شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
وجه المَحَنْ... تاريخ بصري-وهمي للتستسترون

وجه المَحَنْ... تاريخ بصري-وهمي للتستسترون

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأربعاء 18 ديسمبر 201908:40 ص

تتخلل النقاشات الخاصة بين الرجال، أو تلك التي تدور بين النساء، حديث عن "متلازمة" يرصدها الطرفان، لا يمكن تحديدها بدقة، لكنها تظهر قبل لحظة التقبيل، أو أثناء الإيلاج، وأحياناً، بمجرد نظر الرجل إلى ما "يشتهي". هذه المتلازمة تسمى بـ"وجه المحن"، مجموعة من الانقباضات أو الارتخاءات العضلية، تظهر وتختفي لثوان على وجه الرجل حين تقع عينه على موضوع رغبته، إذ تتغير "نظرته" وتتركز في زاوية وراء جسد أو صورة المرأة، ويلتبس أثناء ذلك السلوك ونبرة الصوت والكلام، أو تتلاشى الأعين وراء الجفون، ويطفئ العقل وعيه على حساب شهوة اللحم.

الوجه السابق أزمة في مفهوم الرجولة وأدائها، ويتمرن الواحد منا لسنوات في سبيل إخفائه والتحكم بعضلات وجهه واختصار زمن ظهور المحن إلى أجزاء من الثانية، خصوصاً في اللقاء الأول، العفوي، الذي من المفترض ألا يحمل أي مستقبل، بعكس ما يحدث في مخيلة الرجل، يمكن تشبيه الأسلوب الذي يتكون فيه هذا الوجه بالأصوات التي تبني كلمة "أير" التي تبدأ بهمزة واضحة، من سقف الحلق من نقطة بداية معلومة، أو الوجه، لتدخل في حرف جوفي وهو الياء حسب الفراهيدي، من هذا الجوف/ الشبق، تأتي الراء وارتجاجاتها خلف النطع، تنقبض وترتخي، يتحرك ويسكن الهواء كعضلات وجه المحن إلى لحظة النهاية غير المحددة، فزمن تدوير الراء لا نهائي، ولابد من لحظة واعية لإنهاء التدوير/ إنهاء المحن.

لا يوجد علم لدعم الافتراضات السابقة، لكن يمكن تفسير هذا "الوجه" بلحظة سقوط قناع "الأداء" الرسمي، وكسر الرغبة وأثرها المادي للوجه الجدي العلني، أيضاً هذه حجة مفتعلة، لكن الأشكال الثقافية تبيح للرجولة أن تفقد "اتزانها" أمام جسد المرأة التي تتحول إلى نوع من اللحم الصرف، موضوعة اللعق والتذوق والالتهام، بل إن الثقافة اليومية تروج لثنائية الانضباط أمام الانفلات، عبر حكايات عن شهوة المرأة التي تفوق شهوة الرجل بعشرات المرات، لكن الاختلاف أن المرأة "تجيد إخفاء شهوتها" وفي حال أظهرتها تُتهم بالشبقية، في حين أن الرجل عاجز عن كبح ذلك، وهنا تكمن خطورة وجه المحن، هو يكشف شروط الفشل، وأساليب التنكر والانتحال التي تمارسها الرجولة لضبط شهوتها، هو أشبه بحالة فزع قد تؤدي لخراب هيبة الرجولة.

لكن، يمكن أن نرى أشكال هذا الوجه الغروتيسكية في السينما، حيث يسقط فك "القناع -The mask"، ويتدحرج لسانه، ويسيل لعابه، بينما تغادر عيناه محجريهما، وكأن حفر الوعي وإدراك العالم (الفم، العين)، تتفكك وتنفصل عن بعضها البعض، تتشتت "الأنا" وتفقد وحدتها، لـ"تسيل" بعدها وتفقد صلابتها.



يظهر هذا الوجه حين يصاب الفرد بالدهشة المصحوبة بالفزع اللذين يحركهما "لحم الأنثى"، موضوع الرغبة القريب والموجود، الأخطر، هو تحديق الموضوع بوجه المحن، ما يوصف أحياناً بالفحش، فالتقاء الأعين بين "الرجولة" و"موضوع لذتها" معيب، كلوحة أوليبميا (1863) لمانيه، والتي شكلت فضيحة حين أنجزت بسبب تحديقتها المباشرة بوجه من "يشتهيها".


يصعب رصد وجه المحن في تاريخ التمثيل الثقافي، خصوصاً أن هناك مهارات لإتقان إخفائه يفترضها الدور الرجولي كي لا تظهر "شهوته الفاحشة"، لكن يمكن أن نراه في أداء البورنو بوضوح، لكن خطورته في المساحات الجدية، تكمن في أنه يُفقِد صاحبه مكانته وتعريفه السياسي، ويتحول إلى شهواني لابد له من استعادة انضباطه، فهيمنة المحن قد تفقد الفرد "وجهه" أو هويته، بكلام آخر، قناعه الجدي -Persona، الذي تقول بعض التعريفات إن كل أسرة رومانيّة حرة امتلكت قناعاً يوضع في صالة، وفقدانه يعني فقدانهم لمكانتهم القانونية، ليتحولوا إلى عبيد، أو موضوعات منفية، فالشهواني إن خسر وجهه قد يتحول إلى حياة صرفة، ضعيفاً يمكن السيطرة عليه، كتعبير موريس رافال: "العبد هو الذي قطع لسانه، هو من يتحدث عبر النظرات والتعابير والأوجه"، فقدان "القناع الجدي" بسبب "وجه المحن" وعلاقة ذلك مع العبودية نقرأها في "فينوس ترتدي الفراء" ليوبولد فون مازوخ، وفيها "كف على الوجه أفضل من عشر محاضرات، الكف يجعلك تفهم بسرعة، خصوصاً حين تكون التعليمات صادرة من قبضة صغيرة لامرأة".

وجه "المحن" أزمة في مفهوم الرجولة وأدائها... كيف يتمرّن الواحد منا لسنوات في سبيل إخفائه، التحكم بعضلات وجهه واختصار زمن ظهور المحن إلى أجزاء من الثانيّة، خصوصاً في اللقاء الأول، العفوي، الذي من المفترض ألا يحمل أي مستقبل، بعكس ما يحدث في مخيّلة الرجل

يظهر وجه المحن حين يصاب الفرد بالدهشة المصحوبة بالفزع اللذين يحركهما "لحم الأنثى"، موضوع الرغبة القريب والموجود. الأخطر، هو تحديق الموضوع بوجه المحن، ما يوصف أحياناً بالفحش، فالتقاء الأعين بين "الرجولة" و"موضوع لذّتها"، مُعيب

واحدة من التمثلات هذا الوجه نراها في لوحة سيلفادور دالي "المستمني العظيم" الوجه الشبقي يفقد ملامحه، ويتحول إلى غرض/صخرة، يتكئ عليها جسد امرأة (تشبه غالا ملهمة دالي) تتجه نحو مركز الفانتازم الذكوري، القضيب، وكأن الفانتازم والرغبة تلغي الملامح، فلا أعين، لا رموش، لا فم، فقط كتلة يستند عليها "المُتخيل"، المهدد دوماً بالقرف/ الحشرات أسفل الصخرة، وشخص يحدق من بعيد، كالخوف من أن يفضح هذا الوجه خارج مساحات الرغبة.


المحن والوحش

وجه "القناع" لا يتفكك فقط، بل يتحول ليصبح ذئباً يعوي، هذا "الانمساخ/ التحول" يحيلنا إلى شخصية غامضة في المسرح الإغريقي، الساتير وقناعه، هو حيواني، ضاحك، بذيء، فاحش، ذو عضو منتصب دوماً، غاوي النساء، صاحب الوجه/ القناع الشبقي، الذي يعكس ثنائية الإنسان العقلاني-الوحش الشهواني، وحين نقرأ واحداً من أوصاف أقنعة الساتير المكتشفة نراه مشابهاً لتحولات وجه المحن ، فهو ذو" فم مفتوح، أعين فارغة تحدق .." ، هذه الازدواجية وعلاقتها مع الشبق يصفها رولان بارت في "شذرات من خطاب محب" بأنها "أزمة الآنية"، فخطورة وجه المحن أن صاحبه يريد رضاً آنياً، إذ نقرأ: "يقول الساتير: أريد أن تُشبع رغباتي حالاً، إن شاهدت وجهاً نائماً، شفاهاً متباعدة، يد مفتوحة، أريد أن أكون قادراً على الاندفاع نحوها...".

التقاط لحظة المحن الرجولي

نتلمس مع بدايات التصوير أسلوب ظهور وجه المحن بصورة قابلة للطباعة والنسخ والتبادل، فهو يدعي الحياد، يصطنع العفوية، كما في صورة تعود لعام 1855، لا نعلم شيء عنها سوى أنها مأخوذة في استوديو، وأنها من نوع "دوغروتيب"، الصور التي كانت مخصصة للأغنياء بسبب كلفتها المرتفعة، وفيها نرى وجهاً غريباً، مريباً، صاحبه متأنق، لا يخفي انتصابه ورغبته "الآنية"، هو كالساتير، يريد اللمس، أي لمس كان، لأي جزء من الـ"لحم المؤنث"، المثير للاهتمام أن الصورة في تلك الفترة كان تحتاج لعدة ثوان كي يتم إنتاجها، لا أقل من ثانية كما الآن، ما يعني تطور مهارات الرجولة للحفاظ على انضباطها لثوان أثناء فترة التصوير.


يظهر وجه المحن أيضاً في التراث الاستعماري، في المساحات التي يعلن فيها الذكر الأبيض هيمنته وتفوقه، ممسكاً يد موضوع سيادته وشهوته، يدعي ألا شيء غريب، هي مجرد صورة، لكن الابتسامة المريبة وأسلوب توزع العضلات في الوجه، تكشف لحظة تجلي القضيبيّة التي تتحرك جيوش بسببها لأجل استعمار "الآخر"، وتذوقه، والهيمنة على لحمه، ليظهر هذا الوجه بوصفه العلامة الساخرة على "التحضّر" والخطاب المرتبط بها.


قراءة منحرفة لميدوزا

يتضح "وجه المحن" لدى من حدّقوا في ميدوزا، فبعض تفسيرات الأسطورة تقول إنها كانت امرأة جميلة، فاتنة، ومن وجهة نظر التحليل النفسي هي كذلك قبل إدراك "الرجل" لعقدة الخصاء، حسب تأويل سيجموند فرويد، لكن بعد أن تدرك الذكورة نفسها تتحول ميدوزا إلى مصدر للرعب، بالرغم من تأويلات فرويد المبالغ بها، لكن يمكن القول إن الرجولة جعلت من ميدوزا "بشعة" لأنها تكشف "وجه المحن" الذي قد يتحول إلى "فزع" في حال اشتعلت الشهوة. يمكن الاستمرار في التأويل والقول إن ميدوزا بقيت جميلة وغاوية، ما يعني أن أوجه ضحاياها الحجريين تحدق رغبة وشبقاً بها، فلعنتها هي قدرتها على التقاط وجه المحن وتخليده، كدليل مادي على الشهوانية الذكورية، خصوصاً أنها ضحية اغتصاب، أحقر أنواع العنف الذكوري، من هنا يمكن لنا أن نتلمس جمالها في "تحولات" أوفيد، قبل أن يغتصبها نيبتون، فبريسيوس الذي قطع رأسها يحكي لنا قصتها بقوله:

"كان لميدوزا في الزمان سحر، ولنيل حبّها كان هناك جمع من العشاق الشبقين والجائعين، أولئك، الذين رأوها لم يشهدوا من قبل ملامح أخاذة كتلك التي في وجهها العذب.."


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image