يأتي هذا المقال ضمن الملفّ المُعدّ لشهر ديسمبر 2019, في قسم "رود تريب" بـرصيف22، والمعنوَن: "فلنتسكّع معاً في الشّوارع".
هناك شعور يلازم الشخصَ المختلف عنّا، وإن كانت مفردة الاختلاف فضفاضة وتتسع لكثير من المعاني، إلا أن الشعور بالطرد يستحوذ على كلّ من تطارده فكرة مختلفة عن الأفكار التي تطارد الجميع؛ هكذا كنت أشعر طيلة الوقت؛ مطرودة من كل الأماكن التي يتواجد فيها الجميع، منذ بدء مراهقتي حتى اللحظة. تداهمني رغبة دائمة بالركض حيث الشارع الذي احتضنني. كلّ الشوارع طردتني بنفس الطريقة من دون ذنب أقتنع فيه أو أتفهّمه. أستسلم لشعوري بها، تركلني لأخرج منها. أكاد أجزم أنني لم أقاوم رفضها لي مرة، وأن شعوري بأنها لا تستحق العناء كان يؤنس حزني اللا واعي.
عشت طفولتي ومراهقتي في بلدةٍ تقع شمال الأردن. في طفولتي لم أعر انتباهاً للأماكن؛ كان يهمّني من يرافقني اللعب، حتى أنني لا أتذكر أي شيء من الشوارع التي لعبت فيها. عندما بدأت مراهقتي ظهرت لدي الحاجة للمكان، وبدأت تتشكّل في رأسي الأسئلة عن ماهية الشوارع التي تحتضن كلّ شخص منّا. المفرح في الأمر أنني وجدت شارعاً يفي بالغرض، أهرب إليه في أغلب الأوقات، لكنني كنت أحتكّم إلى ما تفرضه الشوارع الأخرى من قوانين حول السّاعات التي تقدّر المرأة فيها أن تهرب للشارع.
كنت أذهب إلى شارع طويل جدّاً يسمّى "خطّ الشام"؛ اتخذ اسمه لكونه معبراً للتجارة بين الشام والأردن؛ شارع طويل فيه الكثير من المحالّ التجارية، والثلث الأخير منه فارغ تماماً، بدون محالّ ولا باعة ولا أصوات؛ شارع طويل يؤدي إلى سوريا. أول مرة مشيت فيه كنت في الصفّ الثالث الثانوي. أقنعت أمّي أنني أقصد "شارع الشام" كي أمارس رياضة المشي، وبالطبع كان أفضل وقت لممارسة هذه الرياضة هو المساء، لأنه مكتظّ طيلة النهار ومزعج.
هناك خصوصية للشوارع التي يقصدها الناس بكثرة؛ قصص كثيرة رويت أثناء عبورها، وأحاديث كثيرة وثقت عليها. الأمر أشبه بامتزاج الذاكرة والمخيلة بطاقة ذاكرات مختلفة ومخيلات عديدة؛ المشي بحدّ ذاته يفتح بوّابات المونولوغ على مصراعيها
هناك خصوصية للشوارع التي يقصدها الناس بكثرة؛ قصص كثيرة رويت أثناء عبورها، وأحاديث كثيرة وثقت عليها. الأمر أشبه بامتزاج الذاكرة والمخيلة بطاقة ذاكرات مختلفة ومخيلات عديدة؛ المشي بحدّ ذاته يفتح بوّابات المونولوغ على مصراعيها. فجأة يبدأ شريط الأحاديث الطويلة في رؤوسنا؛ المشاعر الحقيقية والمفتعلة سوياً، الحزن والفرح والأمل الكبير؛ الذاكرة القاسية للحظات تركتْ ندبها في القلب وانزاحت، والخيالات السوريالية لما يأمل كلّ واحد/واحدة أن يحدث في عالمه/ها، والمشاهد الطويلة لحياة نتمنى أن نعيشها فعلاً، والصراخ الطّويل على ما حدث بدون قصد وجلب معه الدمار الكبير.
كلّ هذا وأكثر يحدث أثناء رحلة مشيٍ في "شارع الشام" الطويل، الذي يبعت الأمل بأنكم ستصلون إلى نقطة خارج المدار المسموح لك. إنكم تمشون الآن في شارع ينتهي في دولة أخرى، هذا بحدّ ذاته قصة يمكنها أن تشغل أخيلتكم بشكلٍ أكثر جمالاً ممّا يحدث فعلاً.
كان بيتي يقع في "شارع الباعونية"، وكنت أحبّ أن أسميه "شارع الياسمين". أن تسكن امرأة حالمة مثلي في شارع له رائحة الياسمين وشكله ووقعه في النّفس، لم يرد حتى في أحلامي
حتى اللحظة أتذكر شارع الشام بالكثير من الحبّ، على الرغم من الوحدة الحقيقية التي كانت تطغى على جميع مشاهدي فيه، إلا أنه شكّل جزءاً من شخصيتي من دون أن أنتبه. ترافقتني كلّ المشاعر التي كانت تتناثر في هوائه؛ أستحضر مواقفَ لم أعشْها، وأجلس بخنوعٍ أمام سيل مشاعر لم أختبرها أنا، لكنني حظيت بالتقاطها عن ذلك الشّارع الطويل.
انتقلتُ للعيش في عمان منذ أقلّ من عامين. عشتُ الفترة الأولى في منطقة تسمى "اللويبدة". كان بيتي يقع في "شارع الباعونية"، وكنت أحبّ أن أسميه "شارع الياسمين"؛ أعتقد أن تجربة العيش في شارع الباعونية من أهمّ تجارب حياتي. أن تسكن امرأة حالمة مثلي في شارع له رائحة الياسمين وشكله ووقعه في النّفس، لم يرد حتى في أحلامي.
كنت أعبر الباعونية مرتين يومياً على أقلّ تقدير. تعرّفت على وقعه عليّ في الصباح الباكر، حين أعبره من خلال وجوه جيراني الأجانب المتجهمة الجدّية؛ كأن ما يحدث في الصباح لا يحتمِل الضحكَ أو المزاح، ولا يتسع حتى لجملة: "صباح الخير". أعود في المساء أتمشى في الباعونية وأبتاع حاجياتي من محلّاته ووجوه كثيرة لعربٍ وأجانب وزوّار ترافقني، تتساقط في ذاكرتي مع ما تحمِله من مشاعر وأحاسيس.
يعيش في شارع الباعونية أجانب كثرٌ، وبعض العرب من الفنانين والموسيقيين والكتاب، ومن يفضّلون الوحدة والبعد عن العائلة في كثيرٍ من الأوقات.
"الباعونية" أقنعني بكثرة الاحتمالات؛ إن الطباع الجيدة أكثر بكثيرٍ ممّا تملك أمّي ويعرف أبي، كما أن للحبّ لوناً آخر غير الذي مشيت إليه بكلّ همتي، وأهمّ ما عرّفني إليه الباعونيةُ أننا جميعنا أشرار، ويمكن لواحدنا أن يخزن شروره عمراً طويلاً، ثمّ تنفلت منه فجأة.
أميل للاعتقاد بأن الخصوصية التي يتمتّع بها شارع الشام، وكذلك شارع الباعونية، أتت من كونهما مقرّاً لجنسيات متعدّدة، لا يشبهان الشوارع الأخرى؛ شارعان مزدحمان بالأفكار والاحتمالات عشت فيهما كافياً بالنسبة لي في بلدٍ صغيرٍ مثل الأردن؛ حتى أنني أشعر في كثيرٍ من اللحظات أن تجربة العيش في منطقة حدوديةٍ تطلّ على شارع الشام، شكّلت الفتاة الصّلبة الحادّة التي كنتُها، وأن العيش في الباعونية قد غيّر في طباعي فعلاً، ممّا جعلني أشعر أنني أفضل.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...