شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
عند تبلغه بالخلافة أطبق المصحف وقال

عند تبلغه بالخلافة أطبق المصحف وقال "هذا فراق بيني وبينك"... الخليفة "البراغماتي" عبد الملك بن مروان

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الاثنين 6 يناير 202004:43 م

في رمضان عام 65 هـ، دخل زعماء بني أمية ورؤساء القوم وأمراء الجنود على ولي العهد عبد الملك بن مروان وهو جالس في دار الخلافة في دمشق، ونصّبوه خليفة على المسلمين.

وجد الخليفة الجديد نفسه على أعتاب دولة تختلف كلياً عما كانت عليه في ظل من سبقوه. كانت أكثر انقساماً؛ ففي الحجاز والعراق ومصر كانت السيطرة لعبد الله ابن الزبير، بينما هي للخوارج "الأزارقة" في الأهواز، وثمة دولة أخرى لخوارج "النجدات" في جزيرة العرب، ودولة الشيعة في الكوفة في العراق، وقد وجد عبد الملك بن مروان نفسه مسؤولاً عن بعض أجزاء من الشام وسط اعتراض عدد كبير من رجال الدين على مبايعته.

ولد عبد الملك بن مروان عام 26 هـ مع يزيد بن معاوية، وخلال حياته قبل الخلافة كان زاهداً إذ تذكر روايات عدة أنه كان دائم العبادة، ومن أفقه أربعة في المدينة كما كان من الملازمين للمسجد، والمقرئين للقرآن.

وذكر ابن كثير في "البداية والنهاية" أن "نافع قال لقد رأيت المدينة وما فيها شاب أشد تشميراً ولا أفقه ولا أقرأ لكتاب الله من عبد الملك بن مروان"، وفي رواية أخرى عن ذكائه ذكر أن ابن عمر قال: "ولد الناس أبناء وولد مروان أباً"، وذلك دلالة على تفوق عبد الملك على أقرانه.

هجرة آل مروان... مصادفة قدّرت العودة للحكم

مات يزيد بن معاوية عام 64 هـ، وسريعاً أُعلن عبد الله ابن الزبير خليفة على المسلمين، في وقت هاجر مروان بن الحكم وآله من المدينة إلى دمشق التي لم تستقر على مبايعة ابن الزبير أسوة بأهل الحجاز والعراق ومصر واليمن وخراسان.

وكانت الشام قد بقيت ستة أشهر من دون خليفة، وذلك حتى مؤتمر "الجابية" الذي استمر 40 يوماً بايع خلاله أهل الشام مروان بن الحكم خليفة عليهم.

تولى مروان وعّين ولده عبد الملك والياً على فلسطين، لكن عبد الملك كان يبعث روح بن زنباع نائباً عنه كي يتفرغ لمساعدة والده في دمشق، لا سيما أنه في تلك الفترة كانت الدولة غير مستقرة.

وأثناء الأشهر الأولى لتولي مروان بن الحكم الخلافة ذهب إلى مصر في محاولة لاستردادها من عبد الرحمن بن جحدم الفهري، والي ابن الزبير، حينذاك تولى عبد الملك مهمة إدارة دمشق التي كانت مقراً للخلافة، ولم يكمل مروان بن الحكم عاماً في الخلافة وتوفي، لتنتقل الخلافة في سلاسة إلى عبد الملك.

من فقيه إلى سياسي

بحسب الباحث والمفكر الإسلامي أحمد صبحي منصور، عاش عبد الملك بن مروان في المدينة التي كانت مركز المعارضة للأمويين، وبرز فيها علماء منهم سعيد بن المسيب القرشي المخزومي، بالإضافة إلى شهرة ابن عباس وابن عمر وابن عمرو.

وكان عبد الملك قبل الخلافة يستعيذ بالله أن يبعث الخليفة إلى مكة جيشاً ليقتل ابن الزبير ومن معه، وكان يرى في ذلك إثماً كبيراً، حسب ما ذكر السيوطي في كتاب "تاريخ الخلفاء".

وأشار منصور الذي يترأس "المركز العالمي للقرآن الكريم" في حديثه لرصيف22 إلى رواج الوقائع التي وصفت ورع عبد الملك، معتبراً أنها كذبة كبرى اخترعها عصر تقديس من أسموهم بالسلف الصالح من الصحابة والتابعين، فقد أوضح أن الحكم على عبد الملك يكون من خلال أفعاله، إذ "كان مستبداً سفاكاً للدماء شأن من يوطّد دولة لكنه لم يكن عبد الملك حاكما كهنوتياً".

وفي تفسيره للأمر، قال منصور: "إذا كان عبد الملك يقتل من يشاء بقانون القوة فإن أبا جعفر المنصور كان يسفك الدماء وينقض العهود مثل عبد الملك وأكثر لكن ليس بقانون القوة بل بقوة القانون الشرعي الذي يصنعه له فقهاؤه بأحاديث يخترعونها".

وبجانب الفقه والدين، انخرط عبد الملك في السياسة. وبحسب الباحث التاريخي سامح عسكر خلال حديثه مع رصيف22، فإن "عبد الملك كان قائداً أموياً في جيش معاوية إلى أفريقيا وفي الهجمات على البيزنطيين، وبالطبع أكسبه ذلك خبرة إدارية كبيرة".

من أجل الخلافة... "هذا آخر العهد منك"

تعامل عبد الملك مع الدين كان غير ثابت، وذلك حسب كتب التراث التي تنقل رواية هجره للقرآن، ومفادها أنه كان يضع مصحفاً في حجره حين تبلّغ بالخلافة فأطبق المصحف وقال: "هذا آخر العهد منك" وفي روايات أخرى قال: "هذا فراق بيني وبينك". فهل يكون بذلك قد وضع الدين جانباً في بداية فترة حكمه ليثبت قواعد حكمه؟

بعد توليه الخلافة، انقلب عبد الملك إلى حاكم لا تأخذه في توطيد المُلك لومة لائم، بحسب منصور الذي يرى أن تركه المصحف يتسق مع خروجه عن شريعة القرآن، مذكراً بقصة الوليد، حفيد عبد الملك، التي نقلها ابن الأثير، ومفادها أنه فتح المصحف فوقع نظره على آية "واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد" فألقاه، ورماه بالسهام، وقال:

تهددني بجبار عنيد فها أنا ذاك جبار عنيد

إذا ما جئت ربك يوم حشر فقل يا رب مزقني الوليد

إلا أن عسكر يشكك في الواقعة السابقة، ويظن أنها مدسوسة على خلفاء بني أمية، ويرى أنه "بالرغم من بشاعة بعض خلفاء الأمويين، كانوا يحرصون في جرائمهم على وجود قبول مجتمعي وسياسي وديني، ولا يقومون بهذه الطريقة الغبية التي كانت ستثير حفيظة رجال البلاط والفقهاء من حولهم".

"كان سياسياً براغماتياً"

بعد كل تغيير سياسي تقع الدولة في مرحلة عدم استقرار حكم وانهيار مؤسسات، ثم يأتي حاكم قوي يستفيد من كراهية الناس للفوضى فيتعزز سلطانه بوجود خصومه وقوتهم وتهديدهم للدولة.

بحسب عسكر، فإن عبد الملك كان من هؤلاء، إذ انتقلت إليه السلطة من أبيه مروان بعد مرحلة فوضى بدأت بتولي يزيد بن معاوية الحُكم وكراهية الناس له ثم التفاف البعض منهم حول الإمام الحسين وصولاً إلى تمرد ابن الزبير.

اختلفت مواقف عبد الملك وهو خليفة عن مواقفه وهو فقيه، فعلى سبيل المثال يقول عسكر إن "عبد الملك كان ذكياً في إدارة صراعاته ومعاركه، ولا يظن أن الرواية المنقولة عنه لو صدقت تتعارض مع براغماتيته وعقليته الشهيرة في التراث، فالرجل كان يتعامل بالقطعة ولا ينظر للسياسة بشمولية بل يمكن اعتباره نسخة ثانية من معاوية بن أبي سفيان، أي يمكن تبرير إنكاره على يزيد وفي نفس الوقت إيجاد تبرير آخر ويكون معقولاً لما فعله في مكة مع ابن الزبير".

"تعامله مع الدين كان غير ثابت، وذلك حسب كتب التراث التي تنقل رواية هجره للقرآن، ومفادها أنه كان يضع مصحفاً في حجره حين تبلّغ بالخلافة فأطبق المصحف وقال: "هذا آخر العهد منك"... عبد الملك بن مروان، "البراغماتي" الذي فصل القرآن عن السيف
استطاع عبد الملك بن مروان خلال فترة حكمه 21 عاماً أن يعرّب الدواوين كما صكّ أول دينار إسلامي، لكن يذكر التاريخ له تشييد مسجد قبة الصخرة الذي يُقال إنه أراد به نقل الحج إلى فلسطين لمواجهة ابن الزبير

ويفسر منصور تغيير عبد الملك لموقفه بأنه ليس تناقضاً، موضحاً: "عبد الملك كان يتصرف بما يراه مناسباً للظروف، كان سياسياً براغماتياً، عنده كل الوسائل مبررة ما دامت تحقق له هدفه النهائي، وهو أن ينفرد بالحكم مستبداً".

سياسة عبد الملك التي اتسمت بالقوة خلال فترة خلافته أرجعها البعض إلى فترة كانت تحتاج إلى مواقف حادة وقوية، كما يقول رئيس "الجمعية المصرية للدراسات التاريخية" أيمن فؤاد سيد لرصيف22، لافتاً إلى أن اتجاه عبد الملك إلى القوة كان السبيل الوحيد لإعادة جمع شتات الدولة الإسلامية.

ويوضح سيد أن "عبد الملك كان يواجه جماعات خرجت عن الدولة متمردة، كما أن مكة (مركز الحج) كان قد احتلها عبد الله بن الزبير وكان يروج لأفكاره هناك وينكر على عبدالملك خلافته، لذلك لم يكن أمامه إلا أن يتعامل بالقوة".

القتل من دون فتوى

يُعد عبد الملك موطّد الدولة الأموية بعدما قضى على أعدائه باستغلال كل الوسائل المتاحة، بحسب منصور الذي يوضح كيف ترك عبد الملك مصعب بن الزبير (والي العراق لأخيه عبد الله بن الزبير) يحارب الخوارج ويواجه الشيعة غارقاً في مستنقع العراق، وكان يعني وقتذاك العراق الحالي وما بعده شرقاً في إيران وخراسان وأواسط آسيا، ثم انقض عليه بعدما أنهكته الحروب فهزمه، وبعد ذلك تفرّغ للقضاء على عبد الله بن الزبير فقتله عام 73 هـ ليصبح الخليفة الوحيد.

يرى منصور أن الخلفاء الأمويين كانوا يحكمون أساساً بقانون القوة، ومنهم كان الحجاج بن يوسف (والي عبد الملك والوليد بن عبد الملك) الذي قتل مئات الألوف من دون حاجة لفتوى، ولم يلجأوا لتبريرات دينية سوى الزعم بأن ما يفعلون هي إرادة الله.

نقل الحج إلى فلسطين

استطاع عبد الملك خلال فترة حكمه 21 عاماً أن يعرّب الدواوين كما صكّ أول دينار إسلامي عام 70 هـ، لكن بجانب تلك الإصلاحات التي أحدثها في هيكل الدولة وقع حدث جلل استمر حتى وقتنا هذا، ألا وهو تشييده مسجد قبة الصخرة عام 65 هـ.

كان الحج نقطة محورية في صراع ابن الزبير وعبد الملك، فمنع عبدالملك الحج كان ليزيد غضب المسلمين تجاهه ويفقده المزيد من المساحات بينما ترك ابن الزبير على أعماله كان يعني أن يعمّق الأخير سيطرته.

وبحسب اليعقوبي في كتابه "تاريخ اليعقوبي"، فإن عبد الملك وجد أن منافسه (ابن الزبير) قد لا يترك له إلا دمشق، فما كان منه إلا منع الذهاب إلى الحج، لكن الناس ضجّت بذلك وقالت: "تمنعنا عن حج بيت الله الحرام وهو فرض علينا".

وقتذاك رد عبد الملك على ذلك بدهاء، فجعل الفقيه ابن شهاب الزهري يذكر حديثاً عن الرسول حتى يرسخ منطق بناء القبة: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي ومسجد بيت المقدس"، فكان عبد الملك يوجه الناس بذلك إلى مسجد قبة الصخرة الذي أغدق عليه أموالاً كثيرة.

أنفق عبدالملك بن مروان أموالاً طائلة على مسجد قبة الصخرة، لصرف الناس عن الحج، وكان المسجد لشدة جماله وحسن تكوينه يبهر من يراه، ويحتوي على قناديل من الذهب والفضة، وكانوا إذا أطلقوا البخور منه وصلت رائحته إلى مسافة بعيدة.

وبحسب محمد علي الصلابي في كتابه "خلافة عبدالملك بن مروان" فإن مسجد قبة الصخرة وُضعت عليه إشارات وعلامات من الآخرة، فصوروا فيه صورة الصراط وباب الجنة وقدم رسول الله.

"كان الغرض نقل مناسك الحج إلى القدس مؤقتاً إلى أن يتم تخليص مكة من سيطرة ابن الزبير إبان الحروب الأهلية"، هكذا وصف الباحث سامح عسكر سبب بناء عبد الملك بن مروان مسجد قبة الصخرة.

ويرى منصور أن عبد الملك بن مروان لم يتورع عن إساءة استغلال الدين لمصلحته ضد ابن الزبير الذي استخدم الحج والعمرة في الترويج لدعايته ضد الأمويين، وقد خشي  أن ينفضّ عنه أهل الشام فبنى مسجداً فوق قبة الصخرة وأسماه "المسجد الأقصى" ليصرف أهل الشام عن الذهاب الى مكة.

بحسب ابن كثير في تاريخه "البداية والنهاية"، فإن "عبد الملك بن مروان بنى القبة على الصخرة والجامع الأقصى ليشغلهم بذلك عن الحج ويستعطف قلوبهم، وكانوا يقفون عند الصخرة ويطوفون حولها كما يطوفون حول الكعبة. وينحرون يوم العيد ويحلقون رؤوسهم".

"كان الغرض نقل مناسك الحج إلى القدس مؤقتاً إلى أن يتم تخليص مكة من سيطرة ابن الزبير إبان الحروب الأهلية"، هكذا وصف الباحث سامح عسكر سبب بناء عبد الملك بن مروان مسجد قبة الصخرة، ويلاحظ أن شكل القبة الخارجي اختير دائرياً بخلاف عادة الأمويين في بناء المساجد التي لم تختلف عن ثقافة العرب في البنيان البسيط.

ويفسر عسكر شكل المسجد الذي صُنعت أجزاء عدة منه من الذهب والفضة وشكل القبة التي تختلف عن العمارة الإسلامية آنذاك، بأن هذه الهندسة مقتبسة من أشكال بعض الكنائس القديمة في أوروبا، فقد وجد شبهاً بينها وبين شكل القبة من الخارج وهذا ما يعزز القول إن هناك اتصالاً قد حدث بين عبد الملك والإمبراطور البيزنطي جستنيان الثاني أو بين مهندسين مسلمين أو مسيحيين آخرين عرفوا تلك الهندسة البيزنطية في البناء.

الروايات المتواترة عن "قبة الصخرة" نفاها أيمن فؤاد، معتمداً على أنها نُقلت بعد عقود كثيرة على الحدث ولم ينقلها أحد المؤرخين الذين عاصروا عبد الملك.

وشكّك فؤاد في صحة رواية اليعقوبي الذي يُعرف ميله إلى الشيعة وبغضه للأمويين، قائلاً: "مناسك الحج واحدة وتؤدى في مكان واحد فقط وهو مكة".

في النهاية يعدّ عبد الملك من أبرز الخلفاء الذين استطاعوا تثبيت دعائم الدولة الإسلامية وفرض إصلاحات، يُعتقد أنها قامت على جثث ودماء، لتحقيق أهواء شخصية مُزجت بمزاعم دينية.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard