قبل ستة وعشرين عاماً مضت، وعلى قارعة الطريق، عُثر على طفل صغير، أشقر الشعر وذي وجه مسطح، لم يكن يبلغ من العمر آنذاك بضع ساعات، احتضنته جمعية "راهبات المحبة دير منصور" (CRECHE) في مدينة بيت لحم في فلسطين، وأطلقت عليه اسم "فراس".
عاش فراس في جمعية راهبات المحبة ستين يوماً، واعتبروه هناك محظوظاً لأن عائلة احتضنته من مدينة الخليل، لتخرجه من الجمعية ويصبح ابناً لها بالتبني.
ولكن بعد وفاة الرجل الذي تبنَّى فراس، أخبره أقرباؤه أنه ابن بالتبنّي، ومنعوا عنه الميراث، صُدم فراس، وخاض رحلة بحث عن أهله الحقيقيين.
"منعوه من الميراث، وأخبروه أنه لم يكن أباه".
يقول الأخصائي الاجتماعي في جمعية راهبات المحبة، اسكندر أندون: "بدأ فراس عملية بحثه عن والديه الحقيقين في شهر يناير 2014، أخبرته أنه يجب أن يرفع كتاباً للوزارة لتساعده بالأمر، وبالفعل عاد بعد أسبوعين ومعه الكتاب، قمنا بإعادة صياغته سوياً وأرسلناه إلى الوزارة".
حسب المادة (1) من قرار مجلس الوزراء رقم (10) بنظام الأسر الحاضنة لسنة 2013، فإن الطفل مجهول النسب: "هو الطفل مجهول الأبوين، إما يكون عُثر عليه على قارعة الطريق، أو أمام مسجد أو كنيسة، فيكون كلا الأبوين غير معروفين، أما الطفل غير الشرعي فهو الطفل المولود عن طريق علاقة غير شرعية وخارج إطار الزواج، كأن يكون الطفل نتيجة علاقة سفاح قربى، أو علاقة غير شرعية تكون فيها الأم مجبرة ومرغمة عليها، ففي هذه الحالة يكون الأب أو الأم أو كلاهما معروفين".
انتحار فراس
يضيف أندون، حسب ملف فراس في الجمعية، كان مجهول الأبوين، وللأسف الشديد لم يتمكنوا من فعل أي شيء، آخر مرة رأيت فيها فراس كان منهاراً جداً، نصحته بالتعاطي مع مستقبله، وأن ينتقل له، ولا يجعل الماضي يشده للخلف، لكن للأسف كان فراس يمرُّ بضغوطات نفسية، وأوقات عصيبة، فمن جانب، ألسنة المجتمع التي حملته ذنباً لا علاقة له به، ومن جانب آخر، أقرباء والديه بالتبني الذين ضغطوا عليه بسبب الميراث، ففي مساء الخامس من مارس عام 2014، وجد فراس أن أسهل حل هو أن يشنق نفسه وينهي حياته بالانتحار.
عاش على أساس أنهما أبواه البيولوجيان، ما سبب مشاكل، وصدمات عاطفية، ونفسية له، جعلته يفقد الثقة بمن حوله، وشعر كأنه خُدع من الجميع ما جعله ينتحر"
يفسر أندون اختيار فراس للانتحار كحل لما كان يعانيه نفسيا: "لم تتم رعايته بشكل صحيح، ولم يتم إخباره منذ الصغر أنه ابن متبنى، وعاش على أساس أنهما أبواه البيولوجيان، ما سبب مشاكل، وصدمات عاطفية، ونفسية له، جعلته يفقد الثقة بمن حوله، وشعر كأنه خُدع من الجميع ما جعله ينتحر".
أنهى فراس حياته، وقبل أن ينتحر كتب آخر كلماته على حسابه في "فيسبوك"، كما تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي آنذاك: "ليش يا دنيا أموت وأنذل قدام العلن، لا أخ اتسند عليه، ولا أخت تحضني بحنان، ولا حد اشكيلو همومي غير نفسي والحزن، زهقت يا دنيا وحيد، وبالموت ما حد رح يحمل الكفن.".
عملية التبني
في زيارة خاطفة لجمعية راهبات المحبة، رأيت أطفالاً يركضون بالممرات، يمرحون ويلعبون متناسين أحزانهم، لكن ما هز أحاسيسي ومشاعري كلمة من طفل امتلئ وجهه بالبراءة، ما زالت ترنُ بأذني: "بدي إمي". أطفال في أسرّتهم، منهم من يحملق في الفراغ، أو غارق بالنوم والأحلام، أو لعلها الكوابيس، ومنهم من يبتسم إذا ما داعبته وضحكت له، وآخرون في حصصهم الصفية يدرسون، ومنهم من يرى فيك المنقذ، معتقداً أنك قادم لاحتضانه، وضمه ليصبح جزءاً من عائلتك.
يشرح الأخصائي الاجتماعي في مديرية التنمية الاجتماعية محمد أبو صبحة، لرصيف22، كيف تتم عملية التبني، أنه عندما يتم العثور على طفل، تبلغ بالأمر شرطة حماية الأسرة والنيابة العامة والتنمية الاجتماعية، ومن خلال التنمية الاجتماعية يتم تحويله لمراكز الرعاية، ويأخذ هذا الطفل اسماً رباعياً وهمياً في السجل المدني، بشكل قانوني ورسمي من وزارة الداخلية، ويضيف أنه يتم محاولة التأكد من نسب هذا الطفل قبل اتخاذ أي إجراءات أخرى، ويتم البحث عن أي عناصر قوة تخدم مصلحة هذا الطفل، ويؤكد أن وجود قسم مستقل بحد ذاته في الوزارة مهتم بالأطفال، فهذا يعني أن هناك اهتماماً واضحاً وظاهراً بهذه الفئة.
حسب التقرير الإحصائي السنوي لعام 2017 من وزارة التنمية الاجتماعية، بلغ عدد الأطفال مجهولي النسب وخارج إطار الزواج الشرعي منذ العام 2010 ولغاية عام 2017، والذين تم التبليغ عنهم في مديريات التنمية الاجتماعية، 73 طفلاً، أعلى نسبة 18% كانت في عام 2015 وأقلها 8% في عامي 2013 و2017، وأعلى عدد للأطفال المحتضنين كان في 2017 بنسبة 11 طفلاً محتضناً، بينما كانت نسبة الذكور المحتضنين أعلى من الإناث بنسبة 62%، وكانت مدينة نابلس أكثر المدن احتضاناً للأطفال بنسبة 21%.
"أنت ابنة مين؟"
على النقيض من فراس كانت استجابة آية (38 عاماً)، والتي بدأت قصتها في ثمانينيات القرن الماضي، حيث احتضنت هذه الجمعية طفلة مجهولة النسب لم تبلغ عامها الثاني، وكأي طفل يأتي بهذه الظروف وحسب القانون، أطلقوا عليها اسماً وهمياً رباعياً.
عاشت آية حتى عمر الخمس سنوات في جمعية "راهبات المحبة"، لم تكن من الأطفال المحظوظين الذين نالوا فرصتهم بالاحتضان من عائلة، انتقلت بعد ذلك للعيش في قرية الأطفال SOS حتى مرحلتها الإعدادية في المدرسة، وبدأت آية رحلة الاستقلال الذاتي والاستقرار المادي بعد الانتهاء من دراستها الجامعية.
يعلق الأخصائي النفسي في جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني، موسى أبو جرايش، عن أهم الأعراض النفسية التي يتعرض لها الطفل مجهول النسب، أبرزها الشعور بتدني الذات، ويكبر معهم هذا الإحساس كلما كبروا في حياتهم، كما أنه من الممكن أن يصل إلى الاكتئاب، وكل ذلك يعود بالدرجة الأولى للرعاية التي يتلقاها الطفل منذ صغره، فلكما كان هناك نقص في الرعاية والاحتضان، يكون الطفل غاضباً على المجتمع وعلى التشريعات، وقد يفقد الطفل العلاقة ما بين الجسد والذات، ما يجعله عدوانياً مع من حوله.
"لا أستطيع الزواج، أو الارتباط بسبب المجتمع، في كل مرة يسألوني عن أهلي، وأني أعيش لوحدي في منزل مستقل، حتى في عملي يسألوني أنت ابنة مين؟"
منذ عمر الخامسة عشر، تدربت آية على العمل خارج إطار مؤسسات الرعاية، ولكن رغم نجاحها في استقلالها، ظل المجتمع بنظرته لها ولأمثالها من مجهولي النسب يشكل أكبر عائق.
تقول آية إنها لا تستطيع الزواج أو الارتباط بسبب المجتمع، لأنه يتم سؤالها عن أهلها في كل مرة، كونها تعيش لوحدها في منزل مستقل، أو حتى في ظروف العمل الطبيعية، يتم سؤالها أنت ابنة من؟
"في أول سنوات بعد تخرجي عملت بثلاث وظائف حتى أستطيع توفير لقمة عيشي وإيجار مسكني، في الأعياد والمناسبات دائماً ما أتذكر حقيقتي، خصوصاً في عيد الأم، وهناك موقف لم أنساه أبداً في حياتي عند تخرجي من الجامعة، عندما رأيت أهالي زملائي وزميلاتي، بالرغم من أنها فرحة العمر إلا أنني شعرت بحزن شديد".
"جزء محذوف من ذاكرتي"
تعتبر جمعية راهبات المحبة الوحيدة والفريدة من نوعها في فلسطين، لاحتواء هؤلاء الأطفال ورعايتهم من عمر يوم حتى 5 سنوات، فهي موجودة في فلسطين منذ 140 سنة، ولديها 46 طفلاً مقيماً إقامة دائمة داخلية، كونهم مجهولين النسب، و51 طفلاً خارجياً من قضايا الحالات الاجتماعية الأخرى، وفي عام 2019 احتضنت 10 أطفال مجهولي النسب وغير شرعيين، وتوفر مربية لكل 6 أطفال ومعلمة لكل 10 أطفال، وأطلق عليها اسم CRECHE وهي كلمة فرنسية معناها المهد الذي ولد فيه المسيح، أو دار الحضانة.
باتت آية معلمة لأطفال كانت مثلهم ذات يوم، وفي نفس المكان والمقعد والسرير، فهي تعمل معلمة منذ 13 عاماً لأطفال جمعية الراهبات: "لا أذكر طفولتي ولدي جزء محذوف من ذاكرتي، لكنني أشعر جيداً بهؤلاء الأطفال، لأنه مهما كبر الإنسان ستمر عليه فترة ويشعر أنه بحاجة لأم وأب وعائلة، لا يوجد من يسد هذا الفراغ مكانهم".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين