يأتي هذا المقال ضمن الملفّ الذي أُطلق منذ شهر مارس/أذار 2020, في قسم "رود تريب" بـرصيف22، والمعنوَن: "داوِ الهمومَ بقهوةٍ سوداءِ... المقاهي العربية".
على بعد أمتار من مسجد السيدة عائشة بالقرب من ميدان السيدة عائشة، بمنطقة مصر القديمة في محافظة القاهرة، يستوقفكم هذا المقهى الذي بدأ بخمسة كراسٍ قبل أن يتحوّل بمرور الوقت إلى مقهى كامل، مخصّصٍ حتى صلاة العصر للمعزّين الذين جاءوا إلى المسجد أو حتى المساجد القريبة لتشييع قريب أو عزيز، فيما تتبدل الأحوال ليلاً قبل أن يعود في صباح اليوم التالي إلى ما كان عليه.
على أبواب المقهى تدهشكم طريقة محمود جابر (25 سنة)، في التعامل مع الحاضرين، فهو قادر على أن يواسيكم إذا كنتم من المعزّين، فيما ستتغير ملامحه 360 درجة إذا عرف أنكم جئتم إلى المقهى بمحض إراداتكم دون أن تضطركم ظروف وفاة واحد من الأحبّة إلى السعي إليه ربّما لدقائق معدودة غالبا لا تتكرّر.
يقول جابر، صبي القهوة: "تقريباً لدينا كلّ يوم زبائن من المعزّين، والكثافة تزيد بين الظهيرة والعصر، لأن أهل المتوفّى يحضرون بين الصباح والظهر، وتقلّ الجنازات في العصر. وطبعاً نادراً ما نرى معزّين في وقت المغرب أو العشاء لأن الكل يرفض فكرة الدفن ليلاً لأنها حرام، وأنا شخصياً سمعتُ أشخاصاً قبل ذلك كانوا يتناقشون هنا عن هذا الموضوع، أي ما إذا كان الدّفن في الليل حراماً أم حلالاً، غير أنهم لم يتوصلوا فى النهاية إلى نتيجة، وظلّ كلُّ طرف متمسك برأيه. بالنسبة لنفسي سأوصي بعد موتي أن أُدفن نهاراً."
رأيتُ الكثير من المواقف في هذا المكان، وتقريباً نرى كلّ يوم حالاتِ إغماء كثيرة، وأذكر أنه في مرّة توفي شخص هنا في القهوة
وحول تعامله مع زبائنه قال: "الحمد للّه أنني أعرف أتعامل مع الناس حميعاً. وهذا ما تعلّمته من والدي الذي رباني على أن أتعامل مع الناس كلّهم على حدّ سواء بطريقتي. أغلب من يأتون إلى هنا نهاراً يأتون ليدفنوا أعزّاء عليهم؛ (يعني جاي حزن الدنيا راكبه)، ولذا أتحاشى الكلام معهم لفترة طويلة، وأسألهم فقط ماذا يشربون (وخلاص)، والأغلبية منهم يشربون الشاي أو القهوة، لأن حسب معتقداتهم أيضاً شرب المياه الغازية فيه نوع من الفرح."
سألناه: "هل تعتقد أنت بمثل هذا؟". ردّ: "لا، طبعا. ما علاقة الفرحة بالمشروبات الغازية؟ هل لو شربتها أكون سعيداً مثلاً؟ إنها مجرّد معتقدات خاطئة تربينا عليها!".
أما الحاج سامي، صاحب المقهى (55 عاماً)، فقال لنا: "الفكرة بدأتْ بالنسبة لوالدي من البيت وعمل الخير. كان دائماً يلاحظ أن الناس يأتون إلى هنا من أماكن بعيدة لانتظار الجنازة القادمة، والمكان كان شبهَ خال، فكانوا يضطرّون إلى الوقوف في الشارع أو الجلوس على الرصيف. وفي يوم من الأيام حمل بضعة كراسٍ من البيت من أجل أن يجلس الناسُ عليها، ودعاهم إلى الشاي. طبعاً كان الناس رافضين للفكرة في البداية، لكنه أصرّ، فوافقوا في النهاية. ويوماً بعد يوم، بدأ يكرّر نفس الأمر إلى أن أتى يوم، وتمّ إخلاء أحد المحلّات في الشارع بسبب سفر صاحبه بشكل مفاجئ، فاشترى والدي المحلَّ، وفتح (قهوة) صغيرة، وبقي أغلب زبائنها من المعزّين".
يضيف الحاج سامي حول أغرب المواقف التي شاهدها في المقهى: "رأيتُ الكثير من المواقف في هذا المكان، وتقريباً نرى كلّ يوم حالاتِ إغماء كثيرة، وأذكر أنه في مرّة توفي شخص هنا في القهوة."
ويواصل: "من بداية وصول ذلك المعزّي إلى المكان، كان صامتاً، فيما الناس كانت تحاول أن تفتح معه أحاديث لتخرجه من حالة الحزن التي سيطرت عليه، إلى أن سقط فجأة على الأرض. كنا نعتقد أنها مجرد حالة إغماء، حتى حضر الطبيب وأكد أنه توفي، وعرفتُ في ما بعد أن ابنه هو من كان قد توفي، ومن شدة حزنه عليه لم يتحمل، فمات هو الآخر".
أنا أمنع الألعاب نهاراً احتراماً لمشاعر المعزّين. إنما في الليل فاللعب متاح، لكن الشطرنج فقط، لأن الخلافات كلّها تأتي نتيجة لعب الطاولة والدومينو والكوتشينه، إنما الشطرنج لعبة الناس العاقلين والمثقفين
وعلى النقيض روى لنا الحاج سامى موقفاً طريفاً: "في مرّة جاء أربعة أشخاص كبار السنّ من محافظة كفر الشيخ، وكانوا في انتظار وصول الجثمان إلى المسجد، وعندما رُفع أذان الظهر دون أن يأتي أحد، اتصل واحد منهم بابن المتوفى، فأكّد له أن صلاة الجنازة تقام في مسجد آخر غير هذا المسجد القريب منا، فجلسوا جميعاً يضحكون ورفضوا الخروج من المقهى قبل أن يسيطر كلُّ منهم على نفسه ويمنع ضحكاته، غير أنهم استمرّوا على هذا الحال حتى صلاة العصر تقريباً. المقهى تحوّل إلى مسرح كوميدي ذلك اليوم."
واصل الحاج: "وأذكر في مرة أخرى أن مجموعة شباب غادروا المقهى دون أن يدفعوا ثمن المشاريب بسبب حزنهم الشديد، ولم يكن أيّ منهم منتبهاً إلى هذا الأمر. بصراحة تركتهم يرحلون بسلام على رأي المثل: (هيبقى موت وخراب ديار؟)."
وحول السبب الذي يجعله يمنع الألعاب على غير عادة المقاهي الشعبية، قال: "أنا أمنع الألعاب نهاراً احتراماً لمشاعر المعزيّن. إنما في الليل فاللعب متاح، لكن الشطرنج فقط، لأن الخلافات كلّها تأتي نتيجة لعب الطاولة والدومينو والكوتشينه، إنما الشطرنج لعبة الناس العاقلين والمثقفين، وثمة دول يجلسون للعب وينهضون دون أن تشعروا بهم، وكأنهم لم يأتوا بالأساس!"
سألناه: "ألا يضايقك أن المقهى يُعرف بأنه مقهى المعزّين؟" فأجاب: "إطلاقاً. هذا شيء يسعدني، فنحن نكسب رزقَنا بالحلال، ونساهم في الوقت نفسه في عمل الخير."
ويختتم: "نفكر أنا ومجموعة من أقاربي في إطلاق سلسلة مقاه بالقرب من المساجد الكبيرة، لأنه لنا أقارب في محافظتي سوهاج والبحيرة نفّذوا نفس الفكرة ونجحت. ومن يعلم؟ ربما يأتي يوم، ونفتح فروعاً في المحافظات كلّها."
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...