كعادته كل يوم جمعة، استيقظ قبل الفجر بقليل، ارتدى جلبابه الأبيض، وتعطر، وذهب إلى المسجد لأداء الصلاة، لكن هذه المرة لم يذهب إلى بيته بعد الصلاة، بل انتظر قليلاً حتى يجتمع رفاقه، ليبدؤوا رحلتهم إلى المقابر في مدينة بيلا، في محافظة كفر الشيخ المصرية.
لم تكن رحلة الشيخ البيلي أبو مسلم، ورفقائه إلى المقابر لزيارة الموتى، أو الاتعاظ بهم، كما أنَّ القفازات وأدوات الحفر والأكياس السوداء الموجودة معهم، توحي أنهم من سارقي جثث الموتى، ولكن في الحقيقة، لم يكونوا سوى مجموعة من مشايخ وشباب المدينة، اتفقوا قبل ليلة على أن "يطهروا مقابرها من أعمال السحر" كما يقولون، مثل الكثيرين الذين ظهروا في محافظات مصر المختلفة، سواء في سوهاج وقنا والأقصر جنوباً، أو في القليوبية والشرقية وكفر الشيخ والإسكندرية شمالاً.
بائع عطور يطهّر المقابر
يعمل الشيخ البيلي أبو مسلم، بالرقية الشرعية منذ 10 سنوات، بجانب امتلاكه محلاً للعطور، وقد كانت بداية مبادرته لتطهير المقابر من أعمال السحر منذ 5 أشهر تقريباً.
يقول الشيخ البيلي لـرصيف22 عن بداية مبادرته: "اتصلت بضابط شرطة أعرفه، قال لي البلد "أي القرية" صعبة، وممكن يقال إنك تبحث عن آثار، ثم اتصلت بشيخ فلم يتقبل الأمر أيضاً، ومن ثم اتصلت بأخ وأخبرته أنني عازم على البدء في الأمر وطلبت منه أن يكتب منشوراً لديه على صفحته بـفيس بوك، فهو لديه 250 ألف متابع، وبالفعل نشرنا، ووجدنا تعليقات كثيرة جداً تشجع الفكرة، وتعرض المشاركة، وبدأنا بحملة (تطهير قبورنا)، ثم حملة (بصمة خير أبناء بيلا)، لتنظيف المقابر من السحر، ثم كان شعارنا (يوم بيوم للقضاء على السحرة)".
تطور الأمر مع الشيخ، وبدأ في الذهاب مع من انضموا إليه إلى القرى المجاورة، ولكن سكان قريته بدؤوا يعترضون على ذلك، مطالبين بألا يتركهم.
وعن طريقة عملهم، يقول الشيخ البيلي: "جهزنا معدات خاصة للعمل، وقفازات بلاستيكية، لأن بعض الأعمال تفعل على أشياء نجسة مثل البول أو البراز، وأيضاً أكياس زبالة سمراء، لنجمع فيها ما نجده".
يقسم الشيخ البيلي من معه إلى مجموعات، الواحدة في الغالب من 4 إلى 5 أفراد، وتكون كل مجموعة مسؤولة عن شارع معين: "تحفر أمام المقابر، وإذا وجدنا مقبرة مفتوحة نحفر بداخلها، فهي مكان مناسب ليخبئ فيه السحرة أعمالهم، ولكن المقابر المغلقة لا ندخلها مخافة أمرين: الأول تجنباً لشبهة نبش القبور، والثاني حتى لا نغضب أصحاب تلك المدافن".
بدأ السايح في البحث عن السحر داخل مقابر قريته "الرشاوين"، لينضم إليه الكثير من شباب القرية، وقد استمر في مبادرته لقرابة ثلاثة أشهر، ومن ثم لجأ إليه الكثيرون للعلاج
"المظاهر المتعلقة بالسحر تعبر عن أزمة ثقافية في الأساس، فالاهتمام اليوم أصبح مقتصرا على صناعة نهضة، وتنمية، واستغلال للطاقة الشمسية، دون الاهتمام بالعنصر البشري"
وجد فريق الشيخ البيلي الكثير من أعمال السحر، يقول: "عثرنا على حيوانات غريبة، أرانب، ضفادع، زجاجات بها بول أو براز، كما وجدنا الكثير من ملابس الأطفال والملابس الداخلية للنساء والرجال، كميات من الشعر، وأمواس حلاقة، كل ذلك ملفوف جيداً ومدفون داخل المقابر".
يوضح البيلي أبو مسلم أنه لاقى الكثير من النقد من قبل بعض المشايخ، بحجة أنه يهيج السحرة عليهم، كما أن عمله به شبهة نبش القبور، لكنه يؤكد أنهم يسعون إلى بث الخوف في قلوب السحرة وإدخال السرور على قلوب المسلمين، مختتماً: "أنا لما جيت أتجوز لقيتني مسحور، وعارف يعني فرحة أنك تفك سحر لشخص".
"أصبت بالسحر المأكول مع زوجتي"
لم يكن الشيخ البيلي أبو مسلم وحده من حرّكه وقوعه في أسر السحر وقت زواجه، كما يزعم، ولكن في محافظة قنا، جنوب مصر، كان فريق "غيث" لتطهير المقابر من السحر، يقوده يوسف السايح، والذي ظهر بمقطع فيديو في يناير 2018 يدعي أنه "كليم الله" وأن الله يكلمه من وراء حجاب، كما أدعى أنه يرى النبي، وهي الدعوة التي لم تلق قبولاً لدى الناس، فاتهموه بالجنون، ولكن عندما أعلن أنه يحارب السحر ويعالج المرضى وجد من يتبعه من أهل القرية.
تواصل رصيف22 مع يوسف السايح ليحكي لنا عن فريقه، فأكد أنه لم يكن أول من بدأ تلك الفكرة، بل سبقه إليها الكثيرون في محافظات مصر المختلفة، سواء في الجنوب مثل سوهاج وأسوان والأقصر، أو في الشرقية وكفر الشيخ، ولكنه عندما شرع في مبادرته صمم أن يسلك طريقاً لا يتعارض مع مؤسسات الدولة، فحصل على موافقة مديرية الأمن والأزهر والأمن الوطني، حسب قوله، حتى لا يتهم بنبش القبور أو البحث عن الآثار.
بدأ السايح في البحث عن السحر داخل مقابر قريته "الرشاوين"، لينضم إليه الكثير من شباب القرية، وقد استمر في مبادرته لقرابة ثلاثة أشهر، وجدوا أثناء ذلك الكثير من أعمال السحر، وفي تلك الفترة بدأت شعبيته تزداد أيضاً، ومن ثم لجأ إليه الكثيرون للعلاج؛ فلم يتمكن من مواصلة الحملة: "أصبت بالسحر المأكول أنا وزوجتي، وقد تخلصت منه بمساعدة مشايخ القرية، فأصبح لدي معرفة بالأمر، ولكن بعد المبادرة أصبحت ماهراً في فك السحر؛ ولكن نتيجة زيادة أعداد من يأتون لعلاجهم لم أتمكن من مواصلة الحملة".
يوسف السايح ابن قرية الرشاوين بمركز أرمنت محافظة الأقصر، يؤكد أنه متخصص في علاج السحر المأكول في البطن، سواء أصاب المسحور عن طريق شربه لماء أو أكله لطعام جرى عليه السحر، وبحكم أنه حاصل على "دبلوم صنايع"، فهو يشير إلى معرفته الواسعة بالسحر، طالباً أن يوجه نصيحة من خلالنا: "إذا سألك أحد اسم أمك فهو ساحر".
"كاميرات مراقبة في مداخل القبور"
فريق آخر ظهر جنوب محافظة الأقصر، تحديداً في مقابر قرية أصفون المطاعنة، بمركز إسنا، حيث تجمع عدد من شباب القرية، وتوجهوا إلى المقابر للبحث عن أعمال السحر بداخلها، ولكن في تلك المرة كان للشباب فكر آخر، حيث بحثوا عن طريقة تمنع ذهاب الناس إلى المقابر لدس السحر.
يؤكد "ه. حمدان" أحد أبناء القرية، أنهم اجتمعوا لبحث الأمر بينهم، فاقترح أحدهم تركيب كاميرات مراقبة أعلى مداخل المقابر لرصد كل من يدخل إليها في غير أوقات الدفن.
ترى الدكتور سامية خضر، أستاذة علم الاجتماع، أن المظاهر المتعلقة بالسحر تعبر عن "أزمة ثقافية في الأساس، فالاهتمام أصبح بصناعة نهضة وتنمية واستغلال للطاقة الشمسية دون الاهتمام بالعنصر البشري، في حين أنه المحرك الأساسي للتنمية والهدف منها".
وتتذكر خضر بكثير من الحنين فترة كان لمصر فيها "ريادة ثقافية"، حيث كان الحديث عن مصر مقترناً بطه حسين وتوفيق الحكيم وغيرهم، ممن صنعوا نهضة مصر الثقافية حديثاً.
تقول خضر: "نحن في أشد الحاجة لمن يبث الفكر الثقافي في المجتمع، فالإنسان والحيوان يأكلان وينامان، وما يفرق بينهما هو الثقافة التي تناسيناها بشكل أو بآخر، وما نراه الآن من اهتمام بالسحر بهذا الشكل، هو نتاج هذا التسطيح المعرفي".
نادي كرة يحارب السحر
لم يقتصر الأمر على أهالي القرى والمحافظات، بل وصل إلى أحد أندية كرة القدم، ففي 15 ديسمبر الجاري، نشرت مواقع إخبارية محلية قصة اكتشاف مجلس إدارة نادي كفر الزيات، (نادي كرة قدم مصري يلعب في دوري الدرجة الثانية، وقد لعب فريقة الأول لكرة القدم عدة مواسم في الدوري الممتاز)، سبب تحقيق فريق كرة القدم لنتائج سلبية مؤخراً، وهو عملان سحريان مدفونان داخل أرضية الملعب.
البداية، حسبما أوضحتها تقارير صحفية، كانت بشك مسؤولي النادي بوجود سحر يضر الفريق، ليطلبوا من العاملين بالنادي البحث في جميع أرجاء وأنحاء الملعب لمدة ثلاثة أيام، حتى ظهر "هذا العمل السحري المدفون داخل أرض الملعب"، لتبدأ بعدها إدارة النادي رحلة إبطال ذلك السحر.
لإبطال السحر، أحضرت إدارة النادي شيخاً لتلاوة القرآن في الملعب، وعلى الطرق المؤدية لغرف خلع الملابس، ولم تكتف بذلك، بل قرروا ذبح "عجل" وتوزيع لحومه على الفقراء، على سبيل جلب الحظ، حسب تأكيد أيمن مجدي، المدير الفني لنادي كفر الزيات، ولكن كان للسماء رأي آخر، إذ هطلت الأمطار بغزارة، الأمر الذي استحال معه فعل ذلك، فأعلنوا تأجيل الذبح ليوم آخر.
يعلق جمال فرويز، خبير في الطب النفسي، حول تعلق الناس بأعمال السحر، ونسب "فشلهم" إليها، أنها عادة تخص مجتمعات الدول الشرقية النامية، حيث يبحثون دائما خارجهم عن الأسباب، وليس داخلهم، وهي نتيجة توصل إليها جوليان روتر عالم النفس الأمريكي.
ويفرق فرويز بين التعليم والثقافة، فالتعليم ليس دليلا على الثقافة الغائبة في مجتمعاتنا، والسحر موجود في موروثنا، ومعتقدنا، لذا لا فرق بين أمي ومتعلم في التعامل مع السحر، في ظل غياب الثقافة والتنوير.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...