عام 41هـ، وبعد مرور ستة أشهر فقط على خلافته، قام الحسن بن علي بن أبي طالب، بتسليم السلطة إلى والي الشام الأموي معاوية بن أبي سفيان، ليبدأ بذلك عصر الدولة الأموية، والذي امتد على ما يزيد عن التسعين عاماً.
خلال تلك الفترة، مرّت العلاقات بين السلطة الأموية والحزب العلوي بالعديد من التغيرات والتقلبات. وإنْ اتسمت في أغلب فتراتها بالصراع والصدام، إلا أنها اتصفت بالودية والهدوء في فترات أخرى.
ووردت تفاصيل هذه العلاقات في كتابات المؤرخين القدامى، كما أُعيدت صياغتها في ما بعد على يد العلماء السنّة والشيعة الذين قاموا بتطويع الأخبار التاريخية واستغلالها في خدمة مذاهبهم.
الصلح وعام الجماعة
كان الظرف السياسي الصعب الذي مرّ به الحسن بن علي هو السبب الرئيسي في عقده لاتفاق الصلح مع معاوية. يذكر الشيخ المفيد في كتابه "الإرشاد" أنه "ازدادت بصيرة الحسن عليه السلام بخذلان القوم له... ولم يبقَ معه مَن يأمن غوائله إلا خاصة من شيعته وشيعة أبيه أمير المؤمنين عليه السلام، وهم جماعة لا تقوم لأجناد الشام".وتذكر بعض المصادر التاريخية، ومنها "الإمامة والسياسة" لابن قتيبة و"الأخبار الطوال" لأبي حنيفة الدينوري، أن قرار الحسن أثار غضب الكثير من شيعته، إلى حد دفع بعضهم إلى وصفه بـ"مذلّ المؤمنين" أو "عار المؤمنين".
ورغم الالتباسات المحيطة بشروط هذا الصلح، إلا أن معظم المصادر تتفق على أنه نصّ على تسليم السلطة إلى معاوية مقابل أن يعمل بكتاب الله وسنّة نبيه، وأن يترك الأمر من بعده شورى، وأن يترك أهل الشام سبّ علي بن أبي طالب، هذا بالإضافة إلى تأمين شيعة الحسن وضمان حقهم في الأموال والأعطيات.
واختلفت الروايات التاريخية في توصيف العلاقة بين الحسن ومعاوية بعد إقرار الصلح. فبينما تؤكد المصادر الشيعية على سوء العلاقة بينهما، وتذكر أن معاوية راح يتعرض للحسن وشيعته بشكل مباشر بعد دخوله إلى الكوفة، ولم يراعِ بنود الاتفاق والتصالح، تُظهر المصادر السنّية أن تلك العلاقة كانت طيّبة، وتدلل على ذلك بأن معاوية أعطى للحسن جميع الأموال التي كانت موجودة في بيت مال الكوفة وقت الصلح، كما أرسل له مبالغ مالية إضافية كبيرة.
عام 50هـ، توفى الحسن. وتتفق المصادر الشيعية مع أغلب المصادر السنية على أنه قُتل مسموماً على يد إحدى زوجاته، وهي جعدة بنت الأشعث. وتذكر بعض الروايات، مثل رواية ابن الجوزي في كتابه "المنتظم"، أن معاوية حرّضها على ذلك وأغراها بالكثير من الأموال وبأن يزوجها من ابنه يزيد.
بعد وفاة الحسن، بدأ معاوية في تعقّب كبار شيعته، فقتل حجر بن عدي الكندي وعمرو بن الحمق الخزاعي. وضيّق الأمويون الخناق على عموم الشيعة، وقاموا بقطع أرزاقهم وأعطياتهم، كما ذكر اليعقوبي في تاريخه. وفي الوقت نفسه كثر سبّ ولعن علي، حسبما يذكر الطبري في "تاريخ الرسل والملوك".
دفعت تلك الظروف بشيعة آل البيت إلى الكتابة إلى الحسين بغرض "خلع معاوية والبيعة له"، ولكن الحسين لم يجبهم على ما طلبوا، وبرر ذلك بالعهد المعقود ما بين الطرفين، بحسب ما يذكر المفيد في "الإرشاد".
كربلاء... تأويل متضارب بين الشيعة والسنّة
توفى معاوية سنة 60هـ، فخلفه ابنه يزيد بموجب البيعة التي عقدها له أبوه في حياته، وكان من المنطقي أن يعترض العلويون على خلافته. رفض الحسين بن علي مبايعته، وانطلق إلى مكة، فمكث فيها حتى دعاه أتباعه الكوفيون إلى السير إليهم. وفي العاشر من محرم سنة 61هـ، قُتل الحسين ومجموعة من أقربائه وأتباعه، في كربلاء، في معركة غير متكافئة أمام الجيش الأموي الذي تفوّق عليهم عدداً وعدة، في الواقعة المعروفة.حظيت ثورة الحسين ضد الدولة الأموية بتفسيرات متباينة في العقلين الشيعي والسنّي. التفسيرات الشيعية نظرت إليها على كونها "قدراً حتمياً لا يمكن تغييره أو تبديله" بحسب ما تذكر الدكتورة نغم الكنعاني في كتابها "المواقف السياسية للأئمة". ومما يؤكد شيوع تلك النظرة أن روايات شيعية كثيرة تذكر أن الحسين كان يعرف أن أهل الكوفة سيخونونه، وأنه سوف يُقتل في منطقة كربلاء تحديداً.
أما النظرة السنّية، فتُظهر تفاجؤ الحسين من تخلي أهل الكوفة عنه، وتفكيره في الرجوع إلى مكة، بل هناك روايات، مثل رواية ابن صباغ المالكي في كتابه "الفصول المهمة"، تقول إنه طلب من قائد مقدمة الجيش الأموي السماح له بالعودة، بل غيّر طريقه بالفعل وقفل راجعاً إلى الحجاز، إلا أن الأمويين منعوه من ذلك.
ما بعد كربلاء... التقيّة والبعد عن السياسة
بعد معركة كربلاء، حُمل علي زين العابدين، الابن الوحيد للحسين، الذي ظل حياً، ومَن معه من نساء وأطفال إلى الكوفة، حيث التقى بهم واليها عُبيد الله بن زياد، وبعدها اقتيدوا إلى دمشق، حيث اجتمع بهم الخليفة الأموي يزيد بن معاوية، وبعد فترة قصيرة، توجه علي زين العابدين إلى المدينة، حيث استقر مع البقية الباقية من أهل الحسين.تذكر بعض المصادر التاريخية أن قرار الحسن بن علي بعقد صلح مع معاوية والقبول به خليفةً أثار غضب الكثيرين من شيعته، إلى حد دفع بعضهم إلى وصفه بـ"مذلّ المؤمنين"
وشهدت المرحلة اللاحقة هدوءً في التعامل بين زين العابدين وشيعة أهل البيت بوجه عام من جهة والسلطة الأموية من جهة أخرى.
على سبيل المثال، يذكر ابن منظور في "مختصر تاريخ دمشق" أن والي المدينة مروان بن الحكم كان يحبّ علي بن الحسين، ونصحه بالزواج فقال له "أرى نسل أبيك قد انقطع، فلو اتخذت السراري، لعل الله أن يرزقك منهن" وأقرضه في سبيل ذلك مئة ألف درهم، وأوصى عند وفاته بألا تُسترَدّ منه.
وظهرت العلاقة الودية بين الرجلين بشكل واضح إبان ثورة أهل المدينة على الحكم الأموي في أواخر عام 62هـ. فعندما بدأ أهل المدينة في تعقب الأمويين والتعرّض لهم، وخاف مروان على أهله، هرع إلى علي بن الحسين، وقال له: "يا أبا الحسن إن لي رحماً، وحرمي تكون مع حرمك، فقال له علي: أفعل، فبعث بحرمه إلى علي بن الحسين"، بحسب ما ذكر ابن الأثير في "الكامل في التاريخ".
وحفظ الأمويون هذا الجميل لعلي بن الحسين، فعندما أرسل يزيد بجيشه إلى المدينة ليقضي على الثورة، أمر قائد جيشه مسلم بن عقبة بأن يستخدم كل قوته ضد المتمردين، وأن يبطش بكل مَن يقف أمامه، ولكنه استثنى عليّاً من هذا التعميم، وهو ما ظهر واضحاً في قول مسلم لزين العابدين عند وصوله إلى المدينة ومقابلته إياه: "وصاني أمير المؤمنين ببرّك وتمييزك من غيرك"، بحسب "تاريخ الطبري".
في الفترة التي أعقبت يزيد بن معاوية، وقع تغيّر مهم داخل بنية الحزب العلوي، تمثل في ظهور اتجاهات جديدة متعارضة. بقي علي زين العابدين شخصية أساسية، ولكن ظهر أيضاً محمد بن الحنفية كأحد مراكز القوة في البيت العلوي، بالإضافة إلى ظهور حركات مطالبة بالثأر للحسين مثل حركتي التوابين والمختار الثقفي، استحوذت على شطر كبير من الحشود الشيعية، ولا سيما في العراق، معقل التشيع. هذا الاختلاف العلوي استتبعه قيام خلاف في معاملة السلطة الأموية للشيعة والعلويين بوجه عام. ففي حين حرص عبد الملك بن مروان على توطيد علاقته بعلي بن الحسين، باعتباره كبير العلويين وزعيمهم، بطش بالكثيرين من شيعة آل البيت في العراق، والذين كانوا قد التفوا حول المختار الثقفي، وسلّط عليهم والي العراق الحجاج بن يوسف الثقفي، الذي نكّل بهم حتى اضطر شطر كبير منهم للهرب إلى إيران، بحسب ما يذكر المسعودي في "مروج الذهب".
ولكن العلاقات الطيبة بين عبد الملك وعلي زين العابدين لم تستمر لفترة طويلة. ذكر أبو نُعيم الأصبهاني في "حلية الأولياء" أن الخليفة الأموي أرسل إلى واليه في المدينة يأمره بأن يُحمل إليه علي بن الحسين مقيداً في الحديد. ويبدو أن الخليفة الأموي أحس بأن سليل البيت العلوي قد تراوده بعض الأطماع في السلطة، فأراد أن يُحجّمها منذ البداية حتى لا تكبر ويستفحل خطرها لاحقاً.
ولم يكتفِ عبد الملك باقتياد علي زين العابدين إلى دمشق، بل حرص على أن يفقد العلويون ميراثهم الثوري كذلك، وعلى ألا تعود العصبيات القديمة للظهور على الساحة السياسية مرة أخرى. ولذلك نراه في بعض الروايات يأمر ابنه هشام، والي المدينة، بأن يستدعي أهل علي بن أبي طالب، وبأن يحرّض على سبّ علي أمام الناس.
ولما كان علي بن الحسين أكبر أبناء البيت العلوي شرفاً ومقاماً في ذلك الوقت، توجهت إليه الأنظار لمعرفة رد فعله وموقفه في مسألة سبّ جده، ولكنه استطاع الخروج من ذلك المأزق عندما تغيّب عن مجلس هشام واعتذر وقتها بالمرض، بحسب ما يذكر ابن عساكر في "تاريخ دمشق"، وهو ما تقبّله منه الأمويون واعتبروه إذعاناً واضحاً لسطوتهم ونفوذهم.
حرص الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان على توطيد علاقته بعلي بن الحسين، باعتباره كبير العلويين وزعيمهم، لكنّه بطش بالكثيرين من شيعة آل البيت في العراق بعد التفافهم حول المختار الثقفي، وسلّط عليهم الحجاج بن يوسفمن الملاحظات المهمة على فترة العلاقات الأموية العلوية زمن علي زين العابدين، ظهور مفهوم التقيّة بشكل مؤثر في العقل الشيعي، ذلك أن الشيعة بعد كربلاء، تيقنوا من ضرورة المداراة والتخفي عن أعين السلطة الحاكمة.
ويفسر الدكتور رسول جعفريان في كتابه "الحياة الفكرية والسياسية لأئمة أهل البيت" ذلك التوجه للتقية في تلك الفترة بقوله: "كان علي بن الحسين يضع نفسه خارج إطار السياسة، حتى أنه كان يتحاشى ويحتاط كاملاً من أي عمل قد يتذرعون به ضده، لكي يتمكن وارث سلالة الإسلام المحمدية من أداء رسالته في سياق الزمن".
عمر بن عبد العزيز... الفترة الأكثر تسامحاً
ظل النهج الأموي الداعي للبطش بالعلويين قائماً في عهد ولدي عبد الملك بن مروان، الوليد وسليمان، غير أن تلك السياسة سرعان ما تبدّلت إلى النقيض، مع وصول عمر بن العزيز إلى كرسي الخلافة عام 99هـ.عُرف الخليفة الجديد بتسامحه مع أحفاد علي، فأمر بترك سب الخليفة الرابع ولعنه من على المنابر في صلاة الجمعة، واستبدل عبارات اللعن بالآية القرآنية {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون}، بحسب اليعقوبي والمسعودي.
ولم يكتفِ عمر بن عبد العزيز بذلك، بل أغدق الأموال على العلويين وبني هاشم، وأرجع لهم أرض فدك التي كانوا يرون أحقيتهم بميراثها من الرسول. ويلخص رسول جعفريان، أوضاع الشيعة في عهد عمر بن عبد العزيز بقوله: "لم تخفّ الضغوط التي كانت تُمارس ضد الشيعة طوال فترة الخلافة الأموية إلا في عهد حكومة عمر بن عبد العزيز التي استمرت لمدة عامين".
ويذكر الباحث الشيعي علي دخيل، في كتابه "أئمتنا"، أن عمر بن عبد العزيز كان يحرص على الالتقاء بمحمد الباقر بن علي زين العابدين، إمام العلويين في عصره، وشاع الحديث عن العلاقة الودية بين الرجلين في الكثير من المصادر التاريخية السنّية، وأورد ابن الأثير وصف الباقر لعمر بن عبد العزيز بأنه "نجيب بني أمية، ويُبعث يوم القيامة أمة وحده".
على الجانب الآخر، لا يقبل السياق الروائي الشيعي الإمامي بصدور ذلك القول من جانب الباقر، ذلك أن عمر بن عبد العزيز وفق الاعتقاد الشيعي وافق أسلافه من الخلفاء في منعهم لأئمة أهل البيت من حقهم الشرعي في تقلد منصب الخلافة.
ومما يعبّر عن ذلك الرواية التي أوردها الخصيبي في كتابه "الهداية الكبرى" عن لسان الباقر، والتي يقول فيها عندما عرف بوفاة عمر: "توفى في هذه الليلة رجل تلعنه ملائكة السماء وتبكي عليه أهل الأرض"، وذلك في إشارة إلى أن حسن سيرته لن يمنع عنه العذاب الذي ينتظره في الآخرة لمنعه الحكم عن أصحابه الشرعيين.
ثورة زيد بن علي... الانتصار الأموي الأخير على العلويين
تولى هشام بن عبد الملك الخلافة بين عامي 105 و125هـ، وكان آخر الخلفاء الأقوياء في دولة بني أمية. انتهج نهج آبائه في التعامل الحازم مع العلويين وأبناء البيت الهاشمي، فبطش بشيعة العراق، واستقدم الباقر وابنه جعفر الصادق إلى الشام، ليعرف أخبارهما ويطمئنّ إلى عدم وجود نية عندهما في الثورة عليه.ولكن الخطر العلوي لم يأتِ من جهة الباقر، ولكن من ناحية أخيه زيد بن علي الذي أعلن، في صفر 122هـ، ثورته على الأمويين، بعد حدوث عدد من المخاصمات والمشاحنات بينه وبين عدد من الولاة الأمويين، حسبما يذكر الطبري في تاريخه.
في بداياتها، لاقت ثورة زيد تأييداً واسعاً من جانب قطاع كبير من شيعة الكوفة، ولكن سرعان ما انتهت بالفشل إذ قُتل زيد وصُلب بعدما انفضّ عنه معظم أتباعه وأنصاره.
تلك الأحداث أحدثت انقساماً داخل البيت العلوي، ذلك أن أتباع زيد مثّلوا خطاً شيعياً ثورياً لاحقاً، وعُرفوا بالزيدية، تمييزاً لهم عن الخط الإمامي الذي مثّله جعفر الصادق وأتباعه من الذين رفضوا الانضمام إلى الثورة وعارضوها.
ولكن على الرغم من ذلك، تُبيّن الكثير من النصوص التاريخية حزن جعفر على عمه المقتول، رغم ما كان يفصل بينهما من وجهات نظر متعارضة، بحسب ما ينقل الذهبي في "سير أعلام النبلاء".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...