منذ الأيام الأولى للثورة، قُتل آلاف المصريين على يد نظام عنيد متغطرس معتز بجهله، يصر على الاحتفاظ بالسلطة. عشرات الآلاف زُجَّ بهم في زنازين السيسي. خلال الأسبوع الجاري، اعتقلت قوات الأمن فتاة مصرية عادية تدعى رضوى محمد، بعد أن بثت فيديو تنتقد فيه الرئيس المصري وتحمله مسؤولية موت 8 مواطنين منهم أطفال، قُضِي بعضهم صعقاً بالكهرباء خلال الأمطار الكثيفة التي شهدتها البلاد في نهاية أكتوبر الماضي. اختُطفت الفتاة على يد قوات الأمن، وجريمتها: أنها تكلمت. كيف يمكن هذا النزف أن يتوقف؟ ربما يُهيأ للبعض أن بإمكان القتل والاعتقال والتعذيب الممنهج القضاء على أي احتمالات للثورة. لكن الحقيقة: العكس هو الصحيح تماماً. أمام مصر خياران، إما الإصلاح أو الثورة. تاريخ مصر الحديث تكتبه الانقلابات والثورات. إلا أن الثورة ضد الطبقة المتعطشة للدماء والتي ازدادت جرائمها وانحطت إلى درجة جرائم الحرب، تعدّ بمثابة مهاجمة نمر داخل كهف مظلم. لكن مطربة مصر الخالدة أم كلثوم لخصت الأمور بأفضل ما يكون في جملتها الغاضبة "إنما للصبر حدود".
هناك أكثر من 60 ألف شخص – وربما أكثر من 70 ألفاً- في ظلام سجون السيسي بسبب آرائهم السياسية، وقبل ستة أسابيع فقط، جرى اعتقال ما يزيد على 4000 مواطن وفقاً لأحد التقديرات، رداً على التظاهرات المحدودة التي شهدتها محافظات عدة في سبتمبر/أيلول. أكثر من 32.5% من المصريين يعيشون تحت خط الفقر، وحوالى 7% وصلوا إلى حد الجوع، هذه الأرقام التي تُدمي القلب تشمل66.7% من سكان أسيوط و59.6% من سكان سوهاج، يقبعون جميعهم تحت هذا الخط القاتل. السيسي والمتواطئون معه يواصلون امتصاص دماء الحياة من جسد البلاد، وبكل برودة يقتلون المصريين بدفعهم للقفز من القطارات نحو موتهم في سبيل اقتناص قروش معدودة لا يملكها هؤلاء الضحايا، يتركون المصريين للموت صعقاً بالكهرباء في شوارع أغرقها الإهمال قبل أن تغرقها مياه الأمطار. ثم هناك الخطر الوجودي الذي يتهدد البلاد متمثلاً في سد النهضة الإثيوبي.
أي دولة يقل نصيب الفرد فيها عن 1000 متر مكعب هي دولة فقيرة مائياً. ونصيب الفرد في مصر الآن 570 متراً مكعباً، وينتظر أن يقل إلى 500 خلال خمس سنوات ، حتى من دون تدخل سد النهضة. لم يكتف السيسي بالفشل في إيجاد حل، لكنه يواصل التخفى وراء ستار الحرب المتراجعة ضد الإرهاب في سيناء، في الوقت الذي يبني فيه المزيد من القصور لنفسه ولكبار أفراد حاشيته. لكن هناك فجوة تتسع بينه هو وحاشيته من جانب، وبين الملايين التي تتحمل المعاناة على الجانب الآخر بسبب تطبيق السيسي لشروط صندوق النقد الدولي. جاء برنامج التقشف الذي فرضه على عموم المصريين ابتداءً من خفض قيمة العملة في 2016، في وجود نخبة تجني وحدها ثمار هذا الانهيار المروع في الأحوال المعيشية للغالبية، بينما يلصقون أنفسهم بلا خجل بهذا النظام وبقائه. مصر جاهزة للانفجار، وعوامل انفجارها تطهوها يد النظام نفسه على مهل.
خلال الأسبوع الجاري، اعتقلت قوات الأمن رضوى محمد، بعد أن بثت فيديو تنتقد فيه الرئيس المصري وتحمله مسؤولية موت 8 مواطنين صعقاً بالكهرباء خلال الأمطار الكثيفة التي شهدتها البلاد الشهر الماضي. جريمتها أنها تكلمت. كيف يمكن لهذا النزف أن يتوقف؟
في تصريح خاص لرصيف22 يقول الجوكر: "أنا قادر بصعوبة على احتواء غضب شبابنا في جميع المحافظات، ولكن هناك لحظة للثورة بأمر الله... لا طريق سوى الثورة"
معتصم مرزوق، السفير المصري السابق الذي شغل منصب مساعد وزير الخارجية، حاول تشكيل تنظيم سياسي سلمي للحؤول دون هذه النتيجة التي باتت محتومة. في أغسطس/آب 2013، ألقى مرزوق بثقله السياسي في تحالف معلن. كان البيان الذي وضعه أشبه باستفتاء على حكم السيسي: "هل تقبل باستمرار النظام الحالي في الحكم؟" رأى في بيانه أن المسار الذي كان منتظراً، بالتعديلات الدستورية التي كانت مرتقبة وقتذاك، ستحدد مصير البلاد لعقود مقبلة عبر تصويت الأغلبية البسيطة (50% + 1). يقول إن الموافقة على التعديلات الدستورية المنتظرة وقتذاك، لا تعني سوى الموافقة على سياسات الحكم القائمة وتأييدها بشكل فاضح. بينما رفضها سيشكل إعلاناً دستورياً برفض استمرار السيسي في الحكم وإعلان حكومة انتقالية. بعد أسبوعين من إصدار بيانه هذا، كان السفير معتصم مرزوق في السجن. نجح النظام في عملية البتر الكامل للحوار المجتمعي.
خلال تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، طرح النائب المعارض أحمد طنطاوي مبادرة محدودة التأثير، ومعارضة فقط بحدود المنهج الإصلاحي، بما يتناسب مع المعارضة التي هندستها المخابرات العامة في صياغتها للبرلمان. لكن النائب الشاب تعلَّم الدرس بالطريقة الصعبة. ظهر طنطاوي في دائرة الضوء خلال "بيع" الجزيرتين المصريتين تيران وصنافير للسعودية، إذا اختطف النائب الميكروفون من الخبير الحكومي الذي ساند عملية البيع.
لم يتراجع طنطاوي، وقدم خارطة طريق رفضها من في السلطة وأيضاً من في المعارضة لأسباب مختلفة. نهاية رئاسة السيسي في 2022 كانت أكثر النقاط مدعاة للانقسام. فالحكومة التي مررت تعديلات دستورية تسمح للسيسي بالبقاء في الحكم حتى2030[3] ترفضها طبًعاً، لكن العديد من المعارضين تساءلوا هل كانت المبادرة الإصلاحية تهدف لإعطاء السيسي مخرجاً من أزمته ومنحه ثلاث سنوات إضافية في الحكم، في الوقت الذي تنادي فيه التظاهرات في الشوارع برحيله الفوري. ومن هنا أساءت المبادرة التعبير عن رغبات الناس. ناهيك بأن مبادرة طنطاوي تعتمد على سراب قدرة البرلمان على إحداث تغيير فاعل، من خلال ندائه لتشكيل 12 لجنة برلمانية تعمل على الحل الناجع للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. إلا أن مبادرته تلك، على تواضع نجاحها، أسهمت في تحريك المياه الراكدة.
بعد أقل من 72 ساعة من نشر فيديو المبادرة، أعلن عبد العال، رئيس البرلمان وألعوبة السيسي المضمونة، عن إحالة طنطاوي إلى لجنة القيم. أكد طنطاوي معلومة اعتقال أحد العاملين في مكتبه في عداد السياسيين الشبان الذين تحمسوا لـ"مبادرة الأمل".
زياد العليمي البرلماني السابق والمعارض البارز كان من المقبوض عليهم في يونيو/حزيران الماضي ومعه على الأقل 7 من رموز المعارضة المصرية الشابة، إذ كان لديهم "أمل"، وهو اسم التحالف الانتخابي الذي كانوا يعتزمون من خلاله المنافسة في الانتخابات البرلمانية المقبلة. لكن النظام يريد إسكات كل الأصوات إلا إذا كانت تردد صداه. لقد صارت مصر كفرعي طريق جاف يسيران نحو المواجهة الحتمية.
بذور الثورة قد نثرت. وقبل اليوم الأول من سبتمبر/أيلول، كانت المسألة مجرد شكوك.
هذه الشكوك صارت حقيقة عندما فضح محمد علي المقاول/ الممثل عمق الفساد الذي يخوض فيه السيسي وحاشيته من كبار العسكريين. الفيديو الأول لعلي ظهر في الأسبوع الأول من سبتمبر. وبعد أقل من أسبوعين، تحركت التظاهرات في عدة محافظات وامتدت من مرسى مطروح حتى السويس وفي قلب القاهرة. وبرغم أن التظاهرات سرعان ما تفرقت وخبت نتيجة للسعار الأمني وحملة الاعتقالات العشوائية الواسعة التي شملت أنحاء متفرقة من البلاد، فإن المصريين رأوا فيها الفوهة المشتعلة للبركان الكامن تحت أضلع المجتمع.
وبدأت المعارضة تدرك حجم الانتشار المتسع للاعتراض، لا على السيسي فقط، ولكن على النظام كله. هذا ليس أمراً هيناً.
يفشل الكثيرون في إدراك أنه كي تطفو الثورة على السطح فأنت لست بحاجة إلى الملايين من أمة يبلغ تعدادها 100 مليون. حتى أن الشرارة الأولى ليست بحاجة لأن تبلغ مليون شخص.
تخيل معي التالي: 100 ألف يتظاهرون في المناطق الرئيسية في القاهرة، و50 ألفاً في مسيرة على كورنيش الأسكندرية، و30 ألفاً يهتفون في المحلة والسويس و20 ألفاً يصرخون في الأقصر وأسوان وسوهاج. هل تذكر أرقام الفقر تلك التي يتفوق فيها الجنوب على الشمال؟ هذه الأرقام مجتمعة تشكل حوالى 270 ألف شخص، ولكن خلال الإعداد الاستراتيجي للأمة، أتعتقد أن هذه الأرقام لا تكفي لترجيح كفة الميزان؟ بالطبع تكفي.
من الواضح أن الجوكر المصري يفكر بالطريقة نفسها، التنظيم هو المفتاح. بعد قليل من بث فيديوهات محمد علي، بدأت فيديوهات أخرى في الظهور، بطلها شخص يرتدي قناع الجوكر ينادي بتنظيم معارضة السيسي من خلال تنظيمات عنقودية في خلايا أسماها بـ"السباع". الثورة – كما يقول- ليست هدفاً، إنما تغيير النظام هو الهدف. متحدثاً إلى الشباب المصريين يقول: "مينفعش تستنى جماعة تحررك أو حزب.... حريتنا بإيدينا يا شباب". برغم أنه من المستحيل معرفة حجم أتباعه، ربما لالتزامه معايير حماية أمنية، فإن وجوده لافت على السوشال ميديا كتويتر وفيسبوك ويوتيوب وتليغرام، ويبدو أنه يتزايد. في تصريح خاص لرصيف22 يقول الجوكر: "أنا قادر بصعوبة على احتواء غضب شبابنا في جميع المحافظات، ولكن هناك لحظة للثورة بإذن الله". بوضوح يقول: "لا طريق سوى الثورة".
ولهؤلاء الذين يقلقون من أي تداعيات عنيفة يقول الجوكر: "الناس لن تنتصر بالعنف. لا يهم من سيربح، الأمة كلها ستخسر جراء العنف". لقد نجحت "اللاحركة" حيث فشل محمد علي: فهم أنه بلا تنظيم وتوقيت محسوب، فإن أي خطوة هي قفزة في الفراغ محتومة الفشل.
وكما انهالت الهجمات على محمد علي من القنوات التلفزيونية الخاضعة لسيطرة الدولة، واجه الجوكر المسألة نفسها. هم وفقاً للدولة والقنوات التلفزيونية التابعة لها "عصابات منظمة تستهدف زعزعة الاستقرار". وجّه المذيع الذي أطلق هذا الوصف إهانات لدكتور تامر جمال، الشخص الذي يُعتَقَد أنه وراء "الجوكر المصري" واصفاً إياه بأنه "رقاصة درجة تالتة". هذه المحاولات لوصم الرجل توجها اقتحام قوات الأمن وعتاصرها الملثمون بيت أسرته مساء الثلاثاء الماضي واختطاف عدد من أفرادها.
أنت لا تشتبك إعلامياً مع المعارضة إلا إذا كان تهديدها جدياً، وعقب خوف النظام من تظاهرات سبتمبر/أيلول، صار النظام يخاف من ظله.
لا يوجد شخص غير مسلح يتمتع بالقدرة على التفكير ويعارض النظام يمكن أن يسارع للمواجهة مع نظام مسلح سادي ومنظم، إلا إذا كان وجوده يتوقف على تلك المواجهة ولديه خطة. الآن، اللاعب الوحيد على الساحة الذي يملك خطة واضحة للتنظيم وتكتيكاً مؤكداً هو الجوكر.
ببتر الحوار السياسي والنشاط والتنظيم سواء عبر القمع أو التلاعب بالعقول أو حملات الاعتقال، يراهن النظام على أن من ينتهجون سبيل الثورة لن يكونوا كثيرين إلى حد تهديد وجوده. إلا أن مسار الصدام قد حُدِّد وبات محتوماً. وإذا حدثت ثورة فلتكن غير دموية قدر الإمكان، فإدراك الحرية لم يكن يوماً بلا ثمن.
لتكن هناك ثورة لا تتوقف حتى يعاد رسم خريطة الحُكم وأدواته بما فيه مصلحة الشعب.
عندما يساوي الصمت الموت، فالثورة هي الحل.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...