يأتي هذا المقال ضمن الملفّ المُعدّ لشهر ديسمبر 2019, في قسم "رود تريب" بـرصيف22، والمعنوَن: "فلنتسكّع معاً في الشّوارع".
يعرف عن إسطنبول أنها المدينة التي تألفكم وتألفونها بجوامِعها وكنائسها ومتاحفها ومبانيها وشوارعها وأزقتها وأحيائها القديمة التي تحمل إلى الزائرين نسائمَ ماضٍ ثريّ بالأحداث التاريخية والتعايش الإنساني والتلاقح الثقافي والديني الحضاري.
كانت هذه هي ثالث مرة أزور فيها اسطنبول. طالما سمعتُ أن إسطنبول عي تلك المدينة الساحرة التي تأسر قلوب زوّارها، فمن يزورها مرّة سيعود لزيارتها مرات أخرى، وكان هذا هو الحال بالنسبة لي، والجميل في زيارة إسطنبول أنكم في كلّ مرة تعيشون دهشتكم الأولى.
لمعرفة إسطنبول كان لابدّ من المرور بأحيائها القديمة في القسمين الأوروبي والأسيوي، فمعرفة هذه الأحياء تعني فهمَ التاريخ الحقيقي الزاخم للمدينة، لأنها مناطق تحتضن مجموعات دينية وعرقية مختلفة تعايشت مع بعضها لقرون من الزمن، ما أنتج منها مزيجاً فريداً من الألوان والأبنية التاريخية.
حيّ "البلاط" ملحمة عشق وتاريخ خالدة
بين منطقتي " أيوان سراي" و" فنار" التارخيتين يقع حيّ "البلاط" أقدم أحياء المدينة وأعرقها. يطلّ البلاطُ على خليج القرن الذهبي، ويضمّ مواقع أثرية هامة، إسلامية ومسيحية ويهودية.
لا يمكن لمن يسيرون بين أزقّة الحي ومنازله القديمة الملونة، ومبانيه التاريخية والكنائس الأرثوذكسية، ومدارس ومعابد الجاليات والأقليات اليهودية واليونانية والأرمنية، ألّا أن يشعُروا بثقلِ هذا الحي الديني والحضاري والثقافي، وكيف كان شاهداً على الحقبة البيزنطية والعثمانية، وكيف انتقل من كونه موطناً لنخبة التجار إلى ملجأ للمغتربين.
أمّا من يعشقُ التاريخ، فلا بدّ أن يشرب فنجان شاي تركي في مقهى نيست Nest cafe ليتذكر مقولة السلطان محمد الفاتح عندما قال "أيتها القسطنطينية إما أن تأخذيني أو آخذك".
لا يمكن لمن يسيرون بين أزقّة الحيّ ومنازله القديمة الملوّنة، ومبانيه التاريخية، ومدارس ومعابد الجاليات والأقليات اليهودية واليونانية والأرمنية، ألّا أن يشعُروا بثقلِ هذا الحي الديني والحضاري والثقافي
وباعتبار أن الحيّ كان يسمّى بحيّ اليهود، لكون تاريخه يعود إلى عهد السلطان العثماني "بايزيد الثاني" حيث استقبل فيه الحماعات اليهودية الهاربة من إسبانيا بعد سقوط الأندلس وسكنوا في الحي. يوجد في الحيّ ثلاثة معابد وكنائس لليهود، أبرزها "معبد أهريد"، وهو المعبد الذي بُني في القرن الخامس عشر، ويتميز بشكله المشابه لمقدمة السفينة، وتتعد الروايات حيث يقول البعض إنها سفينة نوح، في حين يقول البعض الآخر أن شكل السفينة ترمز إلى السفن العثمانية التي حملت المهاجرين اليهود الذين تمّ طردهم من الأندلس.
وأنتم تستأنفون السير بين أزقّة الحيّ الضيقة والعالية، ستجدون العديد من محلات "الأنتيكا" أو محلات المقتنيات العتيقة، تغريكم بالابتياع منها تذكارًا؛ أهمّ هذه المقتنيات تماثيل تخلد قصص الحيّ التاريخية بين اليهود والمسيحيين، فتجدون نجمة داوود تجاور الصليب، كما تجدون أيضاً تذاكير لشعار الإمبراطورية العثمانية الذي يحمل علم الخلافة تحت شعار "الدولة الأبدية".
يتميز " البلاط" بإطلالة جذابة، لكونه يتوفر على قمة عالية تسمى تلة "المُلّا عشقي"، المطلة على المنظر الساحر للقرن الذهبي، هذا المنظر الذي يشكّل البوابة الأولى لمضيق البوسفور. وهنا تجدون سيّاحاً يتوافدون على المكان لالتقاط صور تذكارية توثّق للحظات كان زائر الحيّ فيها منفصلاً عن الواقع و محلقاً في عالم الخيال.
كوزكونجوك... عراقة وبحر وجمال
في الجانب الأسيوي على جنبات مضيق البوسفور في منطقة اوسكودار بالقسم الأسيوي يتربّع واحد من الأحياء الإسطنبولية القديمة. هنا في حيّ "كوزكونجوك"، بين سحر ألوان البيوت والأبواب والبنايات لابدّ أن تقعوا في حبّ الهدوء والسكينة والأزقة الضيقة التي لا تتّسع إلا لعاشقين اثنين، فيما تختبئ في جنبات الأرصفة عراقة الأناضول وتاريخ العثمانيين. فكلّ م افي هذا الحيّ من بيوت ملونة ونوافذ ومكتبات ومقاه ومحلّات العطارين يشعركم بأنكم ضمن عمل روائي رومانسي حالم، أو أنكم شخصيات هاربة من روايات الأطفال وقصصهم.
مشاهدة قصر "دولمة بهتشه" وقصر "تشيراغان" على الضفّة الأوروبية المقابلة من الطريق الساحلي للحيّ، و البيوت الخشبية التاريخية فيه، والتي تمّ ترميم بعضها لتتحوّل إلى مقاهٍ، مصدر قويّ للإلهام
تعني كلمة " كوزكونجوك" في اللّغة التركية، "الغراب الصغير"، ويُحكى عن الرحالة التركي "أولياء تشلبي"، أن الحيّ أخذ اسمه من رجلٍ صالح لُقّب بذلك اللقب، سكن الحي في زمن محمد الفاتح. وكان أول من سكن هذا الحيّ هم اليهود، حتى إنّه وُصف في القرن السابع عشر بأنّه قرية يهودية، وهو يحمل أهمية كبيرة بالنسبة إلى يهود أوروبا فهُم يعتبرونه الثاني في الأهمية بعد الأراضي المقدّسة.
أما في العصر البيزنطي، فكان يسمّى بـِ"هريسوكيراموس"، والذي يعني "البلاط الذهبي"، نسبةً للكنيسة ذات السّقف المُذهب الموجودة بالحيّ. ويتشابه حيّ كوزكونجوك مع حيّ البلاط في تلاقي الأديان الثلاثة، وأنت تتجوّل بين أزقّته ستجد الجامع، وكنيسة الأرمنية، والكنيسة الرومية، والمعبد جنباً إلى جنب.
كوزكونجوك... حي الإلهام الأدبي
من الغريب ألا تجدوا شخصية من الشخصيات الروائية أو الشعرية لم تمرّ من هنا، فجميع العوالم الروائية والشّعرية في هذا الحيّ كاملة، انطلاقاً من الأشجار المعمرة، وسط الأزهار العطرة و الإطلالة على البوسفور، والتي تعانق زرقة السماء مع البساط العشبي كأنها تفرز هرمون الإلهام في هذه المدينة وهذا الحيّ بالذات.
بالإضافة إلى ذلك، مشاهدة قصر "دولمة بهتشه" وقصر "تشيراغان" على الضفّة الأوروبية المقابلة من الطريق الساحلي للحيّ، و البيوت الخشبية التاريخية فيه، والتي تمّ ترميم بعضها لتتحوّل إلى مقاهٍ، مصدر قويّ للإلهام.
ليتأكد لي على أن هناك الكثير من الشخصيات الشهيرة من شعراء وأدباء أتراك وعالميين كانوا يزورون الحي، كما عاش فيه الكثير من الفنانين والكتّاب، وكان الحي موضوعاً للعديد من الكتب من بينها كتاب "كوزكونجوك ملتقى الأديان الثلاثة" لـ"ناظم حكمت".
وكان قد أمضى الكاتب والشاعر العالمي ناظم حكمت (1902 ـ 1963)، والذي يُعتبر واحداً من أبرز الشعراء الاشتراكيين الرومانسيين في العالم، والذي عرف بارتباطه بمدينة إسطنبول بشكلٍ عام، وبهذا الحيّ بشكل خاص، بالرغم من ولادته في اليونان حيث قضى قسماً من طفولته في الحيّ لدى زيارته لأقربائه القاطنين فيه.
إذا تعبت أقدامكم خلال تجوّلكم بين أزقة الحيّ وجنباته، لابدّ من أن تستريحوا في إحدى المقاهي الكلاسيكية الموجودة في الحيّ مثل مقهى Bizzkafe الذي يختصّ في تقديم القهوة التركية المشهورة، إضافة إلى أشهى الحلويات المختلفة، فجلوسكم على إحدى الطاولات الموضوعة على الرصيف الخارجي للمقهى وسماعكم للموسيقى التركية الكلاسيكية، يمنحكم شعوراً بالهدوء والسكينة والأمان. ثمّ وأنتم ترتشفون قهوتكم ستلاحظون كيف يتبادل أصحابُ الحيّ وسكّانُه، بمختلف أطيافهم، التحيةَ فيما بينهم بحبّ وودّ كبيرين، وكيف لأهل هذا الحيّ أن يحبوا العمل والنشاط والنظام.
وأنتم في Bizzkafe، ستقع أنظاركم على لوحة معلقة فيها صورةٌ لناظم حكمت، ومقولته التي قال فيها: Bu şehir güzel Senin yüzünden أي "هذه المدينة جميلة بسببك".
ليكتشف الجالسون هنا، أن المشي على القدمين في ثنايا إسطنبول وبين أزقّتها وأحيائها، تشعرهم أنهم وسط ملحمة تاريخية خالدة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...