عندما بدأت مصر العام الجديد بواقعة اعتداء جنسي جماعي، في واحدة من أكبر مدنها، بدا وكأن السنة الجديدة أطلقت منذ بدايتها صافرة إنذار: ليست سنة سعيدة، بل هي أبعد ما يكون عن ذلك. بعد سنة 2019 التي استنزفت الجميع وكانت ملطخة بالمآسي والمصائب، تبدأ مصر غير المستقرة الآن، عاماً جديداً ببريق من الأمل وقليل من التوقعات. حتى الآن، تثبت 2020 أن المسافة بين الأحلام والواقع يمكن ملؤها بسراب غير محدود، وبكثير من الأشواك التي تفوق الزهور عدداً.
لفهم المشهد الكلِّي عبر عدسة تقييم المخاطر، علينا أن نفهم آثارها العاجلة وتلك المتوسطة أو طويلة الأجل، عبر منظار الحاضر: أمور كالتحرش الجنسي الجماعي، تبدو للعين غير الخبيرة مجرد مرض اجتماعي، لكن هذا تقليل خاطئ من حجم الأمور.
همست لنا 2020 بما ينتظرنا في المستقبل، مع ثورة مفاجئة في ملفات راكدة كالملف الليبي، ملف العلاقات مع تركيا، تطورات المفاوضات في سد النهضة الإثيوبي، وظهور الرموز العسكرية السياسية التي اختفت لفترة، كالفريق أحمد شفيق والفريق سامي عنان (مرشحي الرئاسة السابقين).
عادة لا يدفع عامل وحيد المجتمع نحو الحافة، لكن الأسباب تتشابك بينما تفرزها المجتمعات. في الحالة المصرية، إن الفشل الحكومي، النقص المتعمد في الحشد القانوني وغياب الحوكمة الاجتماعية في التصدي لظاهرة التحرش والاعتداء الجنسي، أظهرت وجهها القبيح في أولى ساعات 2020. على الرغم من دراسة الأمم المتحدة التي لا يداخلها الشك، والتي أقرت بأن 99%من النساء المصريات تعرضن للتحرش الجنسي، بشكل أو بآخر، فإن هذا لم يزد من قدراتنا الدفاعية أمام الصدمة التي أحدثها فيديو المنصورة، الذي نقل واقعة الاعتداء الجنسي الجماعي على شابتين.
الصرخات التي أطلقتها الفتاتان عكست واقع 50 مليون امرأة مصرية، كما فرضت سؤالاً مهماً: أين كانت الشرطة عندما وقع هذا الكابوس؟
وصل السيسي إلى قمة المجال السياسي العام بوعد وحيد: تحقيق الأمن، والذي يعني حماية المواطنين، لكن عصابة من المتحرشين حاصرت فتاتين في متجر للهواتف المحمولة لوقت طويل، نجحت واحدة منهما بالهروب، بينما تعرضت الثانية لاعتداء وحشي، ورغم هذا بقيت الشرطة مختفية!
تخيل معي السرعة التي كانت ستستجيب بها وزارة الداخلية وتبادر إلى موقع الحادث، لو كانت حشود المتحرشين هذه تشارك في مظاهرة. هناك تجاهل متعمد وإعاقة مقصودة لأي تقدم في هذا الملف، وينطلق هذا من رؤية ميزوجينية معادية للنساء تدعم لوم الضحيةـ إذ إن رد الفعل الأولي السريع كان: "كانت لابسة إيه؟ إيه اللي وداها هناك؟"، يجب ألا يكون كل هذا مهماً، لكن قوات الأمن تشعر أنها يمكن أن تتهرب من أداء مهامها في حماية النساء، عبر ضرب أي اتفاق شعبي على إدانة التحرش الجنسي، من خلال تعميم لوم الضحية، هذه الممارسة البطريركية الذكورية القديمة قِدَم الأهرامات، ما يضع المجتمع المصري في مأزق حرِج سيكلِّف النظام الكثير، لكون نصف المجتمع من النساء.
وبنفس غموض واقعة المنصورة، جاءت التغييرات في المناصب العليا في الجيش المصري: الإفراج عن سامي عنان عضو المجلس العسكري السابق الذي ترشح للرئاسة في 2018، وألقي القبض عليه بعد أيام قليلة من إعلان نيته الترشح. وكذلك جاء الظهور العام للمرشح الرئاسي السابق الفريق أحمد شفيق، الذي نافس بقوة على مقعد الرئاسة في 2012. تظل هذه الأحداث المتصلة بالجيش غامضة بالنسبة للعديدين. لدينا قرينة واحدة قد تمثل مفتاحاً للفهم: ما شهدته مصر في 20 سبتمبر الماضي، والذي كانت نتيجته المباشرة مظاهرات واسعة تم قمعها بعنف في السويس، خلال اليوم التالي.
هناك سببان يفسران لنا طنطنة السيسي الفارغة: إذكاء الغريزة الشعبوية الهمجية، وحشد التأييد لحالة "أنا الدولة" التي يسعى لترسيخها منذ وضع يده على الحكم، في الوقت الذي يلفت فيه الأنظار بعيداً عن المسرح المحلي، ويدفع الأعين للتركيز على "عدو خارجي"، هذا العنصر وحده كفيل بتحويل 2020 إلى كابوس مُفجع.
سيادة الذعر
ربما نجح السيسي في إخفاء ذعره عن عموم الناس، ووضع وجهاً واثقاً زائفاً عقب عودته من اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في 27 سبتمبر، لكن التواجد الأمني الفج كان يفضح الحقيقة: السيسي وحلفاؤه سمعوا خطوات الغضبة القادمة، إذ على أي ضوء آخر يمكن تفسير فتح أبواب الحبس الفعلي والمعنوي أمام رمزين تطلعا لتقديم بديل لحكم السيسي الأوتوقراطي؟ وأن عنان وشفيق أبناء المؤسسة العسكرية المسيسة صارا فجأة يتمتعان بالحرية، في الوقت الذي يبقى فيه أمثالهم من المدنيين المعارضين في ظُلمة وبرد السجون، أمثال الدكاترة عبد المنعم أبو الفتوح، حازم حسني، حازم عبد العظيم والضابط السابق ورئيس الجهاز المركزي للمحاسبات سابقاً، هشام جنينة. كيف يمكن تفسير ذلك إلا على ضوء أن هناك جهة محددة دفعت صوب اتخاذ هذه الخطوة.
ومع كون هذه الخطوات أتت في نهاية 2019، لكنها تعني أنها تحصين دفاعي ضد أية مفاجآت قد تأتي بها 2020، إذا ما اشتدت قوة التيار المعارض لمنظومة الحكم الحالية، والتي يحتل فيها الجيش موقع الحاكم. إن هناك كوادر فاعلة في الدولة العميقة، تتمتع بالفهم الكامل لضرورة عدم السماح للسيسي بأن يأخذ معه المؤسسة كلها نحو الانهيار.
أدركوا هذا في البداية، عقب "تيران وصنافير"، لكن هذه المخاوف اشتدت عقب الانتفاضة المحدودة في سبتمبر. هذا الصراع في الكواليس الخلفية لا يحمل بشارة للمعارضة المدنية الساعية لتغيير هيكلي في بنية السلطة. الانفراج في موقف عنان وشفيق ليس استجابة لمطالب شعبية، وإنما إحكام للمشنقة التي تمسك بها يد الجيش المهووس بالحكم السياسي.
الرسالة لا تحمل أي غموض: مات الملك، عاش الملك، وتماماً كما صارت تيران وصنافير لطخة عار في تاريخ العسكرية المصرية، فإن المفاوضات مع إثيوبيا بخصوص المياه ثبت أنها عار قومي جديد. النيل هو شريان الحياة لمصر، ليس بالمعنى الأدبي والتاريخي فقط، بل وبالمعنى الحرفي المجرد. بمجرد اكتمال سد النهضة الإثيوبي سوف تختنق الزراعة المصرية وسيعاني الاقتصاد. بالنسبة لمصر فإن سد النهضة هو تهديد وجودي، وما يزيد من تعقيده هو حقيقة أن العدو المتسبب في هذا التهديد هو عدو من الداخل.
من الغريب واللافت أن المفاوضات التي استمرت متباطئة لعهود، تسارعت في عهد السيسي. عندما يظن رئيس دولة أن المزاح مع رئيس الوزراء الإثيوبي ومطالبته بالقسم على الهواء أنه لن يضر مياه مصر، كاف لحل الأزمة؛ فإن لدينا دليل دامغ على أن مصر في مصيبة، وعندما يتمحور التفاوض المصري لسنوات حول مجرد عدد السنوات المطلوبة لملء خزان السد، فإن مصر في ورطة حقيقية بالغة الخطورة. حتى إذا ما أخذت مصر والسودان وإثيوبيا خطوة إيجابية في المفاوضات التي جرت الأسبوع المنقضي برعاية أمريكية، فإن إثيوبيا وحدها تملك مفاتيح الإجابة عن سؤال: "كيف سيؤثر السد على سريان المياه في مجرى النيل".
بدأ السيسي في وقت مبكر من هذا الشهر في لعب لعبة وسيط الحرب الإقليمي: في اليوم نفسه الذي انتزع فيه أردوغان من البرلمان التركي ترخيصاً سياسياً بإرسال قوات تركية إلى ليبيا، رد السيسي بعقد اجتماع لمجلس الأمن القومي لبحث "الرد على التدخل العسكري الأجنبي في ليبيا".
مسؤول مصري لخص وضع المفاوضات بكلمة "كارثية"، هذا الاعتراف بالفشل نادر، حتى أنه يندر أن يحدث في المحادثات غير المسموح بنشرها.
باقتصاد متراجع، مناخ سياسي غير مستقر، نظام تعليمي منهار وجرح لا يندمل في سيناء، يقترح العقل تركيزاً كاملاً من السلطة على قضايا الداخل، لكن السيسي في وقت مبكر من هذا الشهر بدأ في لعب لعبة وسيط الحرب الإقليمي: في اليوم نفسه الذي انتزع فيه أردوغان من البرلمان التركي ترخيصاً سياسياً بإرسال قوات تركية إلى ليبيا، رد السيسي بعقد اجتماع لمجلس الأمن القومي لبحث "الرد على التدخل العسكري الأجنبي في ليبيا".
ومن اللافت للانتباه، الكيفية التي تغافلت بها وسائل الإعلام المصرية التي تدق طبول الحرب، عن أن مصر نفسها تدخلت في ليبيا منذ ست سنوات، بينما تبنت رسمياً موقف خليفة حفتر منذ بدايات 2014.
الحديث عن الحرب مع عدو قوي مثل تركيا على التراب الليبي هو مجرد كلام، مصر ليست في مركز يسمح لها بالدخول في حرب. هناك سببان يفسران لنا طنطنة السيسي الفارغة: إذكاء الغريزة الشعبوية الهمجية، وحشد التأييد لحالة "أنا الدولة" التي يسعى لترسيخها منذ وضع يده على الحكم، في الوقت الذي يلفت فيه الأنظار بعيداً عن المسرح المحلي، ويدفع الأعين للتركيز على "عدو خارجي"، هذا العنصر وحده كفيل بتحويل 2020 إلى كابوس مُفجع.
المزيج المثير للغثيان صار واضحاً: حتى الآن، وخلال أسبوعين اثنين من 2020، تتبدى قمة رُمح يمكن للقليلين إدراك مدى قوته وقدرته على إحداث الأذى، لقد رأينا الإنذار واضحاً في مصرنا الحالية: "سنة جديدة" و"سعيدة" لا يلتقيان.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون