اللوحة كتجربة وعي بالقيم الثقافية والبصرية من حولنا
"Anamnesis" هو عنوان المعرض الذي يقدمه الفنان التشكيلي السوري محمد المفتي في صالة أوربيا- باريس. "أنامنيزيس" هو مصطلح فلسفي- معرفي، ذكره أفلاطون في محاوراته، المفهوم يميل للاعتقاد بأن المعارف سابقة على ولادة الإنسان، لكنه مع ذلك يحتاج إلى عملية التعلم لاكتشاف هذه المعارف والتواصل مع ذاته الأصلية، وهذا ما يتطلب من الفرد الشك وتفكيك السياقات الثقافية للقيم التي تحكم طرق تفكيره وتؤثر على ممارسات حياته.
فهو يصف أعماله الفنية بأنها إعادة استكشاف الذاكرة الجماعية وبقاياها عبر تفكيك وإعادة تفسير الرموز والمعاني الموروثة منها. يكتب الفنان في البيان الخاص بالمعرض: "في عملية إعادة بناء ذاكرتنا، يفترض أن هناك أسئلة أساسية يجب علينا أن نطرحها: ما هي أشكال ذاكرتنا الجماعية؟ ما هي قيمها ورموزها اليوم؟ ماذا بقي منها؟
ثماني لوحات زيتية متنوعة الأحجام، يركز فيها الفنان على مشاهد، مكونات، وظواهر من الثقافة البصرية لمدينة دمشق. نماذج مختارة من قبله، يراها ملائمة لدفع المشاهد للتفكير وإعادة التأمل بالفكر الجمالي، وبالتالي السياسي والإيديولوجي، الذي أنتج هذه الظواهر العمرانية المدينية، وأثرها في الممارسات الثقافية. ففي لوحة بعنوان "مدرسة البعث النموذجية"، يظهر بناء المدرسة بألوان ترابية مع الأبيض والأخضر، ليبين مقدار التماثل بينها وبين الأبنية العسكرية، فيصورها كبناء مصمت، بنوافذ أقرب إلى السجن، ويضفي على حضور البناء السكون المثقل في اللوحة. لاتكتفي اللوحة بإثارة أسئلة البناء، بل أن العمارة هي فاتحة للتساؤل عن مناهج التعليم، وبالتالي، يضع أسلوب التعليم كله موضع المساءلة. يقول محمد المفتي عن هذه اللوحة: "هي ليست مدرسة في مكان محدد، بل هي نموذج للأبنية والمفاهيم المعمارية التي تتشكل فيها الثقافة السورية".
في لوحة "سبورة المدرسة" التي تعود للعام 2016، يرسم محمد المفتي منظور ما تراه عين الطالب في الصف، تظهر في اللوحة طاولة المعلمة، ومن خلفها السبورة، هي ألوان يعرفها طلاب المدارس السوريون، على اللوح كتب بالطبشور الأبيض: "من أقوال القائد الخالد..."، اللوحة تمنح الناظر إليها القدرة على إدراك العالم التربوي الذي تشرب قيمه الفكرية وخصوصاً البصرية. لا تحمل السبورة أية معلومات علمية أو تربوية، بل هي مكرسة لمقولات السلطة وتدجين الطلاب بالشعارات، والأهم تجريدهم من القدرة النقدية لما حولهم. في فيلمه الأخير "طوفان في بلاد البعث، 2003"، ركز المخرج عمر أميرالاي على المدرسة، من مناهج التعليم، إلى تكوين شخصية التلميذ، وكذلك مرر العديد من لقطات الكاميرا التي تشرح وجهة نظره بالبناء المدرسي، مركزاً على الحديد الذي يغلق الشبابيك. في فيلمه "ذاكرة باللون الخاكي، 2016"، يسعى أيضاً المخرج الفوز طنجور لنقد الذائقة العسكرية الحربية التي تلاحق الطلاب السوريين، في الملبس وفي المواد المدرسية. لوحات محمد المفتي تتابع الآلية ذاتها، تظهر لنا البناء المعماري لتدفع إلى الشك بالمضمون.
في لوحة بعنوان "حكم السادس"، يظهر بناء شهير في مركز العاصمة دمشق، هو مبنى يلدغا، بدأ إنشاؤه في السبعينيات من القرن الماضي، كرمز للتقدم ولنجاح قيادة السلطة للمجتمع، إلا أن المبنى لم يكتمل حتى اليوم، ليتحول المجمع الإسمنتي إلى شاهد على ركود الزمن ودليل على الفشل. يختار محمد المفتي هذ البناء النموذجي للتعبير عن فشل التجربة الثقافية وبالتالي السياسية، نتلمس السخرية في اللوحة عند قراءة الإعلان الأخضر عند الطابق الأخير: "40 عاماً نزداد شباباً"، وهو شعار شركة منتجات كهربائية سورية، لكنه مقلوب الغاية هنا، فيستعمل للتذكير على الفشل المستمر. أما عنوان اللوحة "حكم السادس"، فيتعلق بذلك الحمار الذي يضعه الرسام وحيداً عند الطابق السادس: "رسمتُ حماراً وحيداً على الطابق السادس، لا يرمز وجود هذا الحمار إلى الإخلاص أو العمل الجاد، بل إلى العناد".
"في عملية إعادة بناء ذاكرتنا، يفترض أن هناك أسئلة أساسية يجب علينا أن نطرحها: ما هي أشكال ذاكرتنا الجماعية؟ ما هي قيمها ورموزها اليوم؟ ماذا بقي منها؟"
بعد العام 2011، برزت الدراسات التي تعيد تفكيك الثقافة السورية والتاريخ السوري، منذ السبعينيات وحتى الوقت الراهن. في كتابه "لغة الثورة السورية"، عمل الباحث إيلاف بدر الدين، على تحليل الأغاني والأناشيد والموسيقى الوطنية التي تبثها مناهج التعليم السورية، والتي تخضع لها الثقافة المجتمعية. المصور الفوتوغرافي علاء حسن، وثق في كتابه "قلعة الكرتون" التغيرات البصرية التي عاشتها سورية، من مرحلة الجفاف إلى ختام حكم الرئيس حافظ الأسد، ومن المظاهر البصرية والإعلانية تمهيداً لإستلام الرئيس الحالي السلطة في عام 2000. المقصود أن الثقافة السورية منذ العام 2011، وهي تخضع لإعادة تأمل تفكيكي-نقدي، يكشف شمولية القيم وهشاشة المعتقدات، عبر الفن والدراسات يعيد المجتمع مساءلة البديهيات التي تشكل الثقافة. هذه المرحلة، أي إعادة تفكيك ثقافة الماضي، هي عملية قاسية، كل ما يكشف عن استلاب في الماضي يكون قاسياً، ولكنها مرحلة تكسب مهارات التساؤل والشك للمستقبل، يرى سارتر أن لحظة الوعي هي لحظة تراجيدية، هكذا هو أثر لوحات محمد المفتي التي تكشف لأعيننا عن استلابنا لعمارة، جماليات وهندسيات لم نفكر ببنية تأسيسها، أو تأثيرها على الثقافة والوعي، وها هو أسلوب الرسام يضعنا أمام هذا الاختبار.
في لوحة رسمها الفنان العام 2016، غير مشاركة في المعرض، تحمل عنوان "كلمات، كلمات، كلمات"، تضم ثلاث حاويات بلاستيكية خضراء اللون للقمامة، مهملة عند حائط في المدينة، تعتادها العين فلا تنتبه لما كتب عليها، ولأن الشعارات التي كتبت عليها هي أيضاً كلمات معتادة، مبثوثة بكثافة، حاضرة دوماً في المشهد البصري، فإن العين – الوعي، لا يولي أهمية لها، إلا حين يكتشف المفارقة والسخرية على علب القمامة البلاستيكية، كتبت شعارات كأن أوانها قد زال: "وحدة، حرية واشتراكية".
في لوحة "شعارات على جدار سوق دمشقي"، تحتل المحلات التجارية الأبنية الأرضية بمحاذاة الشارع، وفي أعلى اللوحة، يظهر نوعان من العمارة، عمارة دمشق القديمة، وبجانبها عمارة أخرى تشكلت في الثمانينيات من القرن العشرين، لقد وجد الرسام بهذا المقطع العمراني مايعبر عن المدينة التي تدور لوحاته في فضائها. لكن الجدران حملت عبارات تشير إلى الحدث السياسي والاجتماعي الذي يجري في هذه الأثناء: "بدنا حرية، يسقط الجميع، حاميها حراميها"، وهناك عبارات أكثر شعرية عن قدوم الشمس وحب الصباح، وهناك تلك العبارات التي ترغب استمرارية الحياة: "لا أريد أن تسقط علي القذيفة قبل أن أقبّل جارتي"، في هذه اللوحة تتضح إحدى تقنيات الرسام المتعلقة بالإحساس الذي تبثه اللوحة، وهي إضفاء على الحدث الآني أو المعاصر المصور في اللوحة، ما يشبه خواص الذاكرة أو التاريخ. اختيار الكتل اللونية، توزيع ضربات الريشة، والتعامل مع سطح اللوحة، كل ذلك يمنح العين المشاهدة إحساساً بأنها أمام قماش غائر القدم، والأهم بأنها أمام صورة مطبوعة في الذاكرة وفي التاريخ على السواء.
في لوحة "الوضع الراهن"، تبرز التراكيب المشهدية والبصرية المتعلقة بالحرب. لم تعد الأبنية مرسومة بالكامل، نقصانها تعبير عن الدمار، الإنعكاس الظاهر على أسفلت الشارع يضيف الفوضى التي توضح خواء المكان، باص أصفر عند أسفل ويمين اللوحة، اللمسات الأخيرة في رسم الباص توحي باحتراقه، بالخراب، ومن فوقه نلاحظ الضربات اللونية القريبة إلى التجريد. مع هذه اللوحة يدخل عنصر التجريد كمحاولة للتعبير عن أثر الحرب، آثار الدمار أو تداخل الأشكال والأبنية وتوهانها بين الاكتمال وعدم الانتهاء.
هذا ما ينطبق أيضاً على لوحة "حفلة موسيقية لكمانين ودبابة"، مع تجسيد الدبابة بحضور مسيطر، تتحول خلفية المدينة/ الحياة إلى فوضى ثانوية، لا أهمية لتشكيلها أو رسمها بعناية، المدينة/ المشهد هي اضطراب للعين لا معنى له، فالمعنى كامن في طغيان الدبابة بتفاصيلها. هذه الثنائية: سلاح واضح، مشهد بخطوط متداخلة، يدين عبرها الرسام الخراب، الدمار وانهيار المجتمع، لكن ليس انهياراً عمرانياً فقط، بل يصل الانهيار هنا إلى البصر، إلى العين الناظرة، الحرب تدمر الروابط بين الأشكال وقدرات الناظر على إنتاج معنى.
تحضر في لوحة "هدنة برعاية الواقي الذكري"، بندقية كلاشنكوف، ونلمح واقياً ذكرياً بلون أزرق، نرى بجانبه حذاء نسائياً أحمر اللون، حيث تترك البندقية مهجورة لصالح لقاء جسدي بين جندي وامرأة... السلاح يخبو أمام التواصل الجنسي
السلاح، بندقية الكلاشينكوف تحديداً، تحضر في لوحة أخرى، مسنودة إلى جدار هامشي فوق صندوق حديدي للذخيرة، نلمح عليه واقياً ذكرياً بلون أزرق، نرى بجانبها حذاء نسائياً أحمر اللون، تحمل هذه اللوحة عنوان "هدنة برعاية الواقي الذكري"، في هذه اللوحة حكاية، حيث تترك البندقية مهجورة لصالح لقاء جسدي بين جندي وامرأة، السلاح يخبو أمام التواصل الجنسي أو العشقي. دور الواقي الذكري الأزرق هو النقيض الموضوعي للدبابة في اللوحة السابقة، الواقي الذكري هنا احتمال لتطوير حكاية عشق أو على الأقل حكاية لقاء، كأنه يفرض الهدنة بين حربين، في هذه اللوحة حكمة نهاية حكاية، اللقاء، الجسد، الجنس يوقف القتل، ويترك السلاح مهجوراً لبرهة.
في العام 2015، عمل الفنان محمد المفتي على مجموعة لوحات بعنوان "العرش"، قارب فيها بين المرحاض والعرش. يجلس على كرسي العرش إنسان يرتدي بدلة، لكن رأسه استطال وتحول إلى مرحاض. العرش الذي هو مركز الملكية والحكم، يجاور المرحاض أداة الهامشية والازدراء.
تتميز أعمال محمد المفتي في هذا المعرض، بدفع اللوحة لتكون تجربة وعي للناظر إلى تكويناتها التشكيلية من جانب، والمضامين الفكرية التي تثيرها في الذهن، بغاية نقد الثقافة المحيطة بنا وظواهرها المختارة. هي مغامرة حتى لو صورت اللوحة القباحة: أبنية لم تكتمل، قمامة، مرحاض، لأن الغاية في المقابل، حث الذهن للتساؤل والتفكير بتلك القيم، المعتقدات، وحتى الجماليات التي تشكل العالم والفكر من حوله.
في لوحة "مدرسة البعث النموذجية"، يظهر بناء المدرسة بألوان ترابية مع الأبيض والأخضر، ليبين مقدار التماثل بينها وبين الأبنية العسكرية، فيصورها كبناء مصمت، بنوافذ أقرب إلى السجن
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...