شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
الوطنية أم الخيانة... حكاية من مصر

الوطنية أم الخيانة... حكاية من مصر

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأحد 15 ديسمبر 201910:35 ص
Read in English:

Patriotism Or Treason: An Egyptian Story

يتكلم التاريخ، لكن الحمقى لا ينصتون. في كل مرة، تلد الكلمات تحركات أو ثورات تطيح بمن ظنوا أنهم امتلكوا زمام السلطة للأبد، ولكن في مصر يستمر أصحاب السلطان في سجن طائر الحرية، ظناً أنه لن يحلق أبداً.

"إنتو بتدمروا مصاير أُسَر.. واحد واحد، كل من اشترك في هذه الجريمة هيدفع التمن.. جريمة تجريف البلد وبيعها وتجويعها وتجهيلها وإمراضها وإفقارها.. 100 ألف معتقل، كل واحد منهم على الأقل يؤثر في 100 بني آدم برا.. اضربوا 100 ألف في 100"، يمكننا من هنا أن نعرف حجم العداء الذي يجنيه هذا النظام من كلمات فاطمة، زوجة الناشط شادي الغزالي. الحكام المستبدون من أمثال السيسي يظنون أنهم لن يدفعوا الثمن، ولكن كما تعد الزوجة الشجاعة: "ماشي هنشوف"، تقولها وهي تعرف أن كلماتها هذه قد تلقي بها في الزنزانة. 

المجموعة الحاكمة ومؤيدوها يرون هذه الرسالة الشجاعة باعتبارها تعريفاً للخيانة، بينما المعارضة والمجتمع الدولي والمنطق، يرونها حرية رأي مشروعة وتحميها الدساتير والمواثيق. الكلمات حوامل الأفكار، وتطرح الأسئلة الضرورية، وأحيانًا تقدم الإجابات. من صاحب الكلمات؟ ومن يسمعها؟ وكيف تؤثر في النقاش العام؟ كلها مسائل محورية لإدراك ذلك الخيط الخفي الفاصل بين الوطنية والخيانة. 

إن الكلمات التي يستخدمها الناس في مواجهة الحاكم وحاشيته، في الدول البوليسية المتطرفة مثل مصر، ليست مجرد كلمات تذروها الرياح، وإنما هي حجارة تتراص لبناء التغيير، قد تكون تلك الكلمات غاضبة عاطفية كما في فيديو فاطمة، أو تساؤلات عقلانية تحمِّل كل طرف مسؤوليته، كما في مقال نشرته مدى مصر، للصحفية المستقلة رنا ممدوح. إن طرح الاسئلة وإخضاع السلطة المهيمنة للمساءلة هي أمور لا يراها المسيطرون على البلد سوى خيانة، وإن كانت في حقيقتها محبة جارفة لهذا البلد. 

مع توظيف جيوش من الكتائب واللجان الإلكترونية، يصر النظام على غلق دائرة الحوار ويأمر لجانه على الشبكات الاجتماعية بحصار قادة الرأي من المعارضين. لا يكتفي بتكديس ملفات أملاً في العثور على ما يشوه به صورة هؤلاء المعارضين، بل يدفع موظفيه من اللجان إلى تهديدهم
قل ما تريد عن حكام مصر؛ ولكن المؤكد أنهم يعيشون في عالم من الثنائيات العقيمة: إما أنت وطني على طريقتهم أو أنت خائن

تتساءل رنا ممدوح: "خرجت من المطار أفكر في 50 سبباً لوضعي على هذه القوائم (تقصد قوائم المنع من السفر)، ومستقبل وجودي بها. ومن وضع اسمي؟ ولماذا؟ إلى أي قانون يستندون إليه؟ هل كل الصحفيين باتوا على هذه القوائم؟". تعرف رنا الإجابة. يمكننا أن نجزم دون أي شك أن هذه القوائم لا تضم أسماء جميع الصحفيين، هي تضم فقط أسماء الصحفيين الذين ينشغلون بالسؤال والبحث العميق، من يسعون لإيصال "الحقيقة" إلى قارئهم، أما ما تريده الدولة فهو ميكرفونات عالية التردد، تُضخِّم صوتها ورسالتها، ولا تدع في الأثير مساحة لأية رسائل أخرى، لكن هذا بالضبط ما يهدمه الصحفيون المستقلون أمثال رنا ممدوح: هل يمكن أن يكون عداء الدولة لها قد بدأ "بقرار رئيس مجلس النواب الدكتور علي عبدالعال بمنعي من دخول البرلمان كمحررة وقتها بجريدة «المقال»، بسبب تدقيقي لما يقوله رئيس البرلمان على المنصة عن الدستور والقوانين، وسؤالي له عن أسباب إخفاء تعديلات قانون مجلس الدولة التي تمنع القضاء المستعجل من وقف أحكامه، بعد أن وافق عليها أكثر من ثلثي نواب البرلمان في أغسطس 2016". إن كلماتها هذه لا تحمل كفراً بالدولة أو خطاب معارض زاعق بأي حال من الأحوال، وإنما هي أسئلة تضع هدفها (عبد العال) أمام مسؤولياته.

ومن هنا يأتي غضب الدولة ومسؤوليها الذين يرون أنهم غير خاضعين للمساءلة. الديكتاتورية بطبعها تخطو وفق إيقاع وحيد، يضعه الحاكم القمعي وأتباعه، وإذا خالف أحدهم قاعدة "المساندة المطلقة أو الخرس التام"، فإنه يتحول فوراً من وطني مخلص إلى خائن بغيض. هذا التجريد الغبي والتبسيط الذي يعتمد على الثنائيات المطلقة هو مرض يرتبط بالدول الشمولية، حيث لا مساحة للتفاوض، ولكن الصحافة المستقلة بحق هي أمر غير خاضع للمفاوضة، لا يمكن أن تكون "نصف مستقل".

يواجه الصحفيون والأدباء الهجمات المنظمة للجان الإلكترونية التي تتفحص بإمعان كل كلمة على الإنترنت، وتستعد لأن تنشب مخالبها في كل من يخالف سردية السيسي: لا مكان في مصر إلا لنوع واحد من الأبطال، وجهة واحدة تمتلك حق إضفاء البطولة عليهم، وعدا ذلك فالكل خائن.

في هذا الصدام، فإن الجهة التي اعتادت أن تتهم الصحافة المستقلة بجريمة نشر الأخبار الكاذبة، تبث هي نفسها أخباراً كاذبة بشكل منتظم، وفي الوقت عينه، تستمر مصر السيسي في معاقبة الصحفيين أكثر من أية دولة أخرى، بتهمة نشر الأخبار الكاذبة. في الأسبوع الماضي، صدر التقرير السنوي للجنة الدولية لحماية الصحفيين، ليكشف عن أن مصر اتهمت 30 صحفياً في 2019 بنشر الأخبار الكاذبة.

ارتفع إذن عدد الصحفيين الذين واجهوا هذا الاتهام من 28 صحفياً عام 2018 إلى 30 في 2019. وحوت الزنازين هذا العام أسماء جديدة، منها إسراء عبد الفتاح التي تعرضت للتعذيب.

قضية إسراء مثال جيد على عشوائية الدولة الشمولية، إذ لم تضلع إسراء بدور ثوري كبير في الفضاء العام خلال فترة حكم السيسي، في الحقيقة يحسبها البعض على التيار "غير المعارض" للرئيس، وفي كل الأحوال، يظل الاتهام بنشر أخبار كاذبة جاهزاً لحبس أي شخص ترى الدولة العميقة أنه يمثل مشكلة لها. في هذا العالم الشائك أنت متهم دون أدلة، أنت خائن حتى لو لم تهمس بشيء قد لا يعجبهم.

الكلمات أيضاً كلفت مؤلفي الروايات قدراً غير قليل من التنكيل. انظر إلى علاء الأسواني، أحد أشهر الروائيين المصريين، كي تعرف كيف يمكن للدولة في غمضة عين أن تحيل أي شخص إلى مجرم مطارد، لمجرد الرغبة بتحويل أنظار الشعب عن قرارات اقتصادية أو سياسية معينة. ليس سراً أن عبد الفتاح السيسي لا يفوت أية فرصة لوصم ثورة يناير 2011، وآخر هجماته ربما كانت أكثرها بذاءة. 

تذكر وأنت تقرأ عن هذا الهجوم، أن صاحبه هو نفس الشخص الذي شغل منصب وزير الدفاع في عهد محمد مرسي ومدير المخابرات الحربية قبلها. خلال تلك الفترة، كان السيسي يحرص على امتداح الثورة علناً، أما الآن، فيقول السيسي: "لولا اللي حصل في 2011 لكان هيبقى فيه اتفاق قوى وسهل من أجل بناء هذا السد. لكن لما الدولة كشفت ضهرها وعرِّت كتفها ..."، فبالنسبة للسيسي وتابعيه المنصاعين له، الثورة خطوة للوراء وليست قفزة للأمام، فما الذي يمكن أن يحدث عندما يكتب الأسواني رواية "جمهورية كأن"، التي تعيد التذكير بلحظات الثورة التي يلفظها هذا النظام؟ بالطبع تنطلق رصاصة الاتهام الجاهز: "إهانة الرئيس والقوات المسلحة ومؤسسة القضاء"، لتصيب الكاتب المعروف الذي وجد نفسه يُحاكَم غيابياً أمام القضاء العسكري.

