستين عاماً".
بعد حديث حفصة مع والدتها، وقارئي الكف النوبيين، لم تفهم معاني بعض الكلمات، فكرت هل ستنتهي كلمات أخرى عند جيلنا ولن تنتقل إلى الجيل المقبل، ومن ثم تندثر اللغة بالكامل؟
ما أثار اهتمام حفصة في الأمر أن تلك الكلمات استبدلت بكلمات عربية، وشعرت أن الأمر مقلق، وفكرت هل ستنتهي كلمات أخرى عند جيلنا ولن تنتقل إلى الجيل المقبل، وتقل تدريجياً الكلمات النوبية، ومن ثم تندثر اللغة بالكامل؟
شهدت قرى النوبة تهجيراً على مراحل عدة، بداية ببناء خزان أسوان عام 1902، حتى سنة 1963 أثناء بناء السد العالي، ومن حينها بدأت هجرات أبناء النوبة إلى القاهرة والدول الأجنبية للعمل، وللبحث عن سبيل بعد فقدان الأرض، وخلال الهجرات ونتيجة الاختلاط، تم استبدال اللغة النوبية، إما باللغة العربية أو بأخرى أجنبية.
وبدأت في تجميع فريق عمل في كل قرية نوبية، ينسق التواصل مع الضيوف والمصادر.
بدأ الفريق بزميلتها فاطمة أدار، ولحقها 44 متطوعاً في كل قرى النوبة.
مبادرة "كوما وايدي" التي دشنتها حفصة ليست الأولى لحفظ اللغة النوبية، لكن سبقها الباحث النوبي مكي على إدريس، والمفكر النوبي خليل عيسى، اللذان دشنا أول "قاموس باللغة النوبية"، وصدر عام 2015 بمركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية بالرياض، لكن الفارق أن حفصة لم تجمع كل الكلمات النوبية، وقصرت "كوما وأيدي" على الكلمات المندثرة والتي استبدلت بأخرى عربية.
توثيق ونشر مفردات نوبية
كانت "كوما وايدي" أي حكايات التراث، طريق انطلاق حفصة، إذ بدأت في أواخر أغسطس 2019، بتوثيق الكلمات عن طريق الهاتف المحمول، وذلك مع رجال ونساء في 4 قرى نوبية بأسوان.
رحلة توثيق "كوما وايدي" كانت في 4 قرى نوبية جزيرة هيسة، جزيرة أسوان، قرية أمبركاب وقرى وادي كركر، وتحدثت مع 15 فرداً تجاوزت أعمارهم الستين.
وخلال التسجيل، نمت في عقلها فكرة أن تنقل مشروعها إلى الورق، واختارت نحو 230 كلمة من أصل ألف كلمة، وفي ديسمبر بدأت توزعها على الأصدقاء، وعلى الفنادق والمحال التجارية، حتى تساعد على نشر اللغة النوبية بين السياح، وحتى تساعد بعض النوبيين على حفظ تراثهم، إذ تقول إن غالبية الشباب النوبي الحالي يحفظ الأرقام لحد 10، واستطعنا إضافة حتى الرقم 20.
وتقول حفصة: "طبعت الكلمات على ورق وترجمتها بمساعدة اثنين من الأصدقاء، إلى الإنجليزية والإسبانية، لأن عدداً كبيراً من السياح إما يتحدثون الإنجليزية أو الإسبانية، ونزلت على قرية غرب سهيل، التي تقع في منتصف النيل، ووزعت الكتيب على أصحاب المحال التجارية والفنادق، ولاقت التجربة إقبالاً كبيراً منهم، واكتشفت أن السياح من العرب والجنسيات الأخرى طلبوا أكثر من مرة تعليم كلمات نوبية أو كتابة كلمات نوبية، لكنهم لم يستطيعوا فعل ذلك بسبب كثرة العمل".
تعاملت حفصة مع جنسيات عدة، عرب ومصريين، وكانت تحصل على رد فعل الجمهور في القرى النوبية، واقترح عليها البعض توثق الكتيب وطباعة نسخ بمبلغ مالي بسيط.
"القيف" الجزيرة المنسية
خلال جلستها مع ضيوفها، كانت تترك لهم الحديث دون قيود، إذ تقول لهم تحدثوا عما تشاؤون، عن أي شيء. توضح حفصة: "أحدهم كان يحكي لنا عن طفولته وذكرياته مع بناء السد العالي، وكيف كانت حياته في القرية أثناء الفيضان، توجد امرأة تحدثت عن بناء الخزان وكيف كانت قراهم وشكل الأحجار الضخمة التي وصلت لبناء السد، وذكرياتها بعد صعود القرى النوبية إلى الظهير الصحراوي".
قبل بناء السد العالي في عهد عبد الناصر، كانت هناك جزيرة تتشكّل بعد الفيضان وسط النيل، تستقبل طيوراً كل عام، سماها النوبيون "القيف"، والآن اختفت الكلمة، والجزيرة
أورد الكتيب كلمات تصف عادات نوبية خاصة اندثرت، على سبيل المثال لا الحصر، قبل تهجير النوبيين من مكانهم خلال بناء السد العالي 1963، كانت تتكون جزيرة بعد الفيضان كل عام من الطمي وسط النيل، وتظهر عليها بعد أيام نباتات خاصة، وتستقبل أنواعاً معينة من الطيور خلال الهجرات، بحسب حفصة، كان يطلق عليها بالنوبية "القيف"، واختفت الكلمة بعد التهجير لعدم رؤية تلك الظاهرة في القرى التي هُجر إليها النوبيون.
تتابع حفصة: "الفكرة أن يتحدثوا بأريحية، لأننا نريد أن نوثق كلمات غير معتادة، بدون أسئلة عن شيء حتى لا يشعروا أنهم مقيدون".
وبجانب مبادرة توثق الكلمات النوبية في كتيب، استطاعت حفصة أن تشارك بفيلم عن علاقة النوبي مع النيل، وفازت بالمركز الثاني كأحسن سيناريو في مهرجان "أيكون" في ديسمبر 2019، وتناول الفيلم تعليم الأطفال السباحة، والاحتفال بمجيء الطفل بالاستحمام بالنيل، وأرادت توصيل رسائل غير مباشرة من الفيلم، منها أن النوبيين يهتمون بالنيل، لذلك دائماً ما يكون صافياً.
تقول حفصة، إن صعوبة الكلمات تكون في النطق، وعدم تمييز الكلمة بالسمع لأي شخص غير نوبي، أما النوبي ربما يجد كلمات غير معروفة بالنسبة له، وتشير إلى أن اللغة النوبية إذا كتبت بالإنجليزية ستنطق بشكل صحيح، على خلاف الكتابة بالعربية، وتعتقد أن الكتيب يساعد غير النوبي على فهم بعض المفردات النوبية، وأن يتواصل مع النوبيين، سيجد فيها أفعال مثل "قل، نام"، ومن يريد ذلك سيتعلم الأمر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.