قد يبدو افتتاح فرع لسلسلة مطاعم " أم شريف" اللبنانية حدثاً عابراً، ولكن في دمشق، أي خبر بسيط قادر على أن يأخذ منحى استفزازياً، لا يمكنك أن تلوم أحداً، فالدولار في "ارتفاع جنوني"، ويوماً تلو الآخر تزداد الحياة صعوبة، وتضحي القدرة على النجاة أكثر تحدياً، يزداد التباين بين الطبقات، وتصبح الهوة بين طبقة فاحشة الثراء وطبقة تحت هوة الفقر، أكثر تمايزاً.
تسير الطبقتان أحياناً جنباً إلى جنب، في الأسواق نفسها، وفي ذات الدكاكين: تدخل إحدى النساء التي تبدو عليها مظاهر النعمة السابقة، تبدأ بالسؤال عن الأسعار، تجري حساباتها، ولا تشتري شيئاً، فيما تسأل أخرى، يوحي مظهرها بمن يطلق عليهم حالياً "أثرياء الحرب الجدد"، عن توافر طعام مناسب لكلبها، تأخذ كمية كبيرة وتخرج، ليكمل البائع حديثه عن آخر سعر وصل له الدولار في هذه اللحظة.
ضمن الجولة اليومية في المدينة، لا شيء يبدو طبيعياً: يلقي البؤس بظلاله على الوجوه
ضمن الجولة اليومية في المدينة، لا شيء يبدو طبيعياً: يلقي البؤس بظلاله على الوجوه. يبدي الصيدلي خجله من ارتفاع الأسعار. تدخل بعض السيدات للسؤال عن سعر أدوية، يخرجن دون أن يشترين، على غرار العادة المتداولة عند شراء الملابس، مع تفشي الفقر، يبدو كل شي قابلاً للتغاضي أو الاستغناء... معاينات الأطباء في ارتفاع. يحاول الكثير من المرضى في عيادة طبيب العظام إقناعه بوصف دواء، وإن كان مؤقتاً، لتسكين الآلام، يغنيهم عن تصوير الأشعة وإجراء التحاليل التي قد تكلفهم راتب شهرين على الأغلب.
أعداد هائلة من المتسولين من كل الأعمار، حتى أصبحوا جزءاً من معالم المدينة، ولكن المشهد الأكثر تراجيدية، هو الأطفال بائعي الورود، الذين يراقبون الناس وهم يتناولون طعامهم في مطاعم الأحياء الراقية، من خلف الزجاج.
يحترف الكثير من متسولي المدينة التمثيل، يضعونك في حيرة أحياناً وأنت تستمع إلى قصة كل واحد فيهم، منهم من يتردد على نفس الأماكن يومياً، مع قصص سريالية أحياناً أو في قمة في الميلودراما. إحدى المتسولات، في منتصف العمر وبصحة جيدة، تتردد كل يوم على المطاعم الباهظة وتبدأ بإلقاء مونولوج حزين، في إحدى المرات دخلت مع وصفة طبيب، مع إبداء حاجتها لقائمة طويلة من الأدوية، لتعرض عليها صديقتي الصيدلانية أخذ الوصفة وجلب جميع الأدوية اللازمة، ما جعل المرأة تأخذ الوصفة وتنسحب مسرعة.
المشكلة ليست فيمن اعتادوا التسوّل فقط، فلم تختلف مؤخراً سوى أعدادهم، المشكلة في الطبقة العاملة التي تزداد جوعاً وذلاً كل يوم، وتعيش لهاثاّ مستمراً، في محاولات يائسة للحفاظ على ما تبقى من كرامة في مسيرة الشقاء اليومية.
المشكلة ليست فيمن اعتادوا التسوّل فقط، المشكلة أيضاً في الطبقة العاملة التي تزداد جوعاً وذلاً كل يوم، وتعيش لهاثاّ مستمراً، في محاولات يائسة للحفاظ على ما تبقى من كرامة في مسيرة الشقاء اليومية
ربما لم تكن الحياة عادلة يوماً، ولكنها لم تكن بمثل هذا الابتذال المتباهي بنفسه... في ظل كل هذا تعيش الغالبية خواء داخلياً، يبدو الطريق السهل لتجاهله هو اللهاث وراء المظهر اللائق، فكلما كانت الصورة الاجتماعية أكثر بريقاً، كلما تم تجاهل القذارة التي كلّفت هذا
على الضفة الأخرى تصبح عمليات التجميل هوساً، وعند سؤال الفتيات عن المهنة الحلم في المستقبل، غالباً استبدل الجواب الكليشيه "دكتورة " بالمهنة الأكثر بريقاً " فاشينيستا "، فهناك ما هو أهم من الدرس اليوم، الذي غالباً لن يجلب المال؛ عمليات الشفط والنحت والنفخ وحتى الغمازة، هي الحديث الأكثر تداولاً، السعي نحو المظهر في محاولة لرتق الجوهر المتآكل، في دورة حياة تستهلكك يوماً تلو الآخر، لتحاول البحث عن هويتك الضائعة، فبعد ثماني سنين من الحرب، لا تفلح معظم المحاولات لملء ما تهدم داخلياً، من المحال تذكر كينونتك السابقة، فالشخص الذي كنت عليه قبل تلك السنوات ولّى من الذاكرة، في غياب تام للقيم والأخلاقيات، وضمن فوضى على جميع المستويات، تغدو أي محاولة للتمسك بقناعاتك ومبادئك كفيلة بنبذك خارج الدائرة.
ربما لم تكن الحياة عادلة يوماً، ولكنها لم تكن بمثل هذا الابتذال المتباهي بنفسه، في كل تفصيل يحيط بك في هذه المدينة، في ظل كل هذا تعيش الغالبية خواء داخلياً، يبدو الطريق السهل لتجاهله هو اللهاث وراء المظهر اللائق، فكلما كانت الصورة الاجتماعية أكثر بريقاً، كلما تم تجاهل القذارة التي كلّفت هذا.
ومع تفاقم حدة الوضع المتدهور في البلاد، تأخذ الكوميديا السوداء مجراها، بدءاً من الدعوات على غروبات الفيسبوك لبدء حملات الاستغفار، باعتبار أن ما يحصل للسوريين هو نتيجة لما اقترفوه من ذنوب، وانتهاءً بالـ" كوميكس" المتجددة يومياً عن أخبار الدولار.
وفي نهاية كل يوم متخم بكم هائل من البؤس، وأنت تتجول ليلاً في المدينة، لا يمكنك إلا أن تتذكر جملة ترافيس، روبرت دي نيرو، في رائعة سكورسيزي، "سائق التاكسي": "يوماً ما سيأتي مطر حقيقي ... ليجرف كل هذه القذارة "... ولكن للأسف هذا ليس فيلماً سينمائياً عن نيويورك في السبعينيات، بل هي دمشق أواخر 2019.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون