عام 218 هـ، أصدر الخليفة العباسي السابع عبد الله المأمون قراره الشهير بامتحان العلماء والفقهاء والمحدّثين في مسألة القول بـ"خلق القرآن"، إذ فرض على الجميع الإقرار بأن القرآن مخلوق مُصدِراً عقوبات مختلفة بحق من خالف هذا الاعتقاد.
محنة خلق القرآن، وهو الاسم الذي عُرفت به تلك الأحداث، حظيت باهتمام كبير من جانب الكثير من المؤرخين والباحثين المسلمين والغربيين، فغاصوا فيها دراسة وتحليلاً، ورأى بعضهم فيها نموذجاً ممتازاً للاشتباك والتداخل الجدلي بين الديني والسياسي في الإسلام.
والمقصود بمصطلح خلق القرآن هو أن النص القرآني مخلوق، مثله مثل بقية المخلوقات في هذا العالم. ولما كان الأخير لا يوجد به إلا قسمان لا ثالث لهما، وهما قديم أزلي موجود وقائم قبل الزمن، ومحدث طارئ مخلوق، فإن أصحاب القول بخلق القرآن، قد ذهبوا إلى أن القديم الوحيد الموجود هو الله عز وجل، أما جميع الموجودات الأخرى، فهي محدثة.
بين القول بخلق القرآن ورفضه
كان الجعد بن درهم أول من نُسب إليه القول بخلق القرآن في الثقافة الإسلامية، وقد ذكر العديد من المصادر التاريخية أن الجهم بن صفوان، الذي تُنسب إليه فرقة الجهمية، قد أخذ بهذا القول من الجعد، فعمل على نشره والدعوة له بين الناس.
التيار المعتزلي الذي أقر بخلق القرآن اعتبر أن كلام الله هو صفة غير ذاتية فيه، وأنه مجرد صفة فعل حادثة في الزمان، ومن ثم فهو مخلوق ومُحدَث.
في كتابه "التشكلات المبكرة للفكر الإسلامي: دراسة في الأسس الأنطولوجية لعلم الكلام الإسلامي"، يوضح الدكتور عبد الحكيم أجهر موطن الخلاف في مسألة خلق القرآن، فيوضح أن التيار المعتزلي الذي أقر بخلق القرآن، قد اعتبر أن كلام الله هو صفة غير ذاتية فيه، وأنه مجرد صفة فعل حادثة في الزمان، ومن ثم فهو مخلوق ومُحدَث، خصوصاً أن الكلام إنما يتكون من حروف وأصوات، ولا خلاف على أن تلك المكونات مخلوقة.
أما على الجهة المقابلة، فإن جماعة أهل الحديث، وهم الذين مثلوا التيار المبكر الرافض للقول بخلق القرآن، اعتبروا أن كلام الله من الصفات الذاتية القديمة لله نفسه، فلا يمكن الفصل بينها وبين صاحبها، وهي تشترك معه في صفاته الذاتية، التي تأتي صفة القدم على رأسها.
التوجه السني المعارض للقول بخلق القرآن عمل على ربط هذا القول بأصول غير إسلامية، وذلك للتشنيع به والحط من قدر المدافعين عنه. على سبيل المثال، نجد أن ابن الأثير قد ذكر في كتابه "الكامل في التاريخ" أن الجعد بن درهم قد أخذ القول بخلق القرآن من بعض اليهود الذين درسوا تلك المسألة بدورهم على يد لبيد بن الأعصم، وهو نفسه الساحر اليهودي الذي تنسب له الكثير من المصادر الإسلامية القيام بسحر الرسول.
علاقة المعتزلة بمحنة خلق القرآن
اعتقد المعتزلة بخلق القرآن، واعتبروا أن ذلك من الأمور التي لا سبيل للتشكيك فيها، وأن مخالفتها تقدح في وحدانية الله، ومع ذلك قد يُثار السؤال هنا حول علاقة المعتزلة بهذه المحنة، ومدى مسؤوليتهم عما وقع فيها من أحداث.
ثمة رأيان في تلك المسألة. الأول، وهو الشائع عند المؤرخين والباحثين، يذهب أصحابه إلى أن المعتزلة مسؤولون مسؤولية كاملة عما وقع في تلك المحنة، ذلك أن كبار أقطابهم من أمثال ثمامة بن الأشرس وأبو الهذيل العلاف والجاحظ وبشر المريسي وأحمد بن أبي دؤاد كانوا قد أحاطوا بالخليفة العباسي عبد الله المأمون، فأثّروا عليه ودفعوه دفعاً للقول بخلق القرآن.
أما الرأي الثاني، فينقله الدكتور فهمي جدعان في كتابه المهم "المحنة: جدلية الديني والسياسي في الإسلام"، بالقول إن المعتزلة لم يكن لهم أي دور في أحداث تلك المحنة، وبأن المأمون لم يكن معتزلياً كما هو شائع، بل كان جهمياً على الأصح، فالمعتزلة لم يدفعوا المأمون لاختلاق المحنة، بل إن الخليفة العباسي هو الذي قام بها، واستفاد من آراء المعتزلة وأقوالهم لتأجيج نيرانها فحسب.
يدافع جدعان عن وجهة نظره من خلال عرض الكثير من النصوص والاقتباسات الواردة في كتب التاريخ، إذ أثبتت بعض الروايات أن الآباء الأوائل للفكر الاعتزالي، من أمثال واصل بن عطاء وعمرو بن عُبيد، كانوا يقفون مع محمد النفس الزكية في ثورته ضد أبي جعفر المنصور، كما وقفوا بعد مقتله مع أخيه إبراهيم بن محمد، وهو ما يجد فيه جدعان شاهداً قوياً على الهوة العميقة الفاصلة بين الفكر الاعتزالي من ناحية والسلطة العباسية من ناحية أخرى.
ويستدعي جدعان كذلك الكثير من الروايات التي تؤكد منهجية المأمون في تقريب ممثلين من مختلف التيارات الفكرية إليه، وأنه لم يكن ليسير وراء أفكار مذهب بعينه بل ينتقي الأفكار التي تلائمه من كل مذهب، ويستعين بها في سبيل تحقيق غاياته البراغماتية الهادفة -بالمقام الأول- لإحكام قبضته على السلطة.
ظروف بداية المحنة
يذهب جدعان إلى أن مسألة خلق القرآن -وإن كانت مسألة عقائدية بالمقام الأول- قد تم توظيفها سياسياً في "إطار منطق الدولة أو منطق المُلك".
يجادل جدعان، في أطروحته، بأن السبب الحقيقي للمحنة يتمثل في محاولة المأمون وخلفائه إضعاف سلطة رجال الدين على عوام الناس، خصوصاً أن العوام في تلك الفترة التاريخية تحديداً مثّلوا وقود الحركات الثورية المناهضة لسلطة الخلافة.
هذا الرأي يستند لمجموعة من الأحداث التاريخية السياسية المهمة التي جرت بالتوازي مع وقائع محنة خلق القرآن.
أول تلك الأحداث، أن الخليفة المأمون كان يعتقد بخلق القرآن منذ فترة مبكرة من عمره، ولكنه كان يتخوف من الإعلان عن هذا المعتقد أمام العامة، وذلك لقوة العلماء المعارضين لهذا القول، وكان يزيد بن هارون أشدهم تأثيراً في بدايات القرن الثالث الهجري.
ورُوي عن المأمون قوله: "لولا مكان يزيد بن هارون، لأظهرت: القرآن مخلوق، فقيل: ومن يزيد حتى يُتقى؟ فقال: ويحك إني لأرتضيه لا أن له سلطنة، ولكن أخاف إن أظهرته، فيرد علي، فيختلف الناس، وتكون فتنة"، بحسب ما يذكر الذهبي في كتابه "سير أعلام النبلاء"، وهو ما يظهر منه إحساس المأمون بتشكّل سلطة موازية لسلطته من جانب كبار العلماء ورجال الدين في دولته.
عام 218 هـ، أصدر الخليفة العباسي المأمون قراره بامتحان العلماء والفقهاء في مسألة "خلق القرآن"، فارضاً على الجميع الإقرار بأن القرآن مخلوق... الخلاف الشهير في التاريخ الإسلامي اتخذ شكلاً عقائدياً، لكنه كان ذا أبعاد سياسية
"السبب الحقيقي للمحنة يتمثل في محاولة المأمون وخلفائه إضعاف سلطة رجال الدين على عوام الناس"... محنة "خلق القرآن"، كيف بدأت وكيف استفادت الخلافة العباسية منها؟
ويذكر جدعان أن البدايات الأولى للمحنة تزامنت مع عودة المأمون من قتاله مع البيزنطيين، إذ استغل جهاده ضد العدو الخارجي الأكثر خطورة في تهيئة الأجواء للبطش بخصومه الداخليين الذين كان يخشى من بأس كلمتهم.
ويروي جدعان أن المأمون، وعندما رجع إلى طرسوس عام 218 هـ، قبض على محدّث الشام الشهير أبي مسهر الدمشقي، وسأله عن رأيه في خلق القرآن، فلما عارض أبو المسهر مسألة الخلق، قبض عليه المأمون، وحبسه حتى توفي في محبسه.
هنا تجدر الإشارة إلى أن أبا المسهر الذي كان أول المتعرضين لغضب المأمون لم يكن مجرد فقيه أو رجل دين، بل كان هو نفسه الذي تولى منصب قاضي دمشق عام 195 هـ، عندما ثار بها أبو العُميطر على بن عبد الله بن خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، المشهور باسم السفياني، وكان قد طرد العباسيين من دمشق وأسس فيها إمارة أموية مستقلة في ذلك الوقت، حتى قُتل بعد عدة أشهر وفشلت حركته، بحسب ما يذكر الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد".
امتحان المأمون لم يقف عند حدود قاضي دمشق المؤيد للثورة الأموية، بل امتد ليصل إلى "أئمة القوى الموازية"، بحسب تعبير جدعان، والذي يقصد بهم الفقهاء والمحدّثين القادرين آنذاك على تحشيد الرأي العام ضد الخليفة، وكان المأمون يراقبهم ويتابع أخبارهم، بحسب ما يذكر الذهبي.
المأمون كان يخشى من تكرار ما وقع عام 202 هـ، عندما قام عامة بغداد بخلع طاعته وبادروا لمبايعة إبراهيم بن المهدي وظلوا يدافعون عنه حتى وصل الخليفة نفسه إلى بغداد قادماً من معقله القديم في خراسان، وعمل على ضرب العلماء المؤثرين في توجيه العامة من خلال توجيه سؤال خلق القرآن وامتحانهم فيه.
وكان المأمون يهدف من ذلك أن يطاوعه هؤلاء العلماء ويوافقوه في رأيه، فيسقطوا عندها من أعين العامة، ويختفي تأثيرهم وتتلاشى سلطتهم الموازية لسلطة الدولة.
من هنا، لم يكن من الغريب أن يبعث الخليفة، من مقامه البعيد في طرسوس، برسالة إلى نائبه على بغداد إسحاق بن إبراهيم، يأمره فيها بتوجيه السؤال حول موضوع خلق القرآن لمجموعة من أكابر الفقهاء والعلماء، من ذوي الشعبية والنفوذ عند عامة الناس، وعلى رأسهم محمد بن نوح، والبويطي تلميذ الشافعي، وعلي بن المديني، ونُعيم بن حماد، والفضل بن دُكين، ومحمد بن سعد، ويحيى بن معين، وأحمد بن حنبل، بحسب ما يذكر ابن كثير في كتابه "البداية والنهاية".
مخطوطة تُنسب إلى أحمد بن حنبل
الامتحان، وإن كان ذا شكل عقائدي ظاهر، ترتبت عليه نتائج سياسية - اجتماعية واضحة، إذ حُكم على العلماء المعارضين للقول بخلق القرآن، بالفصل من الوظائف القضائية، والمنع من التحديث، وقطع الأرزاق والأعطيات التي كانت تجريها الدولة عليهم، بالإضافة إلى عقوبات الحبس والجلد.
كيف أثّرت المحنة في شكل الدولة؟
برغم أن القدر لم يمهل المأمون كثيراً ليتمتع بالسلطة المطلقة التي كان يصبو لتحقيقها، فإن نتائج عمله قد ظهرت في عهد أخيه وخليفته المعتصم بالله، إذ استأثرت الدولة في زمنه بالنفوذ، وتراجعت مكانة الفقهاء بعد امتحانهم، وبقي العلماء القلائل المعارضون للقول بخلق القرآن يعانون الأمرّين في محابسهم.
يُضاف لما سبق من نتائج تمذهب الجهاز القضائي في الدولة بمذهب الخلافة نفسها بعدما تمت إطاحة القاضي يحيى بن أكثم صاحب التوجه السني من منصبه، وتولى الفقيه المعتزلي أحمد بن أبي دؤاد منصب قاضي القضاة بدلاً منه، فعزّز نظرية خلق القرآن، وأشاعها بين القضاة والعاملين في أجهزة الدولة ودوائرها، بحسب ما يذكر ابن الجوزي في كتابه "المنتظم في تاريخ الملوك والأمم".
التداخل العقائدي- السياسي في محنة خلق القرآن، يظهر بشكل سافر في حادثة قتل الإمام أحمد بن نصر الخزاعي عام 231 هـ، إذ تتفق المصادر التاريخية على القول بأن "المُطوعة"، وهم جماعة من عامة الناس ظهروا في بغداد منذ بدايات القرن الثالث الهجري وكانوا يهدفون للتخلص من المظالم والمفاسد التي عانت منها عاصمة الخلافة العباسية، قد اتصلوا بأحمد بن نصر "فبايعوه في السر على القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والخروج على السلطان لبدعته، ودعوته إلى القول بخلق القرآن...".
وقيل إن تلك الحركة قد لاقت نجاحاً كبيراً في بدايتها، حتى دانت الكثير من أحياء بغداد بالطاعة لأحمد بن نصر، وافتكّت نفسها من قبضة العباسيين، حسب ما يذكر ابن الجوزي وابن كثير.
لما فشلت الحركة، واُقتيد الخزاعي لبلاط الخليفة الواثق بالله، لم توجه إليه التهمة بالعمل الثوري، وإنما جرى امتحانه في مسألة خلق القرآن، فلما رفض الإقرار بخلقه، قتله الواثق بالله بنفسه، وعلّق رأسه منصوباً على مرأى من الناس.
لما فشلت الحركة، واُقتيد الخزاعي لبلاط الخليفة الواثق بالله (تاسع الخلفاء)، لم توجه إليه التهمة بالضلوع في العمل الثوري، وإنما جرى امتحانه في مسألة خلق القرآن، فلما رفض الإقرار بخلقه، قتله الواثق بالله بنفسه، وعلّق رأسه منصوباً على مرأى من الناس، بحسب ما يذكر ابن جرير الطبري في كتابه "تاريخ الرسل والملوك".
حملت محاكمة الخزاعي العقائدية في باطنها محاسبة لتصرفه السياسي، وهو ما علّق عليه جدعان في كتابه، بقوله "ما كان فريداً فذاً في عملية فض الصراع، هو أن السياسي لم يتوسل بالسياسي من أجل الإجهاز على قوة الديني الموازية وردها إلى حدود الطاعة، وإنما توسل بالديني نفسه من أجل إنفاذ العملية، ولم يكن هذا الاستخدام إلا لحفظ ماء الوجه الشرعي للخلافة، ولأن الديني كان أنفذ وأمضى في الإطار الاجتماعي المرجعي القائم".
هذا الطرح يمكن أن يلقي مزيداً من الضوء على ظروف انتهاء المحنة في زمن الخليفة المتوكل على الله، بعد نحو خمسة عشر عاماً على بدئها.
في حين يذهب أغلبية المؤرخين إلى القول بأن المتوكل قد رجع إلى مذهب أهل السنة والحديث، وأمر بالتوقف عن الجدال في مسألة خلق القرآن نظراً لميوله الدينية السنية ليس أكثر، فإن جدعان يؤكد أن فعل المتوكل قد جاء استجابة لمجموعة من الظروف والمتغيرات السياسية والاجتماعية المستجدة في زمنه.
في ذلك الوقت، كان قد زاد نفوذ القادة الأتراك، وأضحى الخليفة غير قادر على التحكم في مراكز القوى السياسية بالدولة، وهذا ما دفعه إلى التراجع عن سياسة أسلافه واستمالة العلماء والفقهاء وأهل الحديث طمعاً بمساندة العامة والمُطوعة من أهل بغداد، غير أن جهوده باءت بالفشل في نهاية المطاف، وقُتل على يد مجموعة من القادة الأتراك عام 247 هـ.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع