في الأشهر السابقة، بدا وكأنني امتلكت نوعاً من أنواع المعرفة الاحترافيّة بشوارع وطرق مختصرة في المدينة الأوروبيّة التي أسكنها. وقد مدتني تلك المعرفة المصحوبة بروتين يومي بشعور ملكية لهذه المدينة. لكن حين تغرب الشمس وتلتحف المدينة حولي بعتمة الليل، يتبخّر في أحيان كثيرة إحساسي بالأمان.
بعدما كنت قد اعتقدت أنني متمكّن من شوارع تلك المدينة التي أوهمتني أنها لي، ازداد أخيراً عدم ارتياحي في الشوارع بالأخص بعد المرور بعدد من تجارب التحرش. وللأسف قصتي ليست فريدة من نوعها، فبعد مشاركة تجربتي مع عدد كبير من النساء والكويريين والمهاجرين في العاصمة الأوروبية التي أسكن فيها أكدوا لي أهمية الكتابة عن هذا الموضوع الذي يمسّهم أيضاً.
كأحد أفراد مجتمع الميم وكشخص عربي، لا يُعدّ التحرش ظاهرة جديدة بالنسبة لي. ولكن عندما عايشته في شوارع أوروبا، أكثر من مرة خلال أسبوع واحد، اختفت الفقاعة التي كانت قد منحتني إياها البلاد الجديدة لأرى الهالة الكاذبة من قيم التقبّل والتسامح.
خروجي من تلك الفقاعة دفعني للتحدث عن الموضوع، ليس فقط في الأطر الاجتماعيّة المُتاحة أوروبياً، بل كذلك مع الأقليات الاجتماعية المقيمة هنا. نحن، كمهاجرين ونساء وأفراد مجتمع الميم، نمرّ بتجربة مختلفة مقارنة ببقية أفراد هذا المجتمع. وبالرغم من وجود حوار مفتوح حول التحرش، لا أشعر - كمثلي ومهاجر وعربي ذي بشرة بنية - بحريّة التحدث عن ذلك الجزء من تجربتي اليومية.
في مواجهة الانتهاكات الجسدية والمضايقات اللفظية والعنف، كيف يمكن أن نسترجع الشوارع من المنتهكين؟ وكيف نستعيد حقنا في المدينة؟
التحرّش كطيف من عدم الارتياح
لوضع هذا الحديث في سياق ملائم، عليّ أن أشرح موقف من الثلاثة التي مررت بها في الأسابيع الماضية.
في ليلة عطلة رسمية ما، كُنت في نفق مشاة متوجهاً لمقابلة صديق في إحدى الحانات الكويرية الواقعة في منطقة ملأى بالمقاهي والحانات الليلية.
شعري الطويل البني كان مربوطاً فوق رأسي بينما كنت أرتدي قميصاً ملوّناً ومطرّزاً وحذاءاً شتوياً اعتقدت أنه سيعطيني نوعاً من أنواع الثقة في الشارع. هكذا اعتقدت على الأقل.
قبل وصولي لدرج الخروج، التقيت برجلين، أحدهما يقود دراجة، ومن الواضح أنهما في كانا في حالة من السكر. عندما اقتربت منهما انحرف الدرّاج باتجاهي وراح صديقه يصرخ بأعلى صوت "أنت يا لوطي!" ورحلا وهما يقهقهان انتصاراً لرجولتهما الفارغة التي خُدشت نتيجة وجودي أمامهما. بقيت أسمع قهقهاتهما حتى اختفيا، وأنا متجمّد فزعاً. لا أحد هناك لمساعدتي أو للشهادة على ما حصل.
في مدينتي العربية كانت تلك المضايقات جزءاً طبيعياً من يومياتي عندما أخرج من باب البيت، في المواصلات العامة المزدحمة أو عند ذهابي للكشك لشراء علبة دخان. لم أردّ يوماً على المهاجمين، وكنتيجة من الرعب اليومي الذي باتت شوارع مدينتي تُجسدّه، كما هو الحال بالنسبة لأفراد مجتمع الميم والنساء، ابتكرت طرائق إستراتيجية لأعيش حياتي اليومية عبر تجنّب هذا النوع من البشر.
كنت أختار ملابسي بناءً على المنطقة الذي سأذهب إليها، وكنت أخفي حلق أذني بشعري الذي بالطبع كان يستفز المجتمع حولي أيضاً. لكن في ذلك السياق، كنت أعرف الشوارع التي كان لزاماً علي تجّنبها والمناطق التي لا يجوز الذهاب إليها وحدي. وأهم من ذلك كان لديّ دوماً خطة للهروب إذا وقعت في موقف يُهدّد أمني الشخصيّ.
لكن في الغُربة، حيث لا أجيد اللغة ولا أعرف الشوارع جيداً لأتعامل مع المضايقات، أجد نفسي خائفاً معظم الوقت من الناس وعتمة الليالي. هل هربت من قمع لأجد قمعاً آخر؟ فإذا لم توفّر لنا بلادنا الإحساس بالأمان، بينما تأسرنا الغُربة أيضاً في بيوتنا خوفاً من شوارعها، إلى أين نذهب؟
ملابسي وهويتي ليستا للنقاش
سواء في مُدن عربية أم غربية، من يشعر بالأمان ومن يملك الحق بالمدينة هُم رجال ذوو بشرة بيضاء أو مغايرون جنسياً (heterosexual) أو يمتلكون هوية جندريّة متوافقة (cis-gender). ببساطة، تلك الفئات من الناس هي الأكثر قبولاً في المجتمع.
لست من أصحاب البشرة البيضاء وهويتي الجندرية تستفز مفاهيم المجتمع عن الجندر والجنس، ولذلك لا أشعر بنفس الأمان في المدينة الأوروبيّة التي أسكن فيها مثل الآخرين.
"تجارب التحرّش التي عايشتها في شوارع أوروبا جعلت الفقاعة التي كانت قد منحتني إياها البلاد الجديدة تتبخّر"… عربي كويري يتحدث عن تجربة عيشه في أوروبا ووهم المساحة الآمنة
"بقيت أسمع صوت قهقهاتهما حتى اختفيا من أمامي، وأنا متجمّد فزعاً"... عن عنصريّة أوروبيّة وعن بقايا نظام قمعي انتقل إلى أوروبا وادعى الاندماج والتحرّر
هنا أقف أمام مفترق طرق، بين تقبلي قسراً للموقف الحالي وبين اجتراح أساليب تتحدى الوضع القائم بدون خسارات حتمية مثل تغيير طريقة ملابسي أم تطبيعي مع العنف. ويا ليت الخيار كان بهذه البساطة.
أصعب ما فيه
ما أتعرّض له من تحرّش يأتي من فئتين: الفئة الأوروبية المتحفظة والمحافظة من جهة، وأفراد المجتمع من أصول وثقافات غير أوروبية (بالرغم من أنهم يرون أنفسهم كأوروبيين أو كمهاجرين مندمجين في المجتمع الأوروبي) من جهة أخرى.
ولكن لا بد من تشخيص هذا الشكل النمطي للمتحرش. أنا لا أراه فرداً محدداً من المجتمع بل ظاهرة، وذلك لتجنب وصم ثقافات محددة باعتبارها ثقافات تشجّع وتنتج متحرشين كما تفعل وسائل الإعلام الأوروبية مع بعض المهاجرين والثقافات غير الأوروبية.
في الشوارع والمساحات الترفيهية والأكاديمية والثقافية، أواجه التعميم العنصري والاستشراقية وعدم الارتياح بين الآخرين. وحتى في الأماكن التي تدعي أنها تتقبل الآخرين (مثل النساء والكويريين والمهاجرين) تم التعدي الجنسي عليّ من قبل.
وفي المساحات "المخصّصة لي" كشخص عربي في أوروبا، مثل مقاهي الشيشة ومطاعم الشاورما والحفلات العربية، أواجه بقايا المجتمع الأبوي والقمع وما تركت الوطن بسببه.
المبهج، لكن المخيف في آن، هو أني كعربي ومثلي لست وحدي في التجربة هذه، إذ هنالك عشرات من العرب والأتراك والآسيويين والأفارقة وغيرهم مروا بالتجربة نفسها. ويبقى السؤال: بعد صعوبات الهجرة والتأشيرات والمكافحة، ماذا نفعل؟
في ظلال الرجال وقمعهم
في ظل عدم وجود أمان دائم، يصبح أفراد الفئات الذين هم عُرضة للتحرش والمضايقات في الشوارع، وبالأخص في الليل، أكثر ضعفاً. فشوارع المدينة التي تلوّن جزءاً أساسياً من روتيننا اليومي تُصبح أكثر صعوبة.
كنت في تظاهرات الأول من مايو قد نزلتُ لأشارك مع المتظاهرين العرب. وسط الهتافات لسوريا وبلدان عربية أخرى، مرّت من أمامي امرأة قصيرة الطول والشعر وهي في حالة صمت.
بعد مرور بعض الوقت اختلطت مسيرتنا مع مسيرة أخرى، ورأيت المرأة نفسها تصرخ بأعلى صوتها في وجه رجل أبيض ضخم وملتحٍ. وقفت متجمداً مثل تلك الليلة في النفق ولكن ليس من الرعب بل من الدهشة.
الرجل لم يكن متحرشاً. أوضح لي الآخرون أنه هتف هتافاً عنصرياً وهذا ما أغضب المتظاهِرة. كانت دهشتي نابعة من قوة المرأة وعدم تراجعها بالرغم من ضخامة الرجل ودنو وجهه من وجهها.
زرعت في داخلي تلك المتظاهرة الجسورة فكرة: عندما ينتهكنا الرجال (لأنهم دوماً يكونون رجالاً) توقف حريتهم حريتنا الشخصية، ولنعبّر عن حالنا يجب أن نستعيد تلك الحرية، بالنبل حيناً وبالاحتيال حيناً آخر.
بعد قليل، وجدت المتظاهرة نفسها في طريقي مرة أخرى. ذهبت إليها وعانقتها ثم بدأنا نهتف معاً، بأعلى صوت، أنا بشعري المظفر واللون الزهري على أظافري وهي بشعرها القصير وصوتها القوي.
اندفاعنا هو الحل
عندما نتعرض للتحرش أو المضايقات في الشوارع نكون أمام خيارين عمليين: إما نرد على الأوغاد أو نكمل طريقنا آملين أن ينتهي الموقف بسرعة. هذان الخياران يُقيّداننا وقد يؤديان بنا إلى الشعور بالخجل أو العار من مظهرنا وسلوكياتنا.
بعد قليل، وجدتُ المتظاهِرة نفسها في طريقي مرة أخرى. ذهبتُ إليها وعانقتها ثم بدأنا نهتف معاً، بأعلى صوت، أنا بشعري المظفر واللون الزهري على أظافري وهي بشعرها القصير وصوتها القوي
بعد تفكير طويل قررت أن لا طريقة واحدة لتحدي المتحرش. في بعض الأحيان، تسمح الظروف بالرد على المتحرشين، وفي أحيان أخرى لا تسمح. في كل الأحوال، نحن - كأحد أهداف رماية المجتمع الأبوية والعنصري الذي نسكن به في أوروبا - لن نرتاح من التحرش والمضايقات.
بعد التظاهرة والتحدث مع كثيرين من حولي، وجدت رداً على سؤالي الذي طرحته في أول المقال: المحاربة لا تتقمص شكل كلمة أم صرخة واحدة فقط بل تأتي على شكل انتصارات عديدة وصغيرة سواء في تظاهرة أو خلال التعرّض للتحرش أو في إطار البرلمان أو العمل، وأينما كنا ليس علينا أن نجلد أنفسنا بالقتال بشكل مستمر، إذ لا نملك ترف الطاقة والأمان والدعم من حولنا بشكل دائم.
لنُحِط أنفسنا بأناس يمرون بالتجارب نفسها، من رجال ونساء ومهاجرين وأفراد مجتمع الميم، فإذ ذاك نجد قوتنا التي قد تُخفّف من وطأة المدينة المتمثّلة بالمحيطين بنا. هكذا يمكننا استرجاع شوارع المدينة كمساحة آمنة، أو أقل وحشيّة في الحدّ الأدنى.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين