يحتاج المثقف المجتهد ذاك العبور إلى عوالم أخرى، كي يرى ما يرى في مرايا الوجود المبطّن في حقيقة الكون، هذا الكون المليء بالفضاءات الفسيحة؛ فكلّما عبرنا إلى مكانٍ قصيٍّ فيه، نسأل السؤال الوجودي الكبير: ما حقيقة هذا اللغز/العالم؟ ولا لنجد الإجابة الواضحة للسؤال المفتوح على مصرعيهِ، بل، لكي نجول في حقيقة العالم، وبشكلٍ مختصرٍ للإجابة، نسافر أكثر، لنعرف أكثر، فالمعرفة قائمة على الزيارة الأولى، والتجربة الأولى هي المغامرة الأولى لاكتشاف العالم.
من هنا، يحتاج هذا المثقف ليرى، مثلما يحتاج إلى أن يقرأ. وليست القراءة الحسيّة وحدها المسؤولة عن شحن العقل بالمعرفة، فإنّ البصيرة الواقعية لها دورٌ في صقل المعلومة، وإثبات قدرتها على تقديم حقيقة الكلمة المكتوبة بحبر القلب، وفتح أبواب السرّ المغلقة، والمتخيّل فيها يحتاج إلى الواقع كي يثبت برهانه.
لا نجد في الثقافة العربية القديمة والحديثة، مثقفاً عربيّاً لم تدمن يداه على حمل الحقيبة، والتجوال في شوارع المدن الواسعة، والبحث عن الذات، وعن الحاجة المفقودة، يقول محمود درويش حين زار بيت نزار قباني في دمشق:
بيتٌ من الشعر - بيتُ الدمشقيّ
من جرسِ البابِ حتّى غطاء السرير،
كأنّ القصيدةَ سُكنى وهندسةٌ للغمام.
بلا مكتبٍ كان يكتبُ... يكتب فوق الوسادة ليلاً
وتكملُ أحلامهُ ذكريات اليمام.
لو لم يزُر درويش بيتَ قباني الدمشقي، هل كان سيستطيع وصفَ البيت الدمشقي العريق؟ في النص أيضاً، هناك سفرٌ وترحالٌ إلى عوالم المعنى، وفي خصوصية المشهد. وهناك أيضاً، رحلة إلى عالم قباني المختلف، ثمّة تجربة ما، كما قال درويش يوماً: "إنّ الشعر تجربة ومنفى".
هذا عن درويش الذي تنقل في مدنٍ عديدةٍ، مثل القاهرة، وبيروت، وباريس، ودمشق، وعمّان. وقد ساهمت هذه المدن بشكلٍ كبيرٍ على صقل موهبتهِ، كما قدمتْهُ إلى العالم.
لا نجد في الثقافة العربية القديمة والحديثة، مثقفاً عربيّاً لم تدمن يداه على حمل الحقيبة، والتجوال في شوارع المدن الواسعة، والبحث عن الذات، وعن الحاجة المفقودة
أمّا عند الشاعر السوري نزار قباني الذي روى بأنّهُ زار غرناطة في إسبانيا، والتقى بفتاة جميلة جدّاً ذات وجهٍ أندلسيٍّ أصيل، فكتب في حضرتها قصيدتهُ المشهورة "غرناطة"، يقول:
فـي مـدخـل الـحـمـراء كـان لـقـاؤنـا.. مـا أطــيـب الـلـُّقـيا بـلا ميعادِ
عـيـنان سـوداوان فـي حـجـريــهــما.. تــتوالــد الأبـعـاد مــن أبـعــادِ
هـل أنـت إسـبـانـيـة؟ سـاءلــتـُهـا.. قـالـت: وفـي غـرنـاطـة مـيلادي
غـرنـاطـة؟ وصـحـت قـرون سـبـعـة.. فـي تينـك العـينـين بعد رقادِ
وأمــيــة رايـاتـهـا مـرفــوعــة.. وجـيــادهـا مـــوصـــولــة بـجـيــادِ
يمتزج في النصّ الماثل أمامنا وجه المدينة "غرناطة"، ومدخلها الحمراء، ووجه الفتاة الإسبانية التي التقى بها صدفة في شوارع المدينة؛ فهذا السائح الشاعر قد عثر على قصيدتهِ التي يبحث عنها في البلد المضيف، ومن هنا، كان سؤاله في القصيدة، حين قال:" هـل أنـت إسـبـانـيـة؟ سـاءلــتـهـا.. قـالـت: وفـي غـرنـاطـة مـيلادي". إذاً، استطاع الشاعر أن يكتشف الشيء الجديد في سفرهِ البعيد، وأن يلتقي بحبيبتهِ المفقودة.
كما عند الشاعر العراقي سعدي يوسف، المقيم في المملكة المتحدة منذ 1999، تلك التجربة المشتهاة في زمن الرتابة، لكن سفره كان مختلفاً عمّا أسلفناه، إذ رأى به السّجنَ؛ ففي هذا السفر/السجن كان يحنُّ إلى بلدهِ الأم الذي هو العراق، يقول:
يا بلادي التي لستُ فيها
يا بلادي البعيدة
حيث تبكي السماء
حيث تبكي النساء
حيث لا يقرأ الناس إلا جريدة
يا بلادي التي لست فيها
با بلادي الوحيدة.
كأنّهُ حين ابتعد عن سمائهِ الأولى، اقترب منها في الشعر، فبدأ يكتب من بعيدٍ حنينه إليها، وربما، أصيب بحالةِ الفقدان تلك؛ فقدان البلد الأول في سفره الذي لا يعرف مستقرّاً، وهنا يكمن الاختلاف عند شاعرنا؛ إنّ هذا السفر شحنَ بهِ حبّ الوطن، وأشعل فيه صبابة العودة المنشودة إلى ربوعه.
ولا تغيب مصطلحات الترحال عن شعراء لبنان، فعند الشاعر اللبناني محمد علي شمس الدين، قصيدة بعنوان" نصف شمسٍ ويستريح الغريب"، يذكر فيها الرحيل القصي إلى شمسٍ أخرى، ولكنّهُ سرعان ما يستعيد تمسّكهُ بحقيبة العودة إلى جنوبهِ الأول
ولا تغيب مصطلحات الترحال عن شعراء لبنان، فعند الشاعر اللبناني محمد علي شمس الدين، قصيدة بعنوان" نصف شمسٍ ويستريح الغريب"، يذكر فيها الرحيل القصي إلى شمسٍ أخرى، ولكنّهُ سرعان ما يستعيد تمسّكهُ بحقيبة العودة إلى جنوبهِ الأول، يقول:
أرّقتني بعد الرحيل الجنوبُ
أبعيدٌ مزارهُم أم قريبُ
بجعٌ غامضٌ على النهر يجري
في الأقاصي وطائرٌ لا يؤوبُ
كلُّ غصنٍ عكّازهُ في يديهِ
يا ليأسٍ من يأسهِ لا يتوبُ
بين الغريب، وبين العائد إلى الجنوب، ذاك الرابط المتين بينهما، وكأنّهُ يقول: " أنا الراحل الآن والعائد غداً إلى جنوبي"، ولكنّنا نسأل: لماذا انتابتهُ حالة اليأس؟ هل هي من كثرة الإحساس بالغربة؟ أم هي حالة طبيعية توقظ الشاعر من فرحهِ الغامض إلى رشدهِ الواضح؛ أين كنت؟ وكيف أصبحت؟ ومتى أعود؟ كلّها أسئلة الوجود التي تصيبنا أثناء السفر، لكنّها أيضاً، تضيف على الشعر مغامرة الأسئلة الوجودية الكبيرة التي يحتاجها الشاعر السائح في الأمكنة.
وأخيراً، مع الشاعر السوري أدونيس المقيم في باريس منذ زمن، وكتب في وصف الاغتراب الكثيرَ من القصائد التي جسّدت هذا السفر الطويل، ومنها يقول:
ما الغيب؟
بيت نحب أن نراه،
ونكره أن نقيم فيه.
ما السر؟
باب مغلق إذا فتحته انكسر.
ما الحلم؟
جائع لا يكف عن قرع باب الواقع.
ما اليقين؟
قرار بعدم الحاجة الى المعرفة.
وفي خضمّ هذا التساؤل، نتلمس أسئلة الغيب التي تلمعُ في النصّ؛ فأسلوب شاعرنا رمزيٌّ وسورياليٌ أحياناً، لكنّهُ يدفعنا إلى التفكير الطويل في تحليلهِ، ولا سيما في مقدمة القصيدة. والسؤال الأول: ما الغيب؟ وكأنّ الغيب هو متسلسل مع ما تلاه من رموز، مثل: السرّ، والحلم، واليقين، وختاماً، الحاجة إلى المعرفة.
سفر الشعراء يختلف كثيراً عن الآخرين، لأنّهُ قراءة أخرى في العالم الملموس والمحسوس، فرمزيّة السفر أخذت جزءاً كبيراً في شعرنا العربي المعاصر، لأنّ العرب في القدمِ، كانوا رحّالة في البلاد والمدن والصحاري، ويستمرّ هذا السفر الشعري حتى عصرنا الراهن. كما لا يُخفى عنّا قول الإمام الشافعي بالسفر حين قال: "سافرْ! ففي الأسفار خمس فوائد؛ تغرّب عن الأوطان في طلب العلى، وتفريج همٍّ، واكتساب معيـــشة، وعلـــم وآداب، وصحـــــبة ماجد".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Apple User -
منذ 4 ساعاتHi
Apple User -
منذ 4 ساعاتHi
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 3 أيامرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ 4 أياممقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمقال جيد جدا