في عالم السينما، هناك مخرج وهناك مدرسة إخراج... الأول يبحث عن السيناريو الجيد أو العمل مضمون الإيرادات أو التغيير، أما المدرسة الإخراجية، الممثلة في شخص واحد، تبحث عما يوافق رؤيتها وعالمها الإبداعي، المخرج/المدرسة يصنع أدواته بنفسه ويبحث عنه السيناريو الذي يشبهه تماماً، كما يبحث هو عن القصة التي تداعب خياله.
والمخرج سمير سيف، الذي رحل عن عالمنا منذ أيام إثر أصابته بنوبة قلبية عن عمر 72 عاماً، واحد من المدارس الإخراجية، وباعتقادي أن مدارس الجيل الثاني في الإخراج هم محمد خان ورأفت الميهي وسمير سيف، وإذا كان محمد خان اعتمد على المكان كبطل لكافة الأحداث، ومدرسة رأفت الميهي رفعت لافتة "العبث"، فإن سمير سيف في اعتقادي أكثرهم ذكاء، فاختار مفردات عالمه الإبداعي الذي يتسق مع رؤيته، وبخيط رفيع لم يقطعه أبداً… كيف ذلك؟
يمكننا صياغة مفردات سينما سمير سيف، ابن حي شبرا والمولود عام 1947، بعدة عناصر، أولها ليس المجرم بالضرورة رجلاً شريراً يبحث عن الأذى لكل الناس، وليس نبتة شيطانية، بل هو إنسان له مأساته ومشاكله وارتكابه لجريمة لا يعني نبذه.
وحرص سمير سيف على التأكيد على هذا العنصر في معظم أفلامه، وكما بدأ محمد خان مع نور الشريف في فيلم "ضربة شمس"، بدأ سمير سيف مشواره بفيلم أيضاً من بطولة وإنتاج نور الشريف، ألا وهو "دائرة الانتقام" عام 1976. يحكي الفيلم قصة أربعة لصوص اشتركوا في جريمة سرقة، يتعرض أحدهم، بطل الفيلم، للخيانة من زملائه ليزجوا به في السجن سنوات طويلة، ومن ثم يخرج ويقرّر الانتقام منهم. وفي هذا الفيلم استطاع سمير سيف أن يجعل الجمهور متعاطفاً مع البطل الذي هو في الأصل لص.
تلك الرؤية لمفردات سينما "سيف" تكرست أكثر مع فيلم "المشبوه"، أحد أشهر وأفضل أعمال عادل إمام، والذي جسّد فيه قصة "ماهر الحرامي" الذي يقوم بعملية سطو، يستولي فيها على أموال، ويتعّرف على "بطة الحرامية" هي الأخرى، وتنشأ بينهما قصة حب… من ثم يرغب البطل بالتوبة، لكنه لا ينجو من مطاردة الضابط الذي استولى على سلاحه.
وخلال أحداث الفيلم يُظهر سمير سيف الجانب الآخر للمجرم، فهو صادق وحنون حين يعشق، وهو أيضاً يريد التوبة لولا ماضيه الذي يطارده، وهو لم يكن يسرق لولا حاجته... ليتعاطف الجمهور مع البطل مرة أخرى، في تجاهل واضح إنه في الأصل مرتكب لجريمة. واستمر هذا العنصر في عدد من أفلام سمير سيف مثل "سوق المتعة " و"المولد".
أما العنصر الثاني في سينما سمير سيف، والتي تحمل موقفاً واضحاً لرؤية الرجل السياسية، رغم أنه أقل المخرجين حديثاً في السياسة، التي عبّر عنها أحسن تعبير في أعماله الفنية، هذا العنصر هو أنه في غياب العدالة يجب على المظلوم أن يأخذ حقه بنفسه، فكما أوضحت حدث ذلك في فيلم "دائرة الانتقام"، حين قرر البطل الانتقام لنفسه ممن خانوه، وتكرر في فيلم "المشبوه" بإقدام البطل على الإمساك بالعصابة التي تخلى عنها وتطارده.
ويظهر ذلك بصورة أوضح في فيلم "الغول" الذي يحكي قصة صحفي يكتشف قضية قتل، ولكن القاتل نجل رجل أعمال، ويستخدم نفوذه لإبعاد التهمة عن ابنه. وحين ييأس البطل من تحقيق العدالة ويصدر حكم ببراءة القاتل نتيجة التلاعب، يقرر عادل إمام قتل رجل الأعمال لتطبيق قانون العدالة من وجهة نظره، حيث يحمل الفيلم انتقاداً واضحاً للقانون واصفاً إياه "بقانون ساكسونيا"، كما هو الحال أيضاً في فيلم "سوق المتعة" حين يقرر محمود عبد العزيز قتل الرجل الذي أدخله السجن.
واستكمالًا لعنصر "على المظلوم أن يأخذ حقه بيديه"، يضيف سمير سيف عنصراً ثالثاً في توليفته الإبداعية، عنوانه أن الدولة عاجزة تماماً على نجدة أي مواطن، لكنها تظهر فقط في "الكادر الأخير"، وربما حدث ذلك من أجل تمرير الأعمال الفنية لا أكثر، كما في فيلم "آخر الرجال المحترمين" لنور الشريف عام 1984، الذي جسد بوضوح أن الإنسان لا يساوي شيئاً عند الدولة.
يمكننا صياغة مفردات سينما سمير سيف، بعدة عناصر، منها أن ليس المجرم بالضرورة رجلاً شريراً يبحث عن الأذى لكل الناس، وليس نبتة شيطانية، بل هو إنسان له مأساته ومشاكله وارتكابه لجريمة لا يعني نبذه
لماذا وصفت سمير سيف بأنه أكثر ذكاء من زملائه؟ فالمتتبع لمسيرة سمير سيف السينمائية بتوليفته الإبداعية يجد أنه حقق الحُسنيين، فقدّم سينما جيدة تحمل رؤيته الخاصة وحافظ على ما يريد، وفي نفس الوقت حقق جماهيرية جعلته يتربع على عرش الإيرادات
فالأحداث توضح أنه حين فقد نور الشريف "الأستاذ" تلميذة أثناء رحلة مدرسية، لم تنجده وزارة الداخلية في البحث عن الطفلة واكتفت بالإجراءات الروتينية، ليخوض هو رحلة البحث معتمداً على عصابات خطف الأطفال، وفي النهاية هم من يوصلوه إليها. وتظهر الشرطة في مشهد استرجاع الطفلة فقط، نفس ما حدث في فيلم "الهلفوت" لعادل إمام عام 1985، فلا أحد ينجد المنطقة النائية من "المعلم عسران الضبع"، لكن "عرفة الهلفوت" هو من يتصدى له بكل قوة، وتحتفي به قوات الشرطة لأنه خلصها من "بلطجي".
أما عبقرية سمير سيف فإنه استطاع أن يحافظ على هذا الخط حتى وهو يقدم أفلاماً كوميدية من الطراز الأول، مثل "احترس من الخط" لعادل إمام، فأظهر كيف أن المواطن البسيط اعتمد على نفسه أيضاً لكشف الفساد، بعد أن قدم بلاغات لم يلتفت إليها أحد، وأيضاً في "غريب في بيتي" لنور الشريف وسعاد حسني، وقصة صراعهما على شقة، حيث لم يستطع أحد حل المشكلة، لأن القانون يرفع شعار "يبقى الوضع على ما هو عليه وعلى المتضرر اللجوء للقضاء".
لماذا وصفت سمير سيف بأنه أكثر ذكاء من زميليه محمد خان ورأفت الميهي؟ فالمتتبع لمسيرة سمير سيف السينمائية بتوليفته الإبداعية يجد أنه حقق الحُسنيين، فقدّم سينما جيدة تحمل رؤيته الخاصة وحافظ على ما يريد، وفي نفس الوقت حقق جماهيرية جعلته يتربع على عرش الإيرادات في وقت من الأوقات، ولم يكن ذلك نتيجة النجوم الذين عملوا معه مثل عادل إمام ونور الشريف.
فحين عمل عادل إمام مع محمد خان في "الحريف"، سقط الفيلم جماهيرياً رغم عبقريته، ولم يكرر نور الشريف كثيراً تجربته مع "خان" أيضاً، أما سمير سيف فكان مخرجاً مفضلاً للنجمين، وذلك يعود إلى أن سينما سمير سيف، رغم ما فيها من تحليل عميق للمجتمع، لكنها أيضاً جاذبة للجمهور، فالجمهور يتعاطف دوماً مع المظلوم حتى لو كان مجرماً، ويدافع عن المجرم إذا شعر أنه تعرّض لظروف قادته للانحراف، ربما يعود ذلك إلى أن كثيراً من الشعوب تشعر أنها مظلومة، كما كان سمير سيف عند ظن الجمهور، حين أكد لهم أن عدالة الدولة في أحيان كثيرة غائبة، فصدقه الجمهور، كما، ولنحيل كل ذلك إلى شعبية أبطال أفلامه، لتتجسّد لنا مدرسة سمير سيف الإخراجية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...