كان مؤثراً مشهد "عودة" المغني التشيلي الراحل فيكتور جارا Victor Jara (فيكتور خارا بالإسبانية) ليكون رمزاً للثوار في تشيلي.
وجارا هو ملحن ومغن ومسرحي نشط في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، اشتهرت أغانيه الثورية واشتهر أيضاً بسبب نهايته المأساوية.
في العام 1973 شهدت تشيلي انقلاباً عسكرياً بقيادة الجنرال بينوشيه، بدعم أمريكي، ضد النظام الاشتراكي القائم والرئيس المنتخب سلفادور الليندي، وتم احتجاز جارا مع الكثيرين في استاد سنتياغو، هناك تم تعذيبه وكسرت كلتا يداه لمنعه من العزف على قيثارته، لاحقاً تم إعدامه رمياً بالرصاص.
والآن، يستلهم آلاف المتظاهرين أغانيه ويرددون موسيقاه وكلماته، فيتحوّل جارا إلى بوصلة مؤثرة في الخطاب الثوري لانتفاضة الشعب التشيلياني ضد حكومته الفاسدة. لسنوات عديدة ظلت أغاني جارا تتردد في أوساط النخب الفنية واليسارية في العالم، لكن الآن عاد تراثه الموسيقي من خلال المظاهرات التي تعم مدن تشيلي، وأصبحت أغانيه مانيفست الثورة ومرآة للشارع.
ونحن نبدي الدهشة من آلاف الحناجر والجيتارات التشيليانية على هذا الاستحضار المكثّف لأغاني فنانهم الثائر، التي وُلدت أصلاً من أجل الثورة ضد النظام الرأسمالي وضد الهيمنة الامبريالية ومع الطبقات الكادحة والمسحوقة، يتولد عندنا شعور بالغصة على واقعنا العربي وعلى امتداد عشرات السنين من حكم أنظمته الاستبدادية، لم تتحّول الأغاني السياسية الثورية العربية فيه لمادة جماهيرية وأداة نضالية للطبقات المسحوقة، لتتجاوز بذلك الفضاء النخبوي اليساري الذي تنشط داخله.
ورغم انطلاق الحراكات والاحتجاجات في العالم العربي منذ اندلاع الثورة التونسية والربيع العربي، لم تتصدر الأغاني السياسية مشهد الهتاف السياسي الشعبي الجماعي.
أمام هذا التأزم في انتشار الأغنية السياسية بشكل عام، والطبقية منها بشكل خاص، تأتي الثورة اللبنانية "المباغتة" لتُحدث تحولاً معنوياً. تأتي ثورة اللبنانيين لتعيد للكلمة المغناة مكانتها، ولترفع الرصيد الثقافي والمعنوي للأغنية السياسية على المستوى الجماهيري، في ظل ملاحقتها ومحاصرتها من قبل الأنظمة العربية.
الأغنية السياسية والأنظمة العربية... تاريخ مرير
الأغنية السياسية هي التي تحاكي، تجادل أو تتحدى الواقع الاجتماعي والسياسي المهيمن، وذلك من خلال ربط الهم الشخصي بالهم العام، وتحيلهما إلى حالة احتجاج وخطاب مطلبي، وتوجه نداءً، مباشراً أو غير مباشر، لقلب منظومات الهيمنة.
والأغنية أيضاً تختصر وتلخص الجدل الاجتماعي والسياسي، وتحوله إلى مقولات قصيرة وصياغات موسيقية تساهم في رفع حالة الوعي في التنظيم السياسي، وتحرض الذهنيات على رفض أشكال الاستبداد.
عرفت الأغنية السياسية والثورية العربية الكثير من النصوص والألحان، ولربما كانت الأغاني التي تحمل صوت القضية الفلسطينية وتعبّر عن ثورتها وثوارها، هي الأكثر انتشاراً وصاحبة النصيب الأكبر.
وأميل للاعتقاد أن منسوب القمع السلطوي تجاه أغاني القضية الفلسطينية كان أقل بكثير مقارنة بالقمع والملاحقة الذي تعرضت له الأغنية السياسية الطبقية والحقوقية، التي صودرت ومنع تسويقها وسجن موسيقيوها وشعراؤها. وأدت هذه الملاحقة لانحسار عدد المستمعين، كما أسلفت، وكانت غير متاحة للعامة، ناهيك عن تشويه سمعتها ونعت أصحابها بالفاسقين، الشيوعيين والكافرين.
قدرة الأغنية على التعبير عن همّ الناس
ربما أصبحت أغنية الشيخ أمام "شيّد قصورك ع المزارع"، للشاعر أحمد فؤاد نجم، الأوسع انتشاراً في ساحات الثورة في لبنان ضد نظام الفساد والطائفية.
فبعد أن كانت هذه الأغنية تردد في أوساط محدودة، انتشرت ووصلت إلى كل شوارع وساحات المدن اللبنانية، تُردد من قبل المئات والألوف، تُغنّى في التجمعات الصغيرة والكبيرة، وتكتشف أن العامة من الناس قادرة على استيعابها، حفظها وتحويلها لأهزوجة من أهازيج الثورة، وسط حالة بارزة من العشق والشغف مع كلماتها.
والترديد المستمر والمتصاعد خلال ثورة مستمرة لأسابيع يلقي الضوء على دلالات هذه الأغاني وقدرتها على توحيد الناس، وقدرة الأغنية على تجاوز الهويات الطائفية واللهجات والبيئات السياسية، والتعبير عن الهم المشترك للناس ومعاناتهم تحت أنظمة الهيمنة والفساد.
وكما بعث شعب تشيلي تحية لمغنيه وشاعره فكتور جارا، ها هو الشارع اللبناني يرسل التحية للشيخ إمام.
مع انتفاضته، يحول الشعب الأهازيج لخطاب سياسي احتجاجي ضد من "شيدوا قصوراً فوق مزارعهم من كدهم وعمل أيديهم". قد يبدو الوصف رومانسياً، وقد يبدو للبعض مبالغاً فيه، إلا أن من عايش تاريخ الملاحقة السياسية لأغاني الشيخ إمام يدرك أهمية هذه الفعل الموسيقي الذي تحدثه الثورة، وأذهب إلى القول إنه حتى ثورة 25 يناير في مصر، لمّا تنصف أغاني الشيخ أمام وأغنيته "شيد قصورك"، لأنها بقيت محصورة بشريحة ضيقة ومحاصرة من النظام.
أناديكم… من الهمّ الفلسطيني إلى الهمّ اللبناني
كتب الشاعر الفلسطيني ابن مدينة الناصرة في الجليل، توفيق زيّاد، قصيدة "أشد على أياديكم" أواخر الخمسينيات أو بداية الستينيات من القرن الماضي.
لحّنها وغناها الفنان اللبناني أحمد قعبور، وقد تجاوز عمرها الموسيقي الثلاثين عاماً، وانطلقت كحالة تفاعل وانخراط للحركة الوطنية اللبنانية في النضال الفلسطيني، وكانت تغنى وتردد في السياق الثوري الفلسطيني ولم تنتشر في سياقات الصراع الطبقي والمطلبي الداخلي اللبناني.
كانت وجهتها الصراع العربي الإسرائيلي، وهي الأغنية التي خفت وهجها إلى حد كبير بعد اتفاقيات أوسلو. وها هي اليوم تعود إلى الساحات وتصدح بها حناجر الطلاب والعمال والحرفيين وأصحاب المهن الحرة والفنانين. تعود لتشغل حيزاً في ترسانة التوعية والتجنيد لمظاهرات الانتفاضة اللبنانية ضد دولة الفساد والطائفية، وتنتقل من بيروت إلى طرابلس إلى الجنوب، وسط تجمعات شعبية كبيرة.
كما وتحولت "شدوا الهمة" لمارسيل خليفة وفرقة الميادين، والتي كُتبت لروح الراحل معروف سعد، القيادي النقابي في مدينة صيدا، والتي ظهرت أواسط الثمانينيات من القرن الماضيين، من أغنية محسوبة على اليسار اللبناني والحركة الوطنية اللبنانية، الى أغنية حاضرة في كل مناطق لبنان. وهي من الأغاني التي تحمل هموم الناس وترفع صرخة الطبقات المسحوقة ضد الجوع والفقر. ونجدها في هذا الحراك الثوري قادرة على تمثيل مطالب المتظاهرين، ونجد الناس تلتف حول الأغنية التي تحمل صوتاً منادياً مباشراً لشد الهمم القوية.
كما أذكر هنا رجوع أغنية "أغنية عاطفية" لخالد الهبر، إلى الحلقات الشبابية الميدانية في المناطق والمدن، وهي الأغنية التي تحمل دعوة "عاطفية مشاكسة" للحراك والخروج في المظاهرات.
الإبداع في خلق الكلمات الثورية
لم أقصد في هذه المقالة تغطية كافة الأغاني التي يتم ترديدها في الثورة اللبنانية، بل إلقاء الضوء على ظاهرة التحول في صعود الأغنية السياسية، إلا أنه لا بد من المرور على بعض الأغاني والأهازيج، وكذلك الإبداع في خلق الكلمات الثورية البديلة للكلمات الأصلية.
استحضر كذلك الثوار عدة أغان شعبية أو تراثية أو طربية، وتم تحميلها مقولات مناهضة للنظام وداعية لتغييره. فنجد مثلاً أغنية "طالعة من بيت أبوها... رايحة لبيت الجيران"، والتي أصبحت في الشوارع: "طالعة تسقط نظام"، وهذه أيضاً تحمل دلالات ومؤشرات عن المزاج والشغف الموسيقي لدى الجماهير المنتفضة، وعن الإدراك الحسي والمعرفي لضرورة تعبئة الحيز العام بالأغاني سهلة الترديد التي تشكّل رافعة للمعنويات، تستقدم التفاعل وتقدم رسالة وخطاباً واضحين عن الظرف المعاش وعن بوصلة الاحتجاج الجماعي.
تنطلق ترديدات لأغنية أخرى مع بدايات المظاهرات السورية ضد نظام الأسد، وهي "يلا ارحل يا بشار" لإبراهيم القاشوش، وأغنية "جنة جنة"، وتظهر قدرة النشاط التظاهري على خلق صياغات ثورية تحررية ضد النظام الأبوي وضد النظام الطائفي. وبنفس الروح والسياق يغني المتظاهرون في لبنان أغاني الألتراس الأهلاوي المصري، وهي مجموعة أغاني تدمج الرياضي بالسياسي وتدعو لرحيل النظام المصري.
الأغنية السياسية هي التي تحاكي، تجادل أو تتحدى الواقع الاجتماعي والسياسي المهيمن، وذلك من خلال ربط الهم الشخصي بالهم العام، وتحيلهما إلى حالة احتجاج وخطاب مطلبي، وتوجه نداءً، مباشراً أو غير مباشر، لقلب منظومات الهيمنة
استحضر كذلك الثوار عدة أغان، وتم تحميلها مقولات مناهضة للنظام وداعية لتغييره. فنجد مثلاً أغنية "طالعة من بيت أبوها... رايحة لبيت الجيران"، والتي أصبحت: "طالعة تسقط نظام"، وهذه أيضاً تحمل دلالات ومؤشرات عن المزاج الموسيقي لدى الجماهير المنتفضة
هيلا هيلا هيلا هو...
تتردد أغان كثيرة أخرى في المظاهرات التي تعم لبنان، مستجمعة التراث اللبناني الموسيقي، منها أغاني زكي ناصيف وفيروز ووديع الصافي، تلك الأغاني التي وُلدت في الحرب الأهلية اللبنانية، المفعمة حباً وغيرة على لبنان الذي يعاني ويلات الحرب والعدوان الإسرائيلي عليه.
الآن تعود تلك الأغاني بصيغتها الأصلية، أو بصياغات معدلة تتلاءم مع مضامين الاحتجاج لتقول: "لا للانقسام الديني والمذهبي"... من الرومانسية والتمنيات في مسارح البلد والغربة إلى الموقف السياسي الغاضب. أذكر هنا مثلاً أغنية "تعلى وتتعمر يا دار" للفنانة صباح، والتي تحوّلت لأهزوجة احتجاج تحريضية تنبه المواطن اللبناني من سياسييه الفاسدين.
أما "لازمة" كل الأغاني "هيلا هيلا هيلا هو ..."، والتي أصبحت التعبير الأكثر شيوعاً في الثورة، فهي تستحق وقفة جدية للبحث والتأمل في المدى الذي فتحته لانطلاق الابداع والارتجال في الشعارات السياسية الموسيقية.
فقد تحولت لأنشودة قصيرة "مهضومة"، تحمل تنوعاً كبيراً في تفاصيل خطاب الاحتجاج السياسي، وهي تستدعي كذلك، ضرورة الالتفات لديناميكية تحولاتها وتطورها بما يتلاءم مع خصوصية الظرف والمكان والسياق للحرك الثورية.
عن قيمة الكلمة
بالمجمل يمكن القول إن الحراك الموسيقي للأغنية والقصيدة، يصلح لأن يكون تفسيراً وتلخيصاً حياً لمقولة محمود درويش في قصيدته "عن الشعر":
قصائدنا بلا لون
بلا طعم بلا صوت
إذا لم تحمل المصباح من بيت الى بيت
وأن لم يفهم البسطاء معانيها
فأولى أن نذريها
ونخلد نحن للصمت.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...