"أنتظِر مستقبلاً مجهولاً بنفسية محبطة، ولكني مستعد لأن أحارب من أجل آخر صحيفة مستقلة في المغرب". هكذا عبّر سعيد، صحافي في مؤسسة "أخبار اليوم" المغربية، عن المعاناة اليومية التي يعيشها هو وزملاؤه، بعد أن اختاروا الاستمرار في العمل في مؤسسة خطها التحريري "يزعج شخصيات نافذة"، رغم اعتقال مؤسسها.
أزمة مالية، ومتابعات قضائية بحق صحافيين تنوّعت التهم الموجهة إليهم، وتشهير من قبل مؤسسات إعلامية أخرى، كلها ويلات تساقطت على يومية اتخذت الحمامة رمزاً لها، واختارت أن تحلّق بتقاريرها وتحقيقاتها خارج السرب، منذ تأسيسها عام 2009، في خط مستقل عن السلطة والأحزاب، منحاز إلى هموم المجتمع وقضاياه الساخنة.
حصار مالي
عموماً، تعاني الصحافة الورقية مالياً في المغرب، كما في عدد من دول العالم، وربما أكثر، بسبب نمو الصحافة الإلكترونية وحيازتها على اهتمام الجمهور لما توفره من سرعة في نشر المعلومة. ورافق ذلك من شبه عزوف من المعلنين عن التعامل مع الإعلام الورقي وتفضيله البديل الجديد الأكثر تواصلاً مع الجمهور.
لكن "أخبار اليوم" تُعَدّ استثناء وسط جميع المؤسسات، كما يرى رئيس تحرير الجريدة سليمان الريسوني.
يوضح الريسوني لرصيف22 أن الوضع العام الذي تعيشه الصحافة غير مريح أصلاً بسبب تراجع النموذج الاقتصادي الوحيد الذي تقف على أساسه الصحافة في المغرب، والقائم على "المواد الإعلانية"، إلى جانب الدعم الضعيف الذي تقدّمه الدولة سنوياً، فحجم المبيعات لا يكفي لتغطية رواتب الموظفين والمطبعة وإيجار المقرات والتنقلات وما إلى ذلك من مصاريف المؤسسات الصحافية.
سليمان الريسوني
ويضيف: "إذا كانت كل المقاولات الصحافية تقول إن هذا النموذج الاقتصادي أصبح يعيش اختلالاً بفعل شح الإعلانات التي يذهب أغلبها إلى اللوحات الإعلانية، والتلفزيون والراديوهات، فإن أخبار اليوم تعيش متاعب إضافية بسبب "التضييق الواضح والممنهج عليها منذ الاعتقال التعسفي الذي طال مؤسسها توفيق بوعشرين".
وكانت السلطات المغربية قد اعتقلت الصحافي المغربي بوعشرين، في شباط/ فبراير 2018، بعد اقتحام مقر صحيفة "أخبار اليوم" التي يديرها، من قبل عشرين شرطياً بزي مدني، في مشهد وصفه الحقوقيون بـ"المداهمة الهوليوودية" و"الاعتقال التعسفي"، قبل أن تصدر النيابة العامة بياناً تبريرياً أعلنت فيه أن "البحث القضائي بحق بوعشرين خاص بشكاوى تتعلق باعتداءات جنسية، ولا علاقة له بمهنة الصحافة".
وبعد الحكم عليه ابتدائياً في تشرين الثاني/ نوفمبر 2018، بالسجن النافذ 12 سنة وغرامة مالية قدرها 200 ألف درهم مغربي، أي ما يزيد عن 20 ألف دولار، على خلفية إدانته بجنايات نفاها عن نفسه، قضت محكمة الاستئناف في الدار البيضاء، في تشرين الأول/ أكتوبر 2019، برفع عقوبته إلى 15 سنة سجناً نافذاً، مع تعويض المطالبات بالحق المدني بما مجموعه مليونين و250 ألف درهم، أي ما يزيد عن 230 ألف دولار أمريكي.
هذه الإدانة التي يرى صحافيون أنها إسكات لـ"صوت مزعج للسلطة"، عمّقت جرح مؤسسة "أخبار اليوم" المستقلة، بجريدتها الورقية ومواقعها الإلكترونية، وضاعفت محنتها المالية، ليكون وضعها "استثناء" وسط المشاكل التي تتخبط فيها الصحافة في المغرب عموماً.
صار المعلنون يرفضون التعامل مع "أخبار اليوم" إما لأنهم، حسب الريسوني، "تلقوا كما يقال تعليمات من جهة غير مستبعد أن تكون هي التي حركت اعتقال توفيق بوعشرين ومحاكمته"، وإما من تلقاء أنفسهم، لأن طبيعة المقاولات في المغرب "تعوزها الشفافية والاستقلالية، حسب تقارير دولية، ومن الواضح أن صاحب المقاولة سوف يتخوّف تلقائياً من التعامل مع جريدة يعتبرها مصنفة ضمن القائمة السوداء أو مغضوباً عليها أو ما إلى ذلك".
الأزمة تنعكس على الصحافيين
في 15 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، اعتصم 11 من العاملين في مؤسسة "أخبار اليوم"، والتي يتجاوز عدد العاملين في أقسامها المختلفة 50 شخصاً، وطالبوا بصرف أجورهم في موعدها القانوني والمعتاد، بعد تأخير مستحقاتهم.
في اليوم التالي، أوضحت إدارة المؤسسة على لسان مدير النشر يونس مسكين، أن تأخر صرف الأجور هو عن شهر واحد فقط، أيلول/ سبتمبر، إذ صرفت إدارة المؤسسة أجور آب/ أغسطس كاملة، قبل الاعتصام، لجميع العاملين، باستثناء خمسة من الصحافيين في قسم التحرير "تطوعوا منذ شهور لتأخير صرف أجورهم إلى أن يتوصل زملاؤهم بها في إطار تضامني".
"أنتظِر مستقبلاً مجهولاً بنفسية محبطة، ولكني مستعد لأن أحارب من أجل آخر صحيفة مستقلة في المغرب"... معاناة يومية لصحافيي مؤسسة "أخبار اليوم" المغربية التي يزعج خطها التحريري "شخصيات نافذة"، وسبق أن سُجن مؤسسها
يقول رئيس تحريرها إنها تكاد تكون الجريدة المستقلة الوحيدة الآن في المغرب... ولكن لهذه الاستقلالية التي تزعج "شخصيات نافذة" ثمن كبير يدفعه الصحافيون العاملون في "أخبار اليوم" يومياً، خاصةً بعد اعتقال مؤسسها توفيق بوعشرين
مواقع "أخبار اليوم" الإلكترونية ليست في منأى عن الأزمة المالية التي تعيشها المؤسسة. سعيد (اسم مستعار)، صحافي في موقع "اليوم 24" الإلكتروني، يقربنا من عمق الأزمة ويحكي: "بعد اعتقال توفيق بوعشرين أخذ الوضع يتدهور تدريجياً، ما دفع الإدارة إلى التفكير في تقليص الراتب بنسبة 20%، وهو ما رفضه الصحافيون، ليتم التوافق في الأخير على صرف الراتب ذاته على دفعتين، بدل تقليصه".
ويضيف لرصيف22: "بعد ذلك باتت الدفعات تتأخر عن موعدها، والآن المؤسسة مدينة لنا براتب ونصف، وفي فترات سابقة وصلت الأجور المتأخرة إلى شهرين، وهكذا".
"كل صحافي ملزم بالخروج صباحاً ليستقل سيارة الأجرة، ويصل إلى مقر عمله، وعلى كاهله التزامات عائلية، ومصاريف يومية، وربما ديون عليه سدادها، ناهيك عن مصاريف التنقل. وفي ظل الأزمة القائمة يصبح هذا كله عبئاً وعائقاً أمام إنجاز عدد من المهام"، يقول سعيد شارحاً حجم المعاناة اليومية التي يعيشها صحافيو "أخبار اليوم"، والتي وصفها زميل له باللهجة المغاربية بأنها: "وصْلت للعظم"، وهي العبارة العامية الأشد للتعبير عن تفاقم أزمة ما.
في هذا الصدد، يقول رئيس تحرير الجريدة سليمان الريسوني إن "المقاولة الصحافية هي جريدة ولها خط تحريري وتصور فكري سياسي، ولكن أيضاً هي مقاولة ربحية" مشيراً إلى أن نفس الأمر يتعلق بالصحافي الذي "بقدر ما أنه شخص يمكن أن يندرج ضمن المثقفين والذين يصنعون الرأي العام، إلا أنه أيضاً صاحب أسرة وعليه مصاريف ويعمل أجيراً ليحصّل راتبه في نهاية كل شهر".
ويلفت الانتباه إلى أنه عندما يختل الجانب المادي يختل أيضاً الجانب التحريري لدى الصحافي صاحب المواقف والمعتاد على العطاء، مضيفاً: "الحمد لله، صحافيو المؤسسة على العموم يعملون بجد، ويكابدون رغم تأخر صرف الرواتب".
ويذكر الريسوني لرصيف22 أن "الصحافي أحياناً يقوم بعمل ثلاثة صحافيين في جريدة أخرى، والتقني في مجال التصميم أو المصور أو الإداري يعمل بمجهود يمكن أن يوزَّع على ثلاثة أو أربعة عاملين في مقاولات إعلامية أخرى".
ويتابع أنه إلى حدود الآن "لا زال العاملون في أخبار اليوم والصحافيون في طليعتهم صامدين، يكابدون معاناتهم بصمت أحياناً، وبجهر في أحيان أخرى، ولكنهم يعملون".
فوق الحصار ترهيب
عندما اعتقلت الصحافية المغربية هاجر الريسوني، في أيلول/ سبتمبر الماضي، بناء على اتهامات "أخلاقية"، قالت في دفاعها: "سألني الأمن عن كتاباتي السياسية أكثر مما سألوني عن التهم الملفقة لي".
تركز الريسوني في منشوراتها على موقع فيسبوك وحتى في مدوناتها على مواقع التدوين الشهيرة على كتابات الحب والخواطر، والقصص. لن يكتشف المتابع آراءها السياسية والاجتماعية إلا إذا طالع تقاريرها السياسية وحواراتها التي تحتل الصفحة الأولى من أعداد "أخبار اليوم" في كثير من الأحيان.
هاجر الريسوني
لحسن الحظ، عانقت هاجر الحرية مطلع تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، بعد عفو ملكي أسقط عنها تهمة الفساد، وعاد بتهمة الإجهاض إلى مبدأ "قرينة البراءة" رغم إدانتها من قبل المحكمة بالسجن النافذ سنة كاملة. ولكن مراقبين يرون أن القصد من استهدافها هو المؤسسة ذات "الخط التحريري المزعج".
مصير "أخبار اليوم"
أمام هذا الوضع، يتبادر إلى ذهن المتابع مصير واحد لمؤسسة محاصرة مالياً، ومستهدفة حكومياً: إذا لم يكن الثبات أو الانحراف فسيكون مما لا شك فيه التوقف. إلا أن أسرة "أخبار اليوم" لديها قول آخر.
يقول سعيد لرصيف22: "كون أخبار اليوم من أبرز المؤسسات الصحافية في المغرب، ومشهود لها بالمهنية والاستقلالية، يجعلنا فخورين بالانتماء إليها، ويشجعنا على النضال لأجلها رغم كل الصعاب. سنصمد لأننا نؤمن بالمؤسسة"، مشدداً على ضرورة إيجاد حل لإنقاذ الصحافة المهنية، عوض الإجهاز على "هذه التجربة الرائدة في المغرب"، بحسب تعبيره.
ويشير الريسوني إلى أن الذين يتابعون ما يوجد في السوق من جرائد يؤكدون أن أخبار اليوم تكاد تكون الجريدة المستقلة الوحيدة الآن في المغرب، بخط تحريري واضح يقدّم للقارئ قيمة مضافة، لافتاً إلى أن اليومية صمدت قرابة السنتين، وبقيت قابضة على الجمر، منذ اعتقال مؤسسها توفيق بوعشرين.
ويرى أن منسوب الاستقلالية والجرأة والموضوعية في الجريدة زاد واتضح أكثر، وبقيت وفيّة لخطها التحريري، وللقراء الذين احتضنوها، ويضيف بنبرة صوت مشبعة بالثقة والأمل: "بتقديري إذا كان عليّ أن أحكم على نفسي، وعلى الفريق الذي يشتغل معي وأشتغل إلى جانبه، أقول إن أخبار اليوم ستبقى كما عهدها المغاربة صوتاً مستقلاً نقدياً رغم كل الصعاب".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...