شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
أنسنة الشر... الشر كطفولة متمردة، وكتجربة إبداعية، وكسؤال أخلاقي

أنسنة الشر... الشر كطفولة متمردة، وكتجربة إبداعية، وكسؤال أخلاقي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

السبت 18 يناير 202006:14 م

"الأدب هو العثور ثانية على الطفولة المضيعة،" جورج بتاي.

فيديو لقاء مع جورج بتاي عن كتاب "الأدب والشر":

في كتابه "الأدب والشر" نجد الصيغ المتميزة، والتأويلات الشديدة الخصوصية التي قدمها وعرف بها جورج بتاي، في قراءته لتاريخ الأدب، وخصوصاً تلك التي أعطت القراءات النقدية ما بعد الحداثية، في النصف الثاني من القرن العشرين، زخمها في استعادة قراءة خاصة للأدب والفن. وجورج بتاي الذي ساءل الأدب إيروسياً، وساءل الفن عبر طرح أسئلة الفلسفة عن الجيد والسيء، يخصص في هذا الكتاب موضوعة الشر الإنساني ليعمل على أنسنتها. لذلك، هو يتناول في هذا الكتاب التجارب الإنسانية والإبداعية التي صنفت على أنها شرور، وفق النظم الأخلاقية السائدة في عصرها، محاولاً أن يظهر الاستثنائي والإبداعي فيها. فتارة يبرر الشر بالطفولة المتمردة على عالم البالغين، وتارة أخرى يربط الشر برغبة الفنان بالتجريب والإبداع إلى الحدود القصوى، لاختبار الإنسان، أخلاقه، وقيمه إلى درجة القصوى من شجاعة الهلع.

برونتي: رفض النضوج دفاعاً عن مملكة الطفولة

في روايتها "مرتفعات وذرينج"، ابتكرت إيميلي برونتي شخصية "هتشكليف"، فالرواية تفتتح بالحب الطفولي بين "كاترين وهتشكليف"، يتركز في الرواية الحب الحسي في عالم الطفولة البريء، وكلما تصاعدت الأحداث تختفي العوالم الطفولية متجهة إلى مرحلة البلوغ والنضوج، وتتوقف الروائية عن وصف العوالم الحسية كلما ابتعدت عن مرحلة الطفولة. وذلك للقول بأن العالم الطفولي هو وحده القابل للتواصل مع الحب الحسي، أم ما يتلوه فهي المراحل التي تقمع هذا الحب وتؤطره.

كذلك هي مقولة شخصية هتشكليف، بعد أن يعيش تجربة الطفولة مع كاترين، وعودته من السفر يجدها قد تزوجت، وإثر ذلك يرفض التخلي عن الطفولة ويرفض الدخول في عالم النضوج. إنه تمرد يرغب من خلاله البقاء في العالم الطفولي، وهذا ما يعتبر تمرداً ملعوناً على النظام الأخلاقي، هكذا وصفت إميلي برونتي الشر، بوصفه رفضاً للجبرية وحفاظاً على المملكة الطفولية الحسية، لأن عالم العقل عالم متآلف مع الاعتباطي في نظرها، عالم ناتج عن حالات العنف وقيم الماضي المفروضة. هكذا مع رفض شخصية هتشكليف الانخراط في عالم الكبار، يصبح منذوراً للتمرد الملعون.

ويشابه جورج بتاي بين "مرتفعات وذرينج" والتراجيديا الإغريقية، في كلاهما الانتهاك المأساوي للقانون، وفي كلاهما يتم التعاطف مع منتهكي القانون المتروكين لمصيرهم المأساوي، يصبح الأدب نوعاً من اختبار خروج الذات الإنسانية عن القانون، لذلك يكتب: "الأدب وحده يستطيع تقديم لعبة انتهاك القانون بعريها- التي من دونها لن يكون هناك للقانون من غاية- باستقلال عن نظام الخلق".

"يتمتع الشر الذي يعبر عنه الأدب، بالقيمة السامية"

بودلير: ارتكاب الشر لمساءلة الخير ومراقبة الذات

حدد سارتر بعبارات دقيقة الموقف الأخلاقي لبودلير: "ارتكاب الشر من أجل الشر، هو القيام بدقة متعمدة بعكس ما نستمر في التأكيد عليه باعتباره الخير"، يعتبر سارتر أن الحرية هي الاختيار الفردي، وبما أنها مغلوطة إلى ما لا نهاية، بهذا تكون متفردة، إنه عبر الاختيار الخاطئ تظهر الفردية، وبالتالي تتجلى الممارسات الحرة، وهؤلاء الذين يرتكبون الشر كخيار تجريبي واعي، هم من يعترفون بالخير، لأنهم يقرون بأن الشر نسبي ومنحرف، وسيكون لا شيء لو لم يكن الخير موجوداً. وهذه النظرة الدقيقة هي التي يقرأ من خلالها شخصية بودلير وشعره.

أيضاً بودلير لم يتجاوز أبداً محطة الطفولة، وهو يحدد العبقرية باعتبارها الطفولة المستعادة بإرادة ومنظور إليها من زاوية الإيمان، لكن إذا ما كبر الطفل وتجاوز برأسه رأس والديه وتطلع من فوق كتفيهما، سيكون لديه الوقت لرؤية أن ليس هناك شيء خلفهما. ولذلك اختار بودلير أن يعيش حريته المرعبة، وهذه الحرية هي جوهر الشعر عند بودلير، لقد حاول التأكيد على أن الحرية هي جوهر الشعر.

إن اعتبار العبقرية هي قدرة الاحتفاظ بعالم الطفولة، واختيار التمرد الشرير على العالم العقلاني، مكن بودلير من اكتساب تقنيات التأمل والمراقبة المستمرة للنفس أثناء الفعل. لذلك، يرى بودلير أن على الإنسان ألا ينسى نفسه، أن ينظر إلى نفسه وهي ترى، وينظر لكي يرى نفسه وهي تنظر. بودلير يرغب بإبقاء الأشياء والأحداث والتجارب في إطار الوعي، وكأنه ينظر إليها من خلال عدسات، إنه بارع في إحالة الأشياء إلى الوعي لمساءلتها، وبارع في تأمل النفس لحظة الفعل لمساءلة أفعالها كذلك. وهكذا يعتبر بودلير الشعر خلقاً، وبلغة الفلسفة هو محاولة المزج بين الذات والموضوع مما يتطلب زحزحة كل منهما لنفسه وتجاوزها من أجل اللقاء بالآخر.

عبر ديوانه الأبرز "أزهار الشر" حاول بودلير تجريب الشر الواعي لمساءلة الخير، وذلك يبرز من عنوان الديوان، من ذلك التجاور بين رمز الجمال والخير "الأزهار"، وبين الشر. تجريب الشعر بما هو نقيض للشعر، وهو ما يراه سارتر محاولة لمساءلة العالم الأخلاقي والجمالي عبر التجريب الشعري، واعتبره أنه مشروع شعري يقارب الغاية بالمستحيل، يدلل عليه بما كتبه بودلير: "حينما كنت صغيراً تماماً، شعرت بأن في قلبي عاطفتين متناقضتين، الرعب من الحياة، ونشوة الحياة".

ميشله: الفن في اختبار الخوف والقلق

ليس الشر الذي تكلم عنه "ميشله" هو ذلك الشر الذي نرتكبه باستخدامنا للقوة التعسفية على حساب من هم ضعفاء: فهذا الشر، على العكس من ذلك، لا يذهب نحو المصلحة الخاصة، التي تفرضها الرغبة الجنونية للحرية. لقد لمح ميشله الانحراف الذي وصل إليه الخير، والذي حاول، لو كان قادراً، تبريره، فابتكر حكاية تلك الساحرة الضحية التي ماتت وسط رعب لهب النار. فجسدت الساحرة بذلك الإنسانية المعذبة التي يلاحقها الأقوياء. لذلك تسمح دراسة رواية "الساحرة" بالحديث عن الشر عقلانياً، برأي بتاي.

ليشرح جورج بتاي أهمية العوالم السحرية الجهنمية الغرائبية التي ابتكرها ميشله في روايته "الساحرة"، يبدأ بالخوف الإنساني من الموت أو العجز. فما يخافه الأغنياء من مصير الفقراء هو اقترابهم من الموت، وكذلك خوف المدراء من الوقوع في مصير الشغيلة المعرضين أكثر للموت، يبقيهم عاجزين عن مواجهة الفقر والموت. لكن الرغبة الحقيقة في تجاوز القلق والخوف تتطلب المجابهة، وهذا ما يمكن أن تحققه لنا الفنون، التي يكون تأثيرها في قاعات العرض، إيصالنا إلى أقصى درجات القلق. فالفنون تذكر بأشكال الفوضى، التمزقات والإخفاقات، لكنها تمكننا من مواجهتها سواء عبر التراجيديا أو عبر الكوميديا. لذلك يعتبر جورج بتاي أن رواية "الساحرة" هي محاولة لمواجهة القلق والرعب عبر الفن للتدرب على تجاوزهما.

بليك: الشعر في العبور إلى المطلق

في الوقت الذي عُرّف فيه المجنون على أنه ذلك الفرد الغارق في رموز اللاوعي، فإن ويليام بليك عبر قصائده، ذهب في مغامراته بعيداً إلى هاوية اللاوعي، ومع ذلك حافظ على سلامة عقله. وقد تمتع بليك أيضاً بالحس الطفولي، وهو حس سليم لا يمكن إنكاره، لكن لا يمكن أيضاً أن تسند له أمر إدارة شؤون الحياة. فحسب بتاي يظل الشاعر قاصراً إلى الأبد: يتولد عن هذا تمزق، هذا التمزق نسج حياة وعمل وليم بليك الذي لم يكن مجنوناً كما كتب عنه الكثيرون، لكنه كان يقف عند حدود الجنون.

لأن سعي بليك كان إلى الشعر الذي يحطم الحد القائم ما بين الأشياء، الشعر الذي وحده يتمتع بقدرة جعلنا نشعر بغياب الحدود في مساحات الوعي. وهكذا كانت غاية قصائد بليك هي الكشف عن الجانب الذي يتلاقى فيه الشعر بالمقدس، معتبراً أن كل ما هو مقدس شعري، وكل ما هو شعري مقدس.

الدين هو نتاج للعبقرية الشعرية، وليس هناك من شيء في الدين لا ينطوي عليه الشعر، ولا شيء يربط الذات بالإنسانية والإنسانية بالكون كالتجربة الشعرية

لقد اختبر بليك ذلك الجانب في الشعر الذي يربطه بالدين، فبرأيه أن الدين هو نتاج للعبقرية الشعرية، وليس هناك من شيء في الدين لا ينطوي عليه الشعر، ولا شيء يربط الذات بالإنسانية والإنسانية بالكون كالتجربة الشعرية. لقد بحث في الشعر عن تلك القدرة التي للتجربة الدينية الصوفية، والتي تدفع خارج النفس باندفاعات عظيمة، يكف معها الموت أن يكون نقيضاً للحياة. حاول بليك إعادة توحيد الدين والشعر، ليمنح الدين حرية الشعر، ويمنح الشعر تلك الطاقة الأصلية في فهم الكون.

يكتب بليك:

للقسوة قلب إنساني

وللغيرة شكل إنساني

للرعب شكل إلهي إنساني

وللغرابة رداء الإنسان.

ساد: الخير والشر كسؤال أخلاقي

طالما اعتُبر الماركيز دو ساد شريراً، لكن بتاي يربط بين كتابات ساد وازدهار الفنون والآداب مع الثورة الفرنسية. فيعتبر أدب ساد من فنون الثورات التي تمنح العقل تلك الهزة التي تقدمها لنا أشكال لا نحصل عليها عادة إلا عبر التخيلات. لذلك كان قادراً على مساءلة الشر وتصويره وجعله مضحكاً، الشر الذي لم يكن قادراً على إدانته، ولم يكن بإمكانه تبريره. كتب ساد في رسالة: "آه أيها الإنسان، هل يرجع لك أمر الإعلان عما هو خير وعما هو شر! أنت ترغب في تحليل قوانين الطبيعة، وقلبك الممهورة فيه هو ذاته لغز لا يمكنه تقديم حل". تبدو النقطة الوحيدة التي كان يثق بها ساد هي أنه ليس هناك أي مبرر للعقوبة، أو على الأقل العقوبة الإنسانية.

هكذا يتابع جورج بتاي في كتابه "الأدب والشر" داخل حكايات شخصيات الأدباء، أو أعمالهم الفنية التي وسمت بالغرابة والتمرد الملعون، وبأنها محض شر، ليستخرج منها ما هو إنساني، طفولي، متعوي وتجريبي. ومن بين التجارب الأدبية الأخرى التي يعالجها بتاي في الكتاب، تجربة "مارسيل بروست، جوزيف كافكا، وجان جينيه".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard