نظّمت مجموعة من الناشطات النسويات عام 1976، معرضاً يدور حول سؤال "ما هو الفن النسوي؟"، وأرسلن إلى عدد كبير من الفنانات بطاقات وردية صغيرة طلبن منهن فيها الإجابة عن هذا السؤال، وصلهن حينها أكثر من 200 رد، تنوعت بين نصوص وكولاج ورسومات، منها رد أرسلته الفنانة شيلا دو بيرتوفيل، تقول فيه إن الفن النسوي يعني التعرّف على النساء، وعلى تجاربهن الفردية، والسعي لخلق فضاء للتواصل بينهن، وتختم رسالتها بقولها: "الفن الذي هو حياتنا، هو الفن النسوي".
تجربة المعرض السابق أعيدت هذا العام من قبل أرشيفات السمثونين للفن الأمريكي، نقرأ في واحدة من الردود التي أرسلتها الفنانة كريستين دورسي ما يلي: "وُجد الفن النسوي على هذه القارة قبل زمن طويل من اختراع كلمة نسوية، لطالما كنا أمهات قويات، أمهات قبائل، وقادة قبائل، ورث أبناؤنا قبائلنا، كما ورثنا نحن عن أمهاتنا".
هناك كلام رومانسي في كلا الردين، لكن المشترك هو التركيز على تجربة المرأة ودورها في المجتمع، وهذا ما سعى إليه الفن النسوي، أما الإجابة عن السؤال السابق، فمن الممكن أن تكون على مستويين، الأول يرتبط بالمرأة والشكل والمضمون الفنيين الذين تختار عبرهما التعبير عن وجودها وذاتها، والثاني هو المواجهة مع المؤسسة الفنية وتاريخ الفن، ذاك الذي كتبه ورسخه ذكور، بيض، أغنياء.
الفن النسوي الذي يتحقق في مواجهة مع المؤسسة الفنية وتاريخ الفن، ذاك الذي كتبه ورسخه ذكور أغنياء
من الصعب اتخاذ قرار بإنجاز فن نسوي، بسبب المفهومين السابقين، إلى جانب آليات وجماليات وأساليب إنتاج "الفن" التي قد تتماهى مع "الذكورة" وتاريخها، خصوصاً في ظل رفض تصنيفات نسوي وذكوري للفن، بوصفه لا يرتبط بجنس مُنتِجه، لكن الخلاف ليس هنا، الخلاف يرتبط بخصائص المنتج الفني نفسه، ودور العمل الفني في مسائلة هذا التاريخ وأشكال التمثيل ضمنه.
الكلام النظري السابق يمكن شرحه ببعض الأمثلة، كعمل التجهيز الشهير "حفلة العشاء" للفنانة النسوية جودي شيكاجو، والذي يمكن وصفه ببساطة، ثلاثة طاولات على شكل مثلث، تحوي صحوناً على كل واحدة منها مهبل، أثار العمل ضجة واسعة، لكنه في ذات الوقت يمتلك قيمة نقدية ترتبط بتاريخ الفن نفسه، نحن أمام وجبة و طاولات مرصوفة، موضوعة متكررة في تاريخ الفن، من المقدّس إلى المنحط، والكس الذي يكون عادة بلا ملامح وتفاصيل، ويظهر كموضوع للشهوة، تحول إلى شكل واضح ومرئي، نحن أمام دعوة للالتهام، ذاك الخوف والرهبة التي تحوم حولها تمثيلات المرأة في تاريخ الفن أصبحت ظاهرة بوضوح وفي متناول اليد والعين، وهنا تكمن أهمية العمل، الفحش الذي يوظفه يتحدى التحديق الذكوري الذي يخاف من موضوع رغبته ويتجنبه، يجعل منه مقدّساً أو مخيفاً.
إن كان عمل شيكاجو يراهن على الشكل، أعمال بعض النسويات تراهن على المادة الفنية ومكونات العمل الفني، فكما تحفظ تخطيطات ومقتنيات الفنانين وتعرض في الصالات، هناك جانب مدنس لا يتم الحديث عنه، و هو جسد المرأة ومفرزاته، تلك المعيبة و المخيفة، ما دفع الكثير من النسويات لتوظيفها وعكس الموضوعات التي ترتبط بالمرأة والتي لا تظهر في الأعمال الفنية، كدم الحيض الذي خضع إثره جسد المرأة للنفي والتجاهل، بسبب الألم المضمن فيه وخصائص ثقافية تجد فيه دنساً وسبباً للموت، هذا التاريخ نرى نقيضه في بعض أعمال الفلسطينية منى حاطوم، مفرزاتها الجسدية تحضر ضمن إطارات معلقة على الجدران، هي تعيد الاعتبار لهذه المفرزات كجزء من تجربتها الشخصية، وتنتقد ما يحيط بها من سياسات أنتجت القمع، كما أن اقتحام هذه المفرزات للمؤسسة الفنية يعني إعادة النظر فيما هو "ثمين" و"رخيص"، لم خراء أحدهم يعتبر فناً وحيض امرأة ليس بفن؟
الأساليب السابقة تعكس أثر الذكورة على الفن وتبرز موقف الفن "النسوي" من المؤسسة الفنية والجماليات التي رسختها، لكن الأشد راديكالية يظهر مع فن الأداء، حيث يتحول جسد الفنانة نفسه إلى محط الجهد الفني، هذا الجسد الذي كان يظهر كموضوعة زينة أو رغبة في التاريخ الفني، اكتسب مع فن الأداء شكلاً آخر .
هنا نذكر حالة أورلان التي غيرت شكلها كلياً، وقامت بعمليات تجميل على الهواء مباشرة بثت ضمن المتاحف، إذ فتحت جسدها وكشفت داخله "الهيستري" للعلن، زرعت الرعب في عقول المشاهدين، وكسرت حتى التخيل الذي يمكن أن نمتلكه عنها، كما قاست الطرقات بجسدها وجعلت منه واحدة قياس، كون المتر ضبط لأول مرة بخطوات أرجل موظفين لدى الحكومة الفرنسية.
لا يمكن الإجابة عن السؤال السابق بمقال أو أسئلة بسيطة، لكن يمكن الإشارة إلى تطور الصراع النسوي الذي لم يعد يرتبط بالمُعيب أو المؤدّب، التعري وإظهار الجسد العاري تم تجاوزه منذ الثمانينيات، ما يهم واقتباساً من النظرية التي قدمتها الباحثة إليزابيث بوفينلي، هو الجهد الجمالي الذي يسعى لكشف نقاط التشبيك السياسية والثقافية، تلك التي تصنّف، تقمع وتعزل، سواء على مستوى الشكل أو المضمون، فالعمل الفني، يتجاوز كونه تعبيراً عن الذات، هو ملك للـ"عالم"، حاضر فيه ويعكس علاقات القوى ضمنه، وهنا تتجلى إمكانية وصفه، سواء من قبل تاريخ الفن أو الفنان نفسه الذي عليه أن يعي إن كان هذا المنتج نسوياً، وطنياً أو كويرياً، أو غيرها من الصفات السياسية أولاً ثم الجمالية
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين