تتوالى الفيديوهات المصورة الآتية من لبنان من كل حدب وصوب. من طرابلس، من صيدا وذاك من صور، ومجموعة فيديوهات من النبطية ومقاطع أخرى كثيرة من بيروت.
أرتعش، يقشعر بدني، أحزن، أبتسم وأضحك. أحتار أي فيديو أشارك على صفحتي... هل أشاركها جميعها؟! معقول كل هذه الفيديوهات تمثلني؟! أو لربما معظمها يمثلني؟! أو هل من المعقول أن المئات والآلاف يشاركون نفس الفيديوهات لكل هذه الاحتجاجات التي تنمو وتزهر كل خمس دقائق، خلال ساعات النهار والليل؟! ما هو سرّ لهفتنا؟ ما هذا السحر في "الانعجاق" الجميل من انتفاضة اللبنانيين وشكل احتجاجاتهم في أكتوبر 2019؟!
أبحث عن مفاتيح الحب في أماكن أخرى تتجاوز السياسة وصور الإطارات المحروقة والمطالب الاجتماعية والأصوات المناهضة للطائفية. لا بدّ أن هناك أشياء أخرى. أجد المفاتيح معلقة على جدار الـ "أنا"، الإنسان الفرد، في مجتمع محافظ كبير وعلى جدران الـ "نحن"... المجتمع الكبير الذي يهيمن على لغة الإنسان الفرد، على خطابه وتلقائيته.
نعتاد في حياتنا العامة على تخبئة أحلامنا ورغباتنا، نخبئ علاقاتنا ونخبئ شتائمنا المُعلنة. نخبئ قبلاتنا، ونخبئ الفقر وحالنا العسير ونختصر الحديث عن بيوتنا وديوننا، وعن جمالنا. في اجتماعاتنا، في محاضراتنا، في مظاهراتنا، في أعراسنا، في سهراتنا غالباً ما تغيب "الأنا" الحقيقية و"النحن" الحقيقية. نظهر في "بدلات"، نتحدث بخطاب يتناسب مع القاموس الاجتماعي، نتحدث بلغة لا تصطدم مع المألوف العام، نصيغ عباراتنا وجملنا لتحظى بقدر كبير من الإجماع.
والأهم أن تكون شعاراتنا وأغانينا وأحلامنا المعلنة بعيدة عن خدش ما يسمى الحياء العام، رغم أن "العام" في الحقيقة، هو ركام وحطام لنفسيات مرهقة ومتعبة. خلف جدراننا وداخل بيوتنا، تتحرّر لغتنا البذيئة، نشتم دون خجل ونشتم بوقاحة ونهين البعيد والقريب، داخل بيوتنا نعتاد على البوح لأنفسنا بواقعنا المر.
أما في الخارج، نحاول تقديم صورة جماعية معاكسة تماماً: مجتمع محافظ وميسور الحال ومكانته الاقتصادية الشخصية جيدة: "مزبط حالي"، "مش ناقصنا شي"، ليس من باب التواضع وإنما من باب اللحاق بركب السوق الاستهلاكية الرأسمالية المتوحشة.
ثقافة الـ "عيب" تهيمن على الكثير من تلقائيتنا وبالتالي على تعابيرنا السلوكية وأنماطنا الانفعالية، وعندها تتحول الشتيمة/ العيب المختبئة داخلنا إلى قنبلة حقيقية قاتلة، حين تطلق في المكان العام المشحون بالعداء والتنافس والعنصرية والطائفية، وملوث بالطبقية. نعم في بلادنا يقتل الإنسان بسبب الشتيمة، لكن يصطنع لغة مهذبة لوصف رداءة الواقع وتلطيفه.
في لبنان، وفي احتجاجات لبنان، لا مكياج للمجتمع، لبنان الفضائيات الوهمية، يغيّب سراب جنون برامج الترفيه ويغيّب فانتازيا الحياة الرغيدة. في احتجاجات لبنان لا مسرحيات في اللغة. في لبنان يشتمون في العلن كما نشتم في حياتنا الخاصة. الفضاء العام يستوعب الشتيمة، هي ليست بالعيب الخطير، ولا تتحول سيفاً يضرب الأعناق. نعم نبتسم ونضحك حين نشاهد ڤيديو تحتوي على: "كِس أمك" و"إيري فيكن" و"يا إير" الموجهة للسياسيين في سياق هبة الاحتجاج الحالية، البذاءة تطالهم جميعاً، لأن المواطن العربي يحمل داخله غضباً كبيراً على السياسيين المسؤولين عن الواقع البذيء.
هي اللغة التي نعلمهاً جميعاً ونتظاهر بأننا ملائكة وقديسون ومترفعون عن هذا المستوى، بينما في الحيز الخاص "نشقع" لأولادنا، لزوجاتنا ولأخواتهن، "نشقع" للحماة وللجيران. هذا الفيديو القادم من بيروت يشبهنا، يقدّم الـ"نحن" المختبئة والمتصنعة كما هي بدون تجميل وبدون رزانة وتهذيب مبتذلين. بيروت التي تقدّم عبر قنوات الفاسدين برامج مصطنعة، هذا الفيديو القادم من بيروت من وسط الاحتجاجات يظهر المجتمع الحقيقي الذي يشتم السياسي والبرلماني باسمه، محملاً إياه مسؤولية مباشرة عن الأوضاع دون اللجوء لشعارات رمادية، ملتوية ودبلوماسية.
الاحتجاجات التي تشغلنا وننشرها تقدّم نساء يعترفن أمام الشاشات بأنهن لا يملكن المال لصبغ شعورهن ولطلي أظافرهن، وهذا لا يتناقض مع مصداقية أنها لا تمتلك مالاً أيضاً لعيشة كريمة لأولادها. هي بيروت تقدم جرأة في الشفافية، تقدم صراحة الناس دون مونتاج ورقابة.
قد أجازف وأقول إن الغالبية العظمى من الناس تزور الكوافير ومراكز التجميل لكنها تخشى أن تعبر عن أسفها أو حزنها إن لم تقم بذلك لأسباب مادية، وتبقى هذه الحالة المادية للإنسانة الفرد غير معلنة للعامة، ولا يتعامل معها السياسي كجزء وتعبير عن الحالة الاقتصادية، وتتحول احتياجات المرأة للاعتناء بنفسها وبذاتها لكماليات تأتي بمقدمة التفاصيل التي يُطلب التنازل عنها، لتكون الضحية الأولى باحتياجاتها كما في احتياجات أطفالها.
المظاهرة في لبنان تعبّر عن حال الكثير من النساء. لا يترددن في رفع شعارات تخص حياتنا جميعاً: "ما صبغت شعري"، هو مطلب حياتي بالنسبة للبعض، أو صورة احتجاج مفهومة ومقبولة في مجتمعات معينة، واللبناني هو أحد تلك المجتمعات. هو وجع، هو تعبير صارخ عن هول الطبقية. هو لربما واقع سيدة تحاول الحفاظ على صحتها الجمالية، أو مكان عمل يطالبها ويفرض عليها معايير ذكورية محددة لشكل الملابس والهندام والمظهر "الأنيق" و"اللائق"، دون أن يتحمّل مصاريف متطلباته من الإنسانة العاملة. هو صرخة ضد أصحاب التعبير المصري الشائع: "اللي معوش ميلزموش"، لكن "اللي معهن" هم الحرامية الحقيقيون الذين يخرج المتظاهرون "اللي معهومش" ضدهم.
هذه الاحتجاجات تشبهنا لأنها تقدم التلقائية التي نفتقدها، في إطلاق الشعارات وفي التحرر من عدم المس بوقار القادة السياسيين وتنزع عنهم قدسيتهم. هذه المظاهرات تشبهنا ليس لأنها تقدّم خطاباً ثورياً تقدمياً فحسب، بل لأنها تقدم بيئة مجتمعية حقيقية تمّ اقصاؤها باسم الدين والتدين، والتي بمقدورها المشاركة في النقد والتغيير السياسي، إنها تقدم الحَجّة العربية اللبنانية المحجبة وغير المحجبة التي تشتم السياسيين، ليس في مطبخها ومن شرفة بيتها مخاطبة جارتها فحسب، بل تشتمهن في الشارع العام وسط المحتجين، فنحب ونعشق تلك الحَجّة التي تشبه في حديثها وتعابيرها وضحكاتها جداتنا وأمهاتنا، قبل أن يتحول صوتهن، بفعل فاعل، إلى "ناقصات وعورات".
ثقافة الـ "عيب" تهيمن على تلقائيتنا وعلى تعابيرنا السلوكية وأنماطنا الانفعالية، وعندها تتحول الشتيمة/ العيب المختبئة داخلنا إلى قنبلة حقيقية قاتلة، حين تطلق في المكان العام المشحون بالعداء والتنافس والعنصرية والطائفية والطبقية.
نشتهي احتجاجات لبنان لأنها مختلطة، كما يفترض بالطبيعة البشرية أن تكون مختلطة، حيث تغيب الشياطين التي يحذروننا منها. نشتهي أشكال الاحتجاج لأنها تشبهنا في حبنا للرقص والدبكة في الأماكن العامة... في حبنا للأغاني والموسيقى.
نشتهي احتجاجات بيروت وصور وطرابلس لأنها مختلطة، كما يفترض بالطبيعة البشرية أن تكون مختلطة، حيث تغيب الشياطين التي يحذروننا منها. نشتهي أشكال الاحتجاج ومضامينه لأنه يشبهنا في حبنا للرقص والدبكة في الأماكن العامة... في حبنا للأغاني والموسيقى. تسحرنا أشكال الاحتجاج لأنها تقدم النكتة السياسية الفورية بدون رقابة.
تشبهنا حتى حين تقدم مقولة منطقية وأخلاقية وجندرية للاعتراض على الشتائم، في حين تخاف الكثير من المجتمعات نقد الشتيمة بأدوات نسوية خوفاً من اتهامها بالتبعية لأجندات غربية خارجية. فحتى عندما تجيز اللغة المحكية والفضاء العام التفوه بالمسبات، فإن الاحتجاج يقدم نقداً علنياً للشتيمة: "كسي مش مسبة"، وهذه مقولة جدية وهامة ونقدية مقابل لغة الشتيمة التي ذكرتها سابقاً، وليس قبل أن يقال أيضاً ضمن نفس الهتافات الاحتجاجية: "اللوطي مش مسبة"، وهي دعوة لتغيير اللغة والخطاب الشعبي المصبوغ بتفوهات "السكسيزم" المقبولة، في نفس الاحتجاجات، وذلك من خلال طرح جندري، لكن ليس ضمن منظومة اللغة التي تعاني من الازدواجية والانفصام.
يشبهنا لأنه يتيح الاختلاف الذي نصبو إليه. رغم تعقيدات الواقع اللبناني، ورغم البعد عن أن يكون مثالياً، إلّا أن مناخاته الاحتجاجية تتيح لنا النظر إلى أنفسنا وإلى مأزق ازدواجية خطابنا ولغتنا وشعاراتنا. هو فعلاً يشبهنا لأنه يشتم "الطائفية" بطريقته، في حين نقوم نحن بإنكار وجودها رغم وجودها. ويشبهنا لأنه داخلنا في أغنية وأهزوجة عن الثورة والحرية، لكننا أصبحنا نخاف من ترديدها كيلا نتهم بالرومانسية أو بالتآمر على القضية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 19 ساعةجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 3 أياممقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ أسبوعمقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ أسبوععزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ اسبوعينلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعيناخيرا مقال مهم يمس هموم حقيقيه للإنسان العربي ، شكرا جزيلا للكاتبه.