بمجرد أن يقرر كاتب مثل علاء الأسواني، أن يوجّه أنظار القراء لتأمل تلك اللحظة التي جرؤ فيها الناس على محاسبة السلطة، وتخيل عالم يكونون فيه هم أصحاب القرار بدلاً من المهيمنين على السلاح، يرتعد أصحاب الثورة المضادة، يشعرون بالتهديد من الكلمة، ويحاولون بتر كل بادرة تبدو فيها رائحة المعارضة أو التفكير النقدي. 

حتى الممثلون الذين يتكلمون على غير هوى السلطة، تُشطَب أسماؤهم وتُدمَّر مسيرتهم المهنية. النجمان عمرو واكد وخالد أبو النجا من أكبر الأسماء في جيلهما، عندما قررا اتباع بوصلتهما الأخلاقية ونددا بانتهاكات النظام المتكررة لحقوق الإنسان، وعندما ذهبا إلى واشنطن ليدليا بشهادتيهما ويلقيا الضوء على تلك الانتهاكات لدى سياسيين وصناع قرار في الداخل الأمريكي، وجدا نفسيهما في مرمى براثن الضباع الإعلامية التي صنعتها المخابرات، قبل أن تفصلهما نقابة المهن التمثيلية، وتنشر صورة ملفقة تظهرهما عاريي الصدر يحتضان بعضهما البعض، مصحوبة بتعليق بذئ: "عملاء.. وأشياء أخرى"، على غلاف مجلة "حريتي" المملوكة للدولة. هل أثار هذا اشمئزازك؟ بالتأكيد، ولكن لنسأل هنا: هل يخرج هذا التصرف المثير للتقزز عن منهج هذا النظام؟ بالطبع لا. 

ولكن البطش غير الرسمي بالمعارضين وعقابهم اجتماعياً ومهنياً عبر وصمهم بالخيانة شيء، وتضمين هذا في القانون شيء آخر تماماً. فمع الرقابة الأمنية على السوشيال ميديا، اتبعت مصر أكثر المناهج توحشاً: عاقب أولاً وحقق في وقت لاحق. بمجرد أن يصل عدد متابعيك على السوشيال ميديا إلى 5 آلاف شخص، فإن القوانين التي مررها البرلمان تحولك من فرد إلى "كيان إعلامي"، وتصبح آراؤك "معلومات وأخباراً كاذبة"، دون الحاجة إلى أن تتلقى تدريباً إعلامياً متخصصاً، أو تكون هذه مهنتك التي تتكسب منها. الهدف من هذا هو الحد من حرية التعبير عن الآراء عبر السوشيال ميديا، أن يحكم الخوف فضاء الشبكات الاجتماعية المصري كما يحكم شوارع المدن المصرية. 

قل شيئاً يرى فيه النظام شبهة معارضة، وستجد نفسك عرضة للحبس بتهمة نشر الأخبار الكاذبة، والتي تصل العقوبات فيها مبلغ 250 ألف جنيه. في الحقيقة، إن التعرض لاتهام بارتكاب أي من الجرائم التسع التي يحظرها القانون يعرضك لعقوبات تصل إلى 5 ملايين جنيه مصري. وصار الأمر الواقع هو تحرك النظام لإخراس المعارضين وحبسهم دون انتظار أمر قضائي، في إطار قوانين وقرارات تسهل تمديد الحبس الاحتياطي، وفرض انتهاكات واسعة بغرض نشر رؤية الحاكم وحكومته، وإخراس الأغلبية الرافضة لسياساته. 

ومع توظيف جيوش من الكتائب واللجان الإلكترونية، يصر النظام على غلق دائرة الحوار ويأمر لجانه على الشبكات الاجتماعية بحصار قادة الرأي من المعارضين. لا يكتفي بتكديس ملفات أملاً في العثور على ما يشوه به صورة هؤلاء المعارضين، بل يدفع موظفيه من اللجان إلى تهديدهم. هؤلاء المأجورون أيضاً لديهم بعض الشهرة التي تجعلهم يستسهلون استدعاء معجم النظام، وعلى رأسه الوصم بالخيانة، بشكل مؤثر، وليس من الغريب على كاتب هذه السطور وغيره، ممن يحسبون أنفسهم على المعارضة المصرية، أن يتلقوا هذه التهديدات ويتعرضوا لهذا الوصم بشكل يومي، بمجرد قيامهم بنشاط عادي، مثل التعليق على حدث أو مشاركة فيديو لا يرضى عنه النظام. 

قل ما تريد عن حكام مصر؛ ولكن المؤكد أنهم يعيشون في عالم من الثنائيات العقيمة: إما أنت وطني على طريقتهم أو أنت خائن.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image