"جوارب، كوافي، شيلان، شبابي، بناتي"، بصوته الشاحب، يحاول الحاج عبد الرحيم صالح لفت انتباه المارة في رصيف جامعة صنعاء، إلى بسطته الصغيرة، من الساعة السابعة صباحاً حتى الثانية ظهراً.
وفي أجواء صنعاء الباردة يجلس عبد الرحيم (62 عاماً) على الرصيف، يحاول تغطية جسمه النحيل بعدة قطع من الملابس الثقيلة، كي يحافظ على حرارة جسمه من البرد القارس، وتحت كيس بلاستيكي أخضر يخبئ بضاعته.
"كل الأصوات تدعو إلى الحرب"
يعاني عبد الرحيم كثيراً من تأثير الأتربة المنتشرة في الجو ومخلفات السيارات، عند وقت الظهيرة يغطي جسمه الغبار، بعد أن أنهكه الصياح الذي يحاول من خلاله إقناع الزبائن بشراء بضاعته.
بمرور العمر أصيب عبد الرحيم بعدة أمراض منها: الروماتيزم، الضغط والتهابات في الدم.
ورغم قلة المال الذي يجنيه طوال النهار، وبضاعته القليلة والبسيطة، يرى عبد الرحيم أن حياته جيدة وأفضل من غيره، لأنه يتمكن من الحصول على لقمة العيش له ولأبنائه، وتأمين إيجار منزله من خلال هذا العمل.
"يرى عبد الرحيم حياته أفضل من غيره، فهو يحصل على لقمة العيش، ويؤمّن إيجار منزله".
يعود الى منزله لتناول وجبة الغداء المكونة من الطبيخ، الكدم(الخبز) وبعض الأرز، مع زوجته وأبنائه الأربعة، ثم يتكئ في ركن غرفته لمضغ القات والاستماع للراديو.
يقلب بين القنوات الإذاعية المختلفة، يبحث فيها عن أي صوت ينشد السلام لا الحرب، ويخبره عن قرب انتهاء الحرب في اليمن: "لكن كل الأصوات تدعو الى الحرب والقتل والدمار، فأرجع أبحث عن أغان يمنية قديمة، للعودة إلى الزمن الجميل"، يقول عبد الرحيم في حديثه لرصيف22.
يأمل عبد الرحيم في توقف الحرب وعودة الأمن، والسلام إلى البلاد، وأن يتمكن أطفاله من العمل حتى يستريح في منزله، وهو يعيش آخر سنوات عمره.
يمثل عبد الرحيم نموذجاً لآلاف كبار السن في اليمن، ويعد أحسن حالاً من غيره، فهو يجد منزلاً يحتضنه، وأسرة ترعاه، ومهنة توفر له ما هو ضروري.
وفاقمت الحرب من معاناة المسنين اليمنيين، وأجبرتهم على العمل في مهن شاقة، إذ يعملون في بيع الأطعمة والأدوات على أرصفة الشوارع، والتنقل من مكان إلى آخر، أو يقومون بأعمال شاقة: حمل البضائع، جمع العلب البلاستيكية الفارغة، أو التسول في دوارات شوارع المدن.
"صرت شيخاً أعجز عن العمل"
يجلس حسن الحيمي، أمام مصرف الكريمي في شارع هايل في العاصمة صنعاء، يمد يده لكل شخص خارج من المصرف، لعله يتمكن من جمع ما يؤمِّن له طعامه، بعض أوراق القات والسيجارة، وأيضاً إيجار الدكان الذي يسكنه في ذات الشارع.
الحيمي ذو السبعين عاماً، أحد الجنود الذين شاركوا في الثورة اليمنية ضد الحكم الإمامي، تلك الثورة التي كان يأمل أن تحقق له حياة كريمة: "لدي ثلاثة أبناء وهم متزوجون، ويعيلون أطفالهم، وحالتهم المادية ضعيفة، ففكرت بالعمل لكنني أصبحت شيخاً وغير قادر على عمل شيء".
وأضاف خلال حديثه لرصيف22: "حاولت الحصول على راتبي منذ سنوات باعتبار أنني كنت أحد الجنود المشاركين في الثورة، وخسرت مئات الآلاف دون الحصول على شيء".
يقلب عبد الرحيم بين القنوات الإذاعية المختلفة، يبحث فيها عن أي صوت ينشد السلام في اليمن، يقول: "كل الأصوات تدعو الى الحرب، فأرجع أبحث عن أغان يمنية قديمة، للعودة إلى الزمن الجميل"
"فئة المسنين غير قادرة على تحمل هذه الظروف القاسية، وباتت الحرب جحيماً عليهم، حيث توفي العشرات منهم بسبب تفشي الأوبئة والأمراض الأخرى، لعدم وجود الرعاية الصحية ونقص الأدوية"
يعود الحيمي مساء كل يوم، بجسمه النحيل وملابسه الرثة، وشعره الأبيض الذي يملأ رأسه ووجه، إلى غرفته الصغيرة، وقد اشترى بعض الأطعمة وعلبة دخان لتدفئة جسده، في محاولة كبيرة للتشبث بالحياة.
مركز وحيد لرعاية المسنين في اليمن يقع في محافظة عدن جنوبي اليمن، هو ما يعرفه اليمنيون، بالإضافة إلى ثلاثة مراكز أخرى في محافظات أخرى تتحدث الأخبار عنها، لكنها غائبة عن استقبال المسنين ورعايتهم.
وتشير تقارير محلية إلى أن نسبة كبار السن (65 عاماً وما فوق)، من إجمالي عدد السكان البالغ تعدادهم 30 مليون نسمة في اليمن، 4%، وهو عدد يتجاوز المليون مسن، يفتقر معظمهم للرعاية الغذائية والصحية، ويكافحون من أجل البقاء على قيد الحياة فقط.
"أعمل نهاراً وأعتني بزوجتي ليلاً"
الحاج علوان محمد، موظف في صندوق النظافة والتحسين، في محافظة أب وسط اليمن، لكنه لم يستلم مرتبه منذ ثلاث سنوات، عدا بعض الشهور التي استلم فيها نصف مرتب، ناهيك أن الراتب، ثلاثين ألف ريال يمني، (50 دولار أمريكي)، لا يفي بمتطلبات الحياة.
أثناء عمله في النظافة يجمع الحاج علوان (67 عاماً) العلب البلاستيكية من الشوارع في أكياس كبيرة، ويضعها على سطح منزله، بالإضافة إلى جمع الأدوات المعدنية التالفة أو أسلاك النحاس، ومن ثم يبيعها لتوفير الطعام والشراب.
يعيش علوان هو وزوجته المسنة في منزل صغير بمدينة أب، حياة جميلة، لولا الاضطراب النفسي الذي ينتاب زوجته بين الحين والآخر.
"تحتاج زوجتي للرعاية الصحية والعلاج بسبب صدمة تعرضت لها قبل زواجي منها، فتأتيها نوبات عصبية أحياناً وترفض الأكل، وتبقى عدة أيام بلا نوم"، يقول علوان في حديثه لرصيف22.
لدى علوان ولدان من زوجة أخرى، يعملان في صالون لحلاقة الشعر، ويعيش كل واحد في منزل مستقل مع زوجته وأطفاله.
كما أن لزوجته أيضاً ولدين من زوجها السابق، وهما يعيشان في محافظة تعز، وحياتهما جيدة، ويساعدان والدتهما بتوفير العلاج لها.
"بسبب مرضها النفسي، وتقدم العمر، تفقد زوجة علوان ذاكرتها، ولا يوجد من يعتني بها غيره".
أحياناً، بسبب مرضها النفسي، وتقدم العمر، تفقد زوجة علوان ذاكرتها، ولا يوجد من يعتني بها غير زوجها الذي يكدح منذ الصباح حتى المساء من أجل توفير الطعام والعلاج، حسب حديث علوان.
وعند سؤالنا عن تقديم أولاده المساعدة له، قال علوان بنبرة حزينة بعد أن توقف عن الحديث برهة من الوقت: "ما أحد ينفع أحد".
ويضيف علوان: "الحياة تحتاج إلى كفاح والحمد لله، وما يكدر السنوات الأخيرة من عمري هو مرض زوجتي، ومؤنستي في وحشتي".
وبحسب الناشط الاجتماعي عبد الرقيب القادري، فإن المعاناة التي يواجهها كبار السن في اليمن كبيرة، بسبب إهمال الدولة لهذه الفئة وتغيبها من قبل المنظمات الإنسانية الدولية والمحلية.
وشدد القادري على أن سكان اليمن جميعهم يعانون جراء الحرب، من الفقر، وتفشي الأمراض، والأوبئة، والنزوح من منطقة إلى أخرى، لكن فئة المسنين غير قادرة على تحمل هذه الظروف القاسية، وباتت الحرب جحيماً عليهم، حيث توفي العشرات منهم بسبب تفشي الأوبئة والأمراض الأخرى، لعدم وجود الرعاية الصحية، ونقص الأدوية.
ويشير عبد الرقيب أن الدستور اليمني لم يضع قوانين تكفل لكبار السن حقوقهم، ويتوجب على مؤسسات الدولة رعايتهم، باعتبار أنهم قضوا حياتهم في خدمة بلادهم.
"يعتمد المسنون في اليمن على ما ادخروا من أموال لعجزهم، بالإضافة إلى اعتمادهم على أبنائهم، حيث يوجب الدين الإسلامي رعاية الوالدين والبر بهما"، يقول القادري لرصيف22.
ويستدرك قائلاً: "لكن هناك من لا يملكون المال، ولا ينجبون أطفالاً، أو يرزقون بأبناء عاقين، أو تكون حالة أبنائهم المادية سيئة، فلا يستطيعون العناية بهم أو توفير الغذاء والدواء لهم، فيضطرون للعمل في مهن شاقة أو التسول".
ولفت إلى أن الحرب فاقمت من معاناة أكثر من مليون مسن في اليمن، بل إنها أفقدتهم قضاء حياة الشيخوخة تحت رعاية أبنائهم والاستمتاع بما تبقى من أعمارهم.
وطالب القادري بضرورة وضع قطاع في صندوق الرعاية الاجتماعية للاهتمام بكبار السن، واعتماد مرتبات شهرية لهم، وأيضاً تقديم مؤسسات الدولة خدماتها لهم مجاناً، خاصة الذين لا يعيشون مع أبنائهم وعائلاتهم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ يومالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يومينوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت