بدأتْ علاقتي مع الطيران عندما قرّر والدي الانتقال من سكن في وسط القاهرة إلى ضاحية مصر الجديدة، وكان السكن الجديد بالقرب من المطار، وشاء الحظّ أن يكون من سكّان عمارتنا طيّاران مدنيّان.
تعودتْ عيناي منذ طفولتي، وأنا في التاسعة من العمر على ملابسهما، وأذناي على صوت عربة عملهما تعلن ذهابهما لرحلة، أو عودتهما من رحلة، وكنت أرى المضيفات بالعربة التي تقلّهن إلى المطار، وعند استقبال أقربائنا العائدين من السفر في المطار كنت أراهنّ أيضاً، وأحلم أنني أصبحت واحدة منهن.
كبرت وكبر حلمي. نعم، كان حلماً، ليس لصعوبة تحقيقه، ولكن لصعوبة إقناع عائلتي بأن أكون مضيفة.
في السنوات الأولى من الجامعة قدّمت أوراقى دون علم عائلتي للالتحاق بمهنة الضيافة الجوية، واجتزتُ أول خطوة، وجاء خطاب تحديد ميعاد المقابلة الشخصية، غير أن والدتي تسلمتْه، وقطعته وألقته في سلّة القمامة. ثمّ مرّت أشهر وأنا لا أعرف لماذا لم يرسلوا خطابَ ميعاد المقابلة الشخصية.
ولكنني لم أفقد الحلم، بل ظلّ معي إلى أن طلبتُ من جاريَّ الطياريْن إقناعَ والديّ حتى أحقّق حلمي، لأنني سأتقدم مرة أخرى إلى العمل لاختبارات الضيافة الجوية. وبالفعل نجحا في إقناعهما، وحصلا على موافقتهما على وعد أنني سأكون تحت رعايتهما وحمايتهما في الشركة لكونهما من أكبر الطيارين بها.
بدأت العمل كمضيفة، ودخلتُ عالماً كنت أحلم به، ولكنني دخلته بتربية مغلقة، غير أنها ذات مبادئ تمّ غرسها جيداً، مما ساعدني على الاختيار السّليم عند مواجهة عدة اختيارات أمامي.
سمعت من زملائي القدامى أن العمر يتسرّب من بين جدول رحلات، وجدول آخر، وكانوا يضحكون وهم يطلقون شعار الركبِ الطائر: "العمر جدول".
لم أنس شعورَ أول رحلة والطائره تجري على الممرّ للإقلاع، وشعوري بالقلق عند بداية الهبوط، وفرحتي أنني عدتُ إلى أرض المطار، وخاصة أن الطائرة كانت مروحية، وكانت الرحلة إلى مدينة "العوينات" المصرية، مع عمالها الذاهبين لمواصلة عملهم هناك، والرجوع بمن حصل على إجازته من العمل بالعوينات.
سمعت من زملائي القدامى أن العمر يتسرّب من بين جدول رحلات، وجدول آخر، وكانوا يضحكون وهم يطلقون شعار الركبِ الطائر: "العمر جدول"
ومرّت السنوات وأنا اتنقل من بلد إلى آخر، وخبرات تتراكم من ثقافات مختلفه ومن تعاملات مع جنسيات وأنواع من البشر مختلفة، حتى وصل الأمر إلى أنني أخذتُ أعرف شخصية الركّاب من طريقة تناولهم للطعام؛ فالركبُ الطائر تصل خبراتهم إلى أنهم يعلمون شخصيات الركاب منذ الترحيب بهم على باب الطائرة بنسبة تقترب من أكثر من تسعين في المئة. ويعلمون أيضاً كيفية التعامل والتصرف بجميع المواقف التي يمكن حدوثها مع الركاب إلى حدّ كبير.
مرّت السنوات وأنا اتنقل من بلد إلى آخر، وخبرات تتراكم من ثقافات مختلفه ومن تعاملات مع جنسيات وأنواع من البشر مختلفة، حتى وصل الأمر إلى أنني أخذت أعرف شخصية الركّاب من طريقة تناولهم للطعام
العمل بمهنة الطيران له مميزات كبيرة يمنح الشخصَ متعةَ رؤية البلدان المختلفة، وشراء ما يحلو له، ولكنه يأخذ منه الحياةَ الأسرية، فيصبح/تصبح المضيف/المضيفة بعيداً/بعيدة في الأعياد، لأنها تعتبر فترة ذروة في عملنا، ونكون محظوظين إن قضينا يوماً من العيد مع أسرتنا، ونأخذ أيضاً ساعتنا البيولوجية، ونرمي بها بعيداً. وسيصل يوماً أن نفتح عيوننا، ونتجوّل بها في الغرفة، ليتبين لنا في أي بلد نكون، أم هل صحيح أننا على الأسرّة وفي المنزل؟!
وصلت إلى هذه الحاله وقرّرت التوقّف لاني أيقنت أن عمرى يتسرب ليس من جدول لآخر، ولكنه يتسرب بين شنطة أعبئها، وشنطة أفرغها، وأطلقت شعاري الخاص بي: "العمر شنطه".
توقّفتُ سنوات ودرست السيناريو، وتبيّنت أن السبب في نجاحي وتفوقي فيه هو عملي كمضيفة الذي ساعدني في بناء شخصيات من لحم ودمٍ من المخزون الذي تراكم بداخلي؛ فأغلب المواقف والشخصيات التي أكتب عنها، قد تعاملتُ معها خلال عملي؛ كالعامل العائد إلى أهله في القرية، وسعيد لأنه يتحدّث عدة كلمات من لغة البلد الذي يعمل فيه، وطريقة تعامله معنا بناء على أنه معه مبلغ من الدينارات أو الريالات يغتبره كبيراً بالطبع، بالنسبة له ولعائلته؛ والمسافر العائد من أمريكا وقد تبخرت اللغة العربية من لسانه، فاستبدلها بكلمات يحسبها أنها لغة إنكليزية، ولكننا نفهم ما يقصد، ونتركه يحلم أنه أصبح أمريكياً لمكوثه عاماً بها.
مواقف كثيرة مررتُ بها، منها الطريف ومنها المأساوي. في كلّ رحلة أعود بخبرة وموقف إن لم يكن من الركاب، يكون من الزملاء.
لن أنسى يوماً رحلةً كان بها مولد طفلة لسيدةٍ قبل موعد ولادتها في المنطقه الأمامية من الطائرة، ووفاة راكب معه طبيبه في القسم الخلفي من الطائرة. كانت حالته حرجة، وكان طلبُه العودةَ إلى مصر، ليكون مع أهله في لحظاته الأخيرة، ولكن قضاء الله كان أسرع. رحلة ضمّت الميلاد والموت معاً.
قّررت العودة إلى عملي ولكنني بدأت أنظر إلى عملى أنه زادي لمخزوني الذي أحرص على زيادته، وأصبحت أركز أكثر على ما يحدث حوالي، وأقوم بالتقاط الصور وتسجيل مقاطع فيديو لأحداث يتميز بها البلد الذي أكون فيه.
لاحظت عند وجودي ببكين أن الكل يعمل منذ الصباح الباكر إلى الساعة السادسة مساء، ومن الساعة السابعة أم الثامنة ثمة تجمعات عند عدة ميادين توضع فيها سماعات كبيرة، ويرقص الجمهورُ كلَّ أنواع الرقص من الزومبا حتى التانغو، وكلّ من يرغب بالرقص يدخل مع الراقصين. ويوجد المشجعون والمتفرجون للراقصين. هناك تشعرون أن الجميع سعداء لطرد الطاقة السلبية، وشحن أجسادهم بطاقة إيجابية ليعودوا إلى العمل في اليوم التالي.
شعرتُ أن قراري بالتوقّف كان أكبر خطأ، فالعمر لا يتسّرب بين شنطة وأخرى، ولكنه يتسرب عند التمسك بقرار خاطئ، وعدم الاعتراف بذلك، وعدم مواجهة الشخص لنفسه ليعيد حساباته، لتبدأ مرحلة جديدة؛ فالحياة قرارات منها الصائب ومنها الخاطئ، ولابدّ من الاعتراف بأننا سنصيب ونخطأ طالما تحيا الحياة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...