شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
الخرافات واقع والمريض النفسي ملعون... نحن بعد مشاهدة أفلام

الخرافات واقع والمريض النفسي ملعون... نحن بعد مشاهدة أفلام "السحر والهلوسة"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الجمعة 23 أغسطس 201909:04 م

يميل صناع السينما في العالم إلى تبني قصصاً، وتيمات أكثر قدرة على الإثارة، وجذب الجمهور، ولكن يختلف تأثير تلك القصص والتيمات من جمهور لآخر.

ولا شك أن العالم الآخر، بكائناته الفضائية المريعة، أو الأشباح والعفاريت، لديه قدرة، مقارنة بالقصص الأخرى، على الجذب والتأثير، خاصة في واقع اجتماعي وسياسي واقتصادي محبط للتطلعات، ومخيب للآمال.

ولكن يظل جانب التأثير الفكري على المشاهد مُهمَلاً سواء في الدراسات، أو حتى في اعتبارات صناع الفيلم، فالمبدعون يؤثرون الانطلاق في سماء أحلامهم وخيالاتهم بلا قيود، ويثمّنون حريتهم الفكرية تلك.

يُعتبر فيلم (الفيل الأزرق- 2014) إخراج مروان حامد وكتابة أحمد مراد، واحداً من أبرز أفلام الألفية الجديدة التي تبنّت بوضوحٍ جانب الخرافات، متسبّباً في إثارة جدلٍ واسعٍ قبل 5 سنوات.

ومع طرح الجزء الثاني الآن، يتبين أن صناع الفيلم قرّروا استنساخ نفس حبكة الجزء الأول دون أي إضافات، متمسّكين بتجاهل كل ما هو عقلاني، لضمان إثارة الجهور.

تدور أحداث القصّة داخل أروقة مصحّةٍ نفسية، تعتمد بشكلٍ أساسي على وجود جن يتلبّس أجساد البشر ويدفعهم لقتل ذويهم. يتمكَّن طبيب نفسي من حلّ لغز الجرائم مستعيناً بأقراص هلوسة تساعده على رؤية الحقيقة لكن في زمن قديم.

يكتب المؤلف سكيب دايب يونج في كتابه (السينما وعلم النفس) منتقداً عدم تحري الدقة: "يروق لصناع الأفلام التلاعب بالسلوكيات المرتبطة بالمرض النفسي. فهم يعملون في مجال يقوم على الإثارة وبيع التذاكر، ويعرفون أن غالبية الجمهور ليسوا علماء نفس، ومن ثم لن يعترضوا على ما يشوب صور الأفلام من عدم دقة. بيد أن عدم الدقة هذه والانحرافات عن الواقع تثير انزعاجاً كبيراً بين المشاهدين المشتغلين بالطب النفسي".

باحثة شابة تتزوج جني

التداخل بين الطب النفسي وعالم الشياطين ليس بجديد على السينما المصرية، ففي فيلم (الإنس والجن- 1985) إخراج محمد راضي وكتابة محمد عثمان، يتداعى عالم باحثةٍ شابة متفوّقة مع ظهور جن يتجسّد في هيئة رجل، يلاحقها في كل مكان ليتزوجها.

وعلى الرغم من أن صناع الفيلم كان أمامهم فرصة تقديم عالم خيالي شيق، فإنهم فضلوا أن تكون ملامح شخصية البطلة عقلانية ومثقفة تميل إلى تلقي العلاج النفسي، رافضة أن تستجيب لتجّار الدجل والشعوذة في بادئ الأمر، لكن في النهاية تضطر إليهم بعدما يعجز العلم عن تفسير حالتها وحل أزمتها.

"لو نزلت الأرشيف، هتلاقي حالات كتير الطب النفسي ملقاش ليها تفسير"، هكذا يقول الطبيب النفسي لزميله في فيلم (الفيل الأزرق 2) بعدما سلّم بأن بعض المرضى لا يمكن مداوتهم بالعلم وإنما بالتصديق في قوة السحر والأعمال السفلية.

هذا الطرح يتشابه مع ما قدمه فيلم (الإنس والجن) الذي يُلام فيه الطبيب النفسي في النهاية على عدم اقتناعه بأن هناك شيء خارق يظهر لمريضته.

يعلّق الطبيب النفسي أحمد عزت في تصريح لرصيف22: لا يوجد أي مانع من هذا التداخل بين العالمين، خاصة أنه متحقّق بشكل دائم على أرض الواقع، لكن عزت يشدد في الوقت نفسه على ضرورة أن يتم التناول بقدر أكبر من الحساسية والحسم، خاصة في ظل ثقافةٍ بدائيةٍ تسود المجتمع ولا تفرق بشكل واضح بين ما ينتمي للخيال الفني وبين الواقع.

 "يروق لصناع الأفلام التلاعب بالسلوكيات المرتبطة بالمرض النفسي. هم يعملون في مجال يقوم على الإثارة وبيع التذاكر،  ولكن عدم الدقة هذه والانحرافات عن الواقع تثير انزعاج المشاهدين المشتغلين بالطب النفسي".

كما يعتبر أن الجملة المذكورة في (الفيل الأزرق 2)، استُخدمت بشكلٍ مضللٍ في سياقها. فصحيح أن العلم لا يزال يبحث عن إجاباتٍ للكثير من الأسئلة الغامضة، لكن ما يطرحه الفيلم أن هناك عدداً من المرضى النفسيين في أزمنةٍ مختلفة أدّعوا أن أجسادهم تلبّسها الجن، وهذا نوع من الضلالات شائع وبعيد كل البعد عن مفهوم الغموض.

أقراص هلوسة وسفر عبر الزمن

المكونات الأساسية التي تستند عليها حبكة (الفيل الأزرق) بجزأيه، من أفعال خارقة للطبيعة وأقراص هلوسة وسفر عبر الزمن، توفّرت كلها من قبل في فيلم (الرقص مع الشيطان – 1993) إخراج علاء محجوب وكتابة محمد خليل الزهار. تدور القصة حول طبيبٍ صيدلي يعثر على نباتٍ شيطاني يستخلص منه عقاراً يتيح له إمكانية الانتقال إلى الماضي للقاء جدّه ومعرفة مكان ثروته المُخبأة. وبينما يداوم على تناول العقار حتى يتوصل إلى السرّ، يظهر له كلب أسود مخيف أقرب لكونه شيطاناً متخفياً.

يركز الحوار بشكل أساسي على المناظرة بين المنهجين: العلمي والغيبي، وبالرغم من أنه يميل قليلا إلى جانب الخرافة لتعزيز حالة الإثارة، فإن النهاية تأتي منحازة إلى تفسير الأشياء اعتماداً على المنطق. فالعقار يتضمّن مواد شبيهة بأقراص الهلوسة تجعل الطبيب يتصور أنه يرى الماضي والمستقبل، وبالتالي ينتهي به الحال في مصحة لتلقي العلاج.


لكن هل اختلاف المعالجات السينمائية يؤثر بشكل أو آخر على نظرة المشاهد للطب النفسي؟ في كتاب (السينما وعلم النفس)، يذكر المؤلف أن "ما كان لتمثيلات الاضطرابات النفسية والعلاج النفسي أن تستحوذ على كل هذا الاهتمام من جانب علماء النفس لولا وجود مخاوف من تأثير هذه الصور على مواقف الناس تجاه علم النفس في الواقع، وما إن كان ضررها أكثر من نفعها".

الطبيب النفسي أحمد عزت: على صناع الأفلام أن يكونوا أكثر حساسية،  خاصة في ظل ثقافة بدائية تسود المجتمع، وجمهور لا يفرق بين الواقع والخيال الفني

يوضح الطبيب النفسي أحمد نور أن هناك أفلاماً في السينما العالمية تقدم صورة وصفية دون إدانة للمرضى، حتى أن الأطباء في بداية مشوارهم العلمي يشاهدونها للتعرّف أكثر على أنواع الشخصيات والاضطرابات النفسية والسلوك البشري. لكن في الوقت نفسه، هناك أفلام أخرى تصور المرض النفسي بشكل مشين، وتتعامل معه على اعتباره أنه وصمة عار، بالتالي يكون لها تأثير مضر على المشاهد، خاصة غير المُلم بالمعلومات العلمية.

ويحذر نور  في تصريحات لرصيف22 من انتشار تلك الأفكار: "المشكلة الحقيقية هي صناعة أفلام بأحدث التقنيات لتقديم مضمون رجعي يروّج للخرافة على أنها شيء حقيقي وملموس".

كاميرا سحرية في يد صحفي مكتئب

الحيرة بين الانحياز لعلم النفس أم الخرافات، تتجلّى في فيلم (مصور قتيل -2012) إخراج كريم العدل وكتابة عمرو سلامة، حيث تركّز الأحداث على مصور صحفي ماهر يعيش حالةً من الاكتئاب بعد مقتل زوجته وعدم توصل الشرطة للجاني، نعتقد في البداية أنَّ الحل سيكون في الكاميرا ذات التاريخ الغامض التي يشتريها المصور من أحد المتسوّلين، ويتبين أن لديها قدرة سحرية على التقاط صور من أزمنة مختلفة، ثم يلجأ صنّاع الفيلم إلى الطب النفسي، الذي يفسر الأمر بأن المصور لديه هلاوس سمعية وبصرية تجعله يظن أنه قادر على رؤية المستقبل وتدفعه إلى ارتكاب جرائم بشعة، حتى تأتي النهاية ضاربةً بالتفسيرين عرض الحائط، بعدما تتبنى فكرة أن البطل يرى المستقبل فعلاً إثر تعرّضه لحادث في الصغر، وبالتالي يقدم على قتل ضحاياه قبل ارتكابهم أخطاء كبرى، في استلهام لشخصية "الخضر" الأسطورية في التصوف الإسلامي، الذي يرتكب ما يشبه الجرائم تفادياً لما يعلمه مسبقاً من أحداث.

"الثقافات الأخرى قادرة عادة على تأويل المحتوي الغرائبي في الأفلام، أما هنا يتم احتضان مثل هذه الأفكار بحرفيتها"

يؤكد أحمد عزت أنه لا يمكن فرض وصاية على المبدع عند تناوله لأفكار بعينها، خاصة أنها جزء من الثقافة السائدة، كما أن هذه المواضيع يتم تقديمها في مختلف سينمات العالم، لكن الاختلاف أنَّ الثقافات الأخرى قادرة عادة على تأويل المحتوي الغرائبي بشكلٍ مجازي، أما هنا يتم احتضان مثل هذه الأفكار والتعامل معها بحرفية وواقعية شديدة.

يشرح عزت أن صور الطب النفسي في السينما غير واقعية لحد بعيد حتى الآن، حيث تقدّم باستسهالٍ شديدٍ، وتعتمد في أغلب الأحيان على استنساخ صورٍ سينمائية أقدم كمرجع لها، بدلاً من الرجوع إلى الحقائق.

ويشدد أحمد نور على أنَّ الفنان لديه الحق في طرح أي موضوع، لكن في الوقت نفسه لا يمكن إعفاؤه من المسؤولية تجاه مجتمع يعاني من ارتفاع معدلات الجهل ويفتقر إلى التفكير العلمي، فالسينما تجاوزت كونها وسيلة للتسلية، وأصبحت قادرة على تشكيل أفكار المشاهدين وتخيلاتهم عن الواقع.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard