انتصرت الأسيرة المحررة هبة اللبدي، في تحديها الذي أعلنته أمام أحد محققيها في مصلحة السجون الإسرائيلية، عندما "تراهنوا" على من سيضحك بالآخر.
ضحكت هبة اللبدي في الآخر وأجهضت أمنية المحقق عندما قال لها يوماً: "آخرتي أشوفك فرّاشة بتنظفي هاد السجن"، حسب تعبيرها. وقد أجهضت الأمنية قبل أن يتم الإفراج عنها أصلاً، فمنذ أن باح واثقاً بأمنيته قالت له وكلها ثقة: "بتشوف مين رح يضحك بالآخر".
في مقابلة أجرتها رصيف22 مع الأسيرة المحررة اللبدي، وهي محاطة بأحضان شقيقتها وعيون والدتها التي تشع لمعاناً، وبصوت والدها وهو يرد على اتصالات المباركين بعودة ابنته سالمة، وفي الخلفية أصوات زغاريد جارات الحي، قالت اللبدي محاولة أن تتدارك النغزات التي كانت تداهم رئتيها كل بضع دقائق: "أوف ما أبشع الاحتلال... الاحتلال أبشع شي في الحياة".
"تخيلي حرموني أشوف الشمس؟" قالت هبة اللبدي في حديث لرصيف22
كررت هبة خلال المقابلة عبارة "حاربتهم بلحمي الحي" أكثر من مرة، وعند سؤالها عن سبب استخدام هذا المصطلح، أجابت بأنها تشعر بالراحة بالاستناد إلى هذه العبارة، كونها جاءت من وحي امتنانها بأن جسدها الذي خاض معركة الأمعاء الخاوية 43 يوماً لم يخذلها، ولم يخذل بيت الشعر الذي تعشقه للشاعر الراحل محمود درويش: "على هذه الأرض ما يستحق الحياة".
فكيف لا تتهاون عن تكرار عبارة "انتصرت عليهم بلحمي الحي"، وهي حتى اللحظة مستغربة أنها ليست فقط ما تزال على قيد الحياة، بل أيضاً أنها أخيراً ستكون على موعد مع شيء يعتبر المفضل عندها وهي الشمس: "تخيلي حرموني أشوف الشمس؟ أنا كتير بحبها، مو مصدقة إني رح أصحى بكرا وأطلع على الشمس وأنا بحديقة بيتنا وحوالين الورد اللي زرعته أمي... ماما بتحب الورد"، تقول هبة.
وعن ظروف اعتقالها، فضّلت اللبدي عدم الخوض في تجربتها بما كان يشمله التحقيق مكتفية بقولها: "كل اتهاماتهم لي كانت عبارة عن وهم ومن نسيج أفكارهم العفنة"، لكنها أصرت على التركيز على حجم التعذيب الجسدي والنفسي الذي تعرضت له أثناء جلسات التحقيق، أول 35 يوماً من اعتقالها.
التعذيب الجسدي والنفسي
"التشبيح" كان سيد المشهد في كل جلسات التحقيق التي خضعت لها هبة على مدار 35 يوماً، حسب تعبيرها، أي تقييد يديها وقدميها وهي جالسة، وتشغيل مكيف الهواء على أعلى درجات البرودة.
وعندما كانت تطلب غطاء، كانوا يرفضون ويعبرون عن استمتاعهم وهم يرونها ترتجف من البرد، وبلا شك كل ذلك يحدث على إيقاعات الشتائم والإهانات وتوجيه كلمات مهينة وتخدش الحياء، كل ذلك وأكثر كان يحدث 12 ساعة يومياً، حسب ما أخبرتنا.
فضلاً عن اللعب على وتر العاطفة لديها وبث الأوهام بأنه تم اعتقال والدتها تارة واعتقال شقيقتها تارة أخرى، إلا أن السجانين لم يفلحوا في ذلك أيضاً، فعندما كانوا يقولون لها "اعتقلنا أمك"، ترد عليهم بكل برودة أعصاب: "هي وقفت عند أمي؟ كم أم فلسطينية معتقلة عندكم؟".
"كنت أحكي: اعملوا اللي بدكم إياه أصلا سيدنا (الملك عبد الله الثاني) وكل الأردن وراي، وكل العالم وراي"، كانت هذه إحدى ردود هبة على استفزازات المحققين، حسبما روته لنا.
"اللي عملوه فلسطينيي الداخل، مو عادي بالمرة"، تقول هبة بعد تثمينها للهبات الرسمية والشعبية الأردنية، تطرقت أيضاً إلى موقف فلسطيني الداخل معها، وما تتذكره هي أصوات هتافات الاعتصامات من زنزانتها، فضلاً عن موقف فريق الدفاع عنها من المحامين والذين وصفتهم: "كانوا مثل إمي وأبوي وأختي وأخوي... أوف شو بحبهم".
"يا صبايا، أنا رح أضرب عن الطعام"
وعن لحظة الصفر التي أعلنت فيها عن خوضها إضراباً عن الطعام، قالت اللبدي: "لما عرفت أنه سيتم اعتقالي إدارياً، وأنا بعرف أن الاعتقال الإداري عند الاحتلال ممكن إنه يمتد إلى أكثر من سبع سنين، لفيت وجهي على الصبايا الأسيرات وقلتلهم: يا صبايا أنا رح أضرب عن الطعام".
"زي النسمة الدافية"، بهذه العبارة وصفت هبة كيف مضى عليها إضرابها عن الطعام، لتعود مرة أخرى وتعرب عن امتنانها لذلك الجسد الذي لم يخذلها، إنما زاد من إصرارها على التمسّك بقضيتها العادلة، فضلاً عن أنه جعلها تتعرف على صفة في شخصيتها لم تكن على علم بها وهي أنها "عنيدة كتير".
لم تكتشف هبة فقط أنها "عنيدة كتير" بل أيضاً اكتشفت صفة أنها تستطيع أن تتكيف مع الظروف، أي ظروف، مثل زنزانتها الانفرادية التي تم نقلها إليها عند إعلانها عن الإضراب عن الطعام.
وما كان يثلج صدرها ويجعلها تصر على المضي في إضرابها عن الطعام، عندما كانت تشاهد حالة التوتر بين السجاّنين كلما رفضت كل العروض، ودحضت كل الضغوط من أجل فك إضرابها: "كنت أكيّف بس أشوفهم متوترين ومو عارفين يتفاهموا مع يباسة راسي"، تقول هبة.
في مقابلة أجرتها رصيف22 مع الأسيرة المحررة اللبدي، قالت محاولة أن تتدارك النغزات التي كانت تداهم رئتيها كل بضع دقائق: "أوف ما أبشع الاحتلال... الاحتلال أبشع شي في الحياة"
"كنت أكتر شي أكرهه الصراصير، هلق صاروا صحابي"... تضحك اللبدي، وتضيف: "قعدت 12 يوم ما أقدر أتحمم عشان في ثلاث كاميرات مراقبة 24 ساعة والحمام مكشوف، وبعد هيك اخترعت طريقة وصرت أحط لاصق عشان أتحمم"
"الصراصير صاروا صحابي…"
ومن أشكال التكيف المعيشي الذي جربته هبة في زنزانتها، كان "التصالح" مع الصراصير، وتقول في هذا السياق: "كنت أكتر شي أكرهه الصراصير، هلق صاروا صحابي"... تضحك هبة وهي تتحسس شعرها، لتضيف: "قعدت 12 يوم ما أقدر أتحمم عشان في ثلاث كاميرات مراقبة 24 ساعة عندي والحمام مكشوف، وبعد هيك اخترعت طريقة وصرت أحط لاصق عشان أتحمم".
مشهد غريب أثر في هبة، وحينها شعرت أنها عادت إنسانة، بعد أن اعتقدت أن الـ 78 يوماً من اعتقالها جردتها من إنسانيتها، تقول: "لما شفت الدكاترة في مدينة الحسين الطبية اللي أوعز الملك إني أروح أخضع للفحص فيها، هون تذكرت إني إنسانة!".
"شعرت إنه فرحتي ناقصة"، تقول هبة وهي تتذكر الأسيرات الفلسطينيات التي عاشت معهن في زنزانة قبل نقلها إلى أخرى عندما بدأت إضرابها عن الطعام، مشيرة إلى أن فرحتها ستكتمل مع تحرير كافة الأسيرات، وبالأخص الأسيرة الفلسطينية إسراء الجعابيص.
"بس شفتها دخلت في حالة انهيار لمدة يومين"، تقول هبة، ثم تعلو نبرة صوتها وهي تقول بانفعال: "كيف العالم ساكت وإسراء بهاي الحالة؟" في إشارة إلى الحروق التي نهشت 70% من جسدها.
انتصرت هبة اللبدي في تحدي: "الشاطر اللي بيضحك في الآخر"، وقهرت محققها وسجّانها وكياناً بأكمله، وها هي اليوم على فراشها النظيف ووسط عائلتها وأحبابها وعلى موعد يومي مع الشمس التي تعشقها، إلى حين موعد مقبل مع شمس أخرى وهي شمس الحرية، فالحرية الحقيقية التي تنتظرها هبة لم تتحقق بعد، حسب تعبيرها، وتضيف: "الحرية الحقيقية لما تتحرر فلسطين"، خاتمة حديثنا بإشارة النصر، مع إجابة على سؤالي الأخير: "شو نفسك تطبخلك إمّك؟"، فتقول: "أكيد منسف!".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...