الآباء أسعد وأقل تعباً من الأمهات، وذلك يعود إلى المجهود الكبير الذي تبذله النساء في المنزل مقارنة بالرجال، عن طريق القيام بالأعمال المنزلية ورعاية الأطفال، حتى وإن كان كلاهما يعمل بدوام كامل، هذا ما كشفته الدراسة التي أجرتها جامعة بن ستيت، استناداً إلى بيانات American Time Use Survey.
وأشارت الدراسة إلى أن الأمهات اللواتي يعملن بدوام كامل يشعرن بالذنب تجاه أولادهن أكثر بكثير من الآباء الذين يعملون بدورهم بدوام كامل، وإحدى الحجج التي تستخدم لتفسير قلق الأمهات العاملات هو عدم عيش الرجال والنساء كما تنص عليه الطبيعة، إذ تشير هذه النظرية إلى أن الرجال هم بطبيعتهم الجنس المسيطر، في حين أن النساء هن بطبيعتهن ربات المنازل.
وبالرغم من أن البعض قد يعتبر أن هذه الأفكار قد عفا عليها الزمن وأصبحت في طيّ النسيان، بخاصة وأنه في أيامنا هذه، تحقّق المرأة يومياً العديد من النجاحات، وتثبت أنها قادرة على النهوض بالمجتمع تماماً كالرجال، إلا أن مبدأ "تفوق الذكور" لا يزال يطفو على السطح بين الحين والآخر، لتذكّرنا بعض الأصوات بأن "الرجل هو رأس المرأة" وأن "الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ".
فهل الاستبداد الذكوري هو أمر "طبيعي" يجب علينا كبشر التأقلم معه؟
مبدأ "تفوق الذكور"
خلال جزء كبير من تاريخ البشرية، كان استمرار "هيمنة الذكور" بمثابة قسم من الأكسيجين في الحياة، لدرجة أنه لم يتم تعريف "الأبوية" على أنها مفهوم، على عكس الديمقراطية أو الأوتوقراطية أو الأوليغارشية، وهي مفاهيم تمت مناقشتها بقوة من قبل الإغريق.
وبحسب مقال يعود للكاتبة شارلوت هيغينز في صحيفة الغارديان البريطانية، فإن فكرة "تفوق الذكور" كانت مسألة طبيعية وتحقق ذاتها، لأن الذين نصوا القوانين وكتبوا القصائد والكتب الدينية والفلسفة والتاريخ والأطروحات الطبية والنصوص العلمية، كانوا إلى حدّ كبير رجالاً يكتبون لمصلحة الرجال، بما معناه أن الذكور حظوا بميزة سرد قصصهم، وكان التعليم إلى جانبهم والقلم في أيديهم.
وبرغم صعوبة تعريفه، إلا أن النظام الأبوي يقوم على فكرة وجود هيكل اجتماعي يضمن سيادة الذكور على حساب النساء، واللافت أن قوة السلطة الأبوية تكمن في قدرتها على جعل نفسها غير مرئية.
فكرة "تفوق الذكور" كانت مسألة طبيعية وتحقق ذاتها، لأن الذين نصوا القوانين وكتبوا القصائد والكتب الدينية والفلسفة والتاريخ والأطروحات الطبية والنصوص العلمية، كانوا إلى حدّ كبير رجالاً يكتبون لمصلحة الرجال
وفي هذا الصدد، أوضح موقع The nation أن بعض المفكرين العظماء، أمثال أفلاطون وأبقراط وأرسطو، وضعوا الأسس التي بنيت عليها قرون من التمييز الجنسي، فعلى الرغم من أن هؤلاء المفكرين لم يخترعوا مبدأ "الذكورية" إلا أن كتاباتهم عززت فكرة خضوع الإناث لسيطرة الذكور، ومعاملة المرأة على أنها أدنى قيمة من الرجل.
التمييز الجنسي
في كتابها Transcendence: How Humans Evolved Through Fire, Language, Beauty, and Time أكدت غايا فينس أن النظام البطريركي ليس الحالة الإنسانية "الطبيعية"، ومع ذلك فإنه غالباً ما يكون عبارة عن مسألة حياة أو موت: هناك على الأقل 126 مليون امرأة وفتاة في جميع أنحاء العالم "مفقودات"، بسبب عمليات الإجهاض الانتقائية بسبب الجنس، أو نتيجة سوء المعاملة والإهمال، وفقاً لأرقام صندوق الأمم المتحدة للسكان.
وفي بعض البلدان لا تحظى النساء سوى بقدر ضئيل من القوة، فيتم التعامل معهن وكأنهن تحت سن الرشد، فيمنع عليهن السفر أو القيادة أو حتى الكشف عن وجوههن دون الحصول على إذن من الرجل، وتتجلى اللامساواة بين الجنسين في مجالات العمل، بحيث يشغل الرجال الوظائف الأكثر ربحاً: على الصعيد العالمي، يشغل الذكور 82% من المناصب الوزارية، كما أن هناك بعض المجالات التي يسيطر عليها الرجال بشكل لافت، مثل العلوم الفيزيائية.
ويعتبر العديد من الخبراء أن هناك أسباباً بيولوجية مهمة وراء أدوار الرجال والنساء ومكانتهم المختلفة في المجتمع، فعلى سبيل المثال، جادل عالم النفس ستيفن بينكر بأن الرجال يفضلون العمل مع "الأشياء" بينما تفضل النساء العمل مع "الأشخاص"، واعتبر أن هذا الأمر يفسّر سبب انخراط المزيد من النساء في قطاع الرعاية الصحية والأعمال الخيرية حيث تكون الأجور منخفضة، في حين أن الرجال ينخرطون أكثر في مجالات علمية، مثل علم الأحياء والفيزياء والكيمياء والرياضيات وبرمجة الكمبيوتر.
وهناك آراء أخرى تصر على أن أدوار الجنسين تستند إلى اختلافات معرفية، وتعتبر أن الرجال أكثر ذكاء من النساء، فقد قال عالم النفس جوردن بيترسون: "الأشخاص الذين يرون أن ثقافتنا هي نظام أبوي قمعي، لا يريدون الاعتراف بأن التسلسل الهرمي الحالي قد يكون قائماً على الكفاءة"، واعتبر أن المرأة ستكون أكثر سعادة في حال لم تقف بوجه الاختلافات الجندرية بل ركزت على الأدوار التقليدية للجنسين، إلا أن مثل هذه النظريات قد تم دحضها من قبل مجموعة كبيرة من العلماء.
جذور النظام الأبوي
من التشريح الجنسي وصولاً إلى الهرمونات، لا شك أن هناك اختلافات بيولوجية بين الرجال والنساء، كما أن أدمغة الرجال عموماً أكبر قليلاً من أدمغة النساء، وتكشف عمليات المسح عن وجود بعض الاختلافات في حجم وترابط مناطق دماغية معينة مثل الحصين، في عينات كبيرة من الرجال والنساء.
ومع ذلك لا يمكن ربط الأداء بالجنس، فقد أظهرت العديد من الدراسات أنه في حال كان هناك شخص ما يتمتع بمهارات في الرياضيات أو يحظى بالوعي المكاني أو بأي سمة جنسانية أخرى، فإنه لا يمكن التنبؤ بذلك لمجرد معرفة الجنس.
لا يمكن العثور على جذور النظام الأبوي في علم الأحياء والاختلافات البيولوجية
هذا ولا يوجد أي دليل يثبت أن النساء أقل قدرة على شغل الوظائف والمناصب الاجتماعية التي يشغلها في العادة رجال، لا بل على العكس، عندما تُمنح النساء الفرصة للقيام بعمل يُعتبر ذكورياً فإنهن يبرهن أنهن يتمتعن بكفاءة عالية، هذا وقد أكد الباحثون أن النساء لسن أقل ذكاء أو قدرة من الرجال.
بعبارة أخرى لا يمكن العثور على جذور النظام الأبوي في علم الأحياء والاختلافات البيولوجية.
وعلى الرغم من انتشاره على نطاق واسع، إلا أن مسألة "تفوق الذكور" حديثة بشكل مدهش، وفق ما ذكرته الكاتبة غايا فينس، مشيرة إلى أن هناك أدلة دامغة على أن المجتمعات الذكورية تعود إلى أقل من 10000 عام، وبالتالي فإنه من المرجّح أن يكون البشر قد تطوروا ضمن أطر المساواة وظلوا على هذا النحو لمئات الآلاف من السنين.
واعتبرت فينس أن المساواة بين الجنسين كانت مفيدة من الناحية التطويرية، بحيث أن الآباء والأمهات الذين استثمروا في الفتيات والفتيان، منحوا لأسلافنا ميزة البقاء، لأن هذا الأمر عزز شبكات التواصل الاجتماعي والتي اعتمدوا عليها لتبادل الموارد والجينات والمعرفة الثقافية.
واليوم، لا تزال المجتمعات التي تقوم على الصيد تركز على المساواة بين الجنسين، مع العلم أن هذا لا يعني بالضرورة أن الرجال والنساء يحظيان بنفس الأدوار، إنما لا يوجد اختلال في القوة قائم على النوع الاجتماعي، كما يحصل في المجتمعات الأخرى.
وعليه أكدت الكاتبة أن البشر ليسوا مبرمجين وراثياً على فكرة "الهيمنة الذكورية"، إنما يعود ذلك إلى الثقافة التي هي مفتاح لفهم سلوكياتنا ودوافعنا، بحيث أننا مدفوعون بالثقافة أكثر من الغريزة، وثقافتنا هي التي تؤثر على بيئتنا وعلى جيناتنا، هذا وتسمح لنا ثقافتنا التراكمية والمرنة بتكوين أنفسنا، حتى وإن كنا نعزو نجاحاتنا وإخفاقاتنا إلى جيناتنا.
سلبيات النظام الأبوي
أكدت غايا فينس أن الأعراف الأبوية تضر بصحتنا وبمجتمعنا وتزيد من معدلات الموت والمعاناة، كما أنها تحد من الإمكانيات البشرية، واستدركت بالقول: "نحن لسنا عبيداً لبيولوجيتنا ولقواعدنا الاجتماعية".
وأوضحت أن التكييف الثقافي البشري يبدأ عند الولادة، لا بل أن المعايير الاجتماعية تؤثر حتى قبل الولادة: فقد وجدت إحدى الدراسات أنه عندما يتم إخبار النساء الحاملات بجنس الطفل، فإن وصفهن لتحركات الجنين يختلف، فالمرأة التي تعلم أن في أحشائها فتاة تصف تحركات الجنين بأنها هادئة ولطيفة جداً، في حين أن المرأة التي تعلم أن في أحشائها صبي تصف تحركاته بأنها قوية للغاية وفيها الكثير من الركلات واللكمات.
وعليه أكدت فينس أن التطور الثقافي وليس عامل الجينات، هو الذي يغير بشكل جذري طريقة تفكيرنا وتصرفاتنا ونظرتنا إلى العالم.
واللافت أن هناك العديد من المعايير الاجتماعية التي تطورت لأنها تحسن مسألة البقاء على قيد الحياة من خلال تماسك الجماعة، إلا أنه في المقابل يمكن لبعض هذه المعايير أن تكون ضارة، بحيث أنه ليس هناك أي أساس علمي للاعتقاد بأن لون بشرة الشخص أو جنسه لهما أي تأثير على شخصيته وذكائه، ومع ذلك يمكن أن تؤثر المعايير الاجتماعية على سلوك الشخص وبيولوجيته، بحيث أن المعايير الاجتماعية التي تصنف مجموعات معيّنة في أسفل التسلسل الهرمي الاجتماعي تشجع المجتمع على التواطؤ مع هذا الوضع.
واعتبرت غايا أن خطر إسناد الأسس الوراثية والبيولوجية لأعمالنا يؤدي إلى حرمان الأفراد والمجموعات من الحصول على فرص متساوية في الحياة ويساهم في زيادة معاناتهم.
هذا واختتمت غايا فينس حديثها بالقول: "إذا أصرينا على فكرة أن هناك طريقة طبيعية- أفضل- لكي نكون بشراً، فإننا نعمي أنفسنا عن التنوع الكبير في الطرق المحتملة للوجود والتفكير والشعور، ونفرض قيوداً اجتماعية على من لا تكون خياراتهم في الحياة أقل شرعية من خياراتنا. ومع ذلك تجدر الإشارة إلى أن العديد من القواعد التي كان يُعتقد في الماضي أنها وضعت في الحجر البيولوجي، أو التي وضعتها الآلهة، قد غيرتها المجتمعات بسرعة كبيرة في بعض الأحيان. إذا اخترعنا هذه القواعد فهذا يعني بانه بإمكاننا