صادفت مؤخراً صورة يتندر من خلالها صديق مسيحي على صيغة واحدة من أشهر أدعية المسلمين، ألا وهي: "اللهم اشفنا واشف مرضى المسلمين".
تعجّب صديقي من اقتصار الدعاء بالشفاء على المسلمين فقط، ولم يكن لغيرهم حظ من تضرع المصلين داخل المساجد طلباً للعلاج، البعض قابل هذه السخرية بشيء من اللين مع طمأنة الصديق المسيحي المندهش بأنهم سوف يدعون له في صلاتهم أن يشفيه الله، وعلى العكس تماماً، ذهب آخرون إلى رفض تلك السخرية، لأن الإسلام أمر أبناءه بعدم الدعاء لأبناء العقائد الأخرى، أو هكذا ظنوا هم وقد ساء ظنهم بلا شك.
بداية، الدعاء بالشفاء والرزق واليسر في الحياة والهداية كلها جائزة فقهياً بإجماع علماء الإسلام، وإنما فقط الدعاء بالرحمة في الآخرة هو المرفوض.
إذا من أين أتى بفتواهم هؤلاء الغاضبون تجاه الصورة الساخرة والمدافعون عن اقتصار الدعاء بالشفاء على مصائر المسلمين؟
من سوء ظنهم غالباً، إن لم يكن قد أفتى بذلك أحد الدعاة المتعصبين ضد أهل الكتاب وغيرهم، بل إن سوء الظن هذا قد جعلهم يحرّمون حلالاً، وهو الأمر الذي يعتبر من الكبائر في الإسلام، أي أنهم جنحوا إلى الذنب الكبير تفادياً لحسن الظن، فضلاً عن سؤال أهل الدين مثلاً، والقصة لا تقتصر فقط على هذا الدعاء أو هذه الصورة، بل القضية أعمق من ذلك بكثير.
ربما أفضل الأمثلة التي أستطيع إدراجها لأثبت مدى ميل عديد العقول للتطرف، أو بلفظ أدق، ميلها إلى التحريم عوضاً عن السماح، هو منشور لأستاذ التنمية البشرية الإسلامية أحمد عمارة، قال فيه: "أنا أحمد عمارة صلى الله عليه وسلم"، ثم ترك هذا المنشور ساعات عديدة يحصد فيها كيلاً من السباب والهجوم عليه ونعته بالكافر.
فلقد تعلمنا منذ صغرنا أن هذه الجملة "صلى الله عليه وسلم" لا تصح إلا إن ارتبطت بسيرة النبي، وليس أي نبي، بل هو نبي الإسلام محمد فقط، أما بقية الأنبياء والمرسلين فيكفيهم أن تلحق باسمهم عبارة "عليه السلام".
مرت الساعات وما زالت اللعنات تهبط من كل حدب وصوب على رأس "عمارة"، حتى قرر كتابة منشوراً جديداً يشرح فيه معنى تلك الجملة التي راهن أن جميع من هاجموه ليس لديهم علم بمعناها، وكذلك أراهن أنا في هذا المقال.
لنفكر قليلاً في هذا الأمر: تخيل أن أكثر جملة ربما تستخدمها في حياتك لا تعرف معناها حقاً، فقط ترددها مع المرددين دون أن تتساءل ماذا تعني تلك الكلمات التي نطقت بها الآن؟ كيف سيصلي الله على نبيه محمد؟ هل الله يصلي أصلاً؟ ولمن يصلي إذن؟
اعتاد البعض التحريم للدرجة التي تجعل كلمة "هذا حرام" أسهل وأسرع من كلمة "يجوز"، وكأن المتعصبين الذين اعتمدوا في تطرفهم على أحاديث وتفسيرات بعينها لا يكفون، فتطوّع العامة لتبني التطرف كأسلوب في التفكير، يحرمون بعضاً من قليل مما حلل الله لهم
كما يوجد ملكيون أكثر من الملك، فالآن يمكن القول عن البعض بأنهم أرباب أكثر من الرب، ولعل هذا الحديث يجعل الجميع يحسن الظن بإلهه، ويتريث قبل أن يطلق الأحكام بالتحريم، والتي لا بد وأنها تستنزف من مساحات تنفس الآخرين
الصلاة ثلاث أنواع، صلاة العبد وصلاة الملائكة وصلاة الرب، الأولى هي التضرع والسجود والركوع وما إلى ذلك من طرائق تواصل الإنسان مع إلهه، والثانية هي طلب الاستغفار والبركة من الملائكة ولأجل البشر، والثالثة هي الرحمة.
أي أن تلك الجملة: "عليه الصلاة والسلام"، ما هي إلا "عليه الرحمة والسلام"، وهي الجملة التي نرددها في كل مرة نقابل فيها أحدهم في مجلس جديد وهي ذاتها تحية الإسلام التي تقول: "السلام عليكم ورحمة الله"، لم تقتنع بعد؟
حسناً، ماذا لو قلت لك بأنك بالفعل تردد هذا الدعاء لغير نبي الإسلام 5 مرات على الأقل يومياً، إن كنت مواظباً على الصلوات؟ ففي التشهد ستجد نفسك تقول: "اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم"، وهكذا تكون قد طلبت صلاة الله لمحمد وآل بيته ولإبراهيم وآل بيته، وبالطبع ما يسري من دعاء على كل هؤلاء فيجب أن يسري على جميع المؤمنين، كما تصدح ساحات الأعياد بتكبيرات العيد التي تحتوي على هذا القول: "اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد وعلى أصحاب سيدنا محمد وعلى أنصار سيدنا محمد وعلى أزواج سيدنا محمد وعلى ذرية سيدنا محمد وسلم تسليماً كثيراً"، وإن لم يقنعك ذلك فربما سينهي هذا النقاش علمك بأن الرب قد خاطب النبي محمد في القرآن، يملي عليه وصايا التعامل مع التوابين قائلاً: "خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ"، فهل سترفض هذا الأمر من إلهك؟
القصة هي أن البعض اعتاد التحريم للدرجة التي تجعل كلمة "هذا حرام" أسهل وأسرع من كلمة "يجوز"، وكأن المتعصبين الذين اعتمدوا في تطرفهم على أحاديث وتفسيرات بعينها لا يكفون، فتطوّع العامة لتبني التطرف كأسلوب في التفكير، يحرمون بعضاً من قليل مما حلل الله لهم، وهكذا يصبحون أكثر حزماً تجاه الدين من الله ذاته، وكما يوجد ملكيون أكثر من الملك، فالآن يمكن القول عن البعض بأنهم أرباب أكثر من الرب، ولعل هذا الحديث يجعل الجميع يحسن الظن بإلهه، ويتريث قبل أن يطلق الأحكام بالتحريم، والتي لا بد وأنها تستنزف من مساحات تنفس الآخرين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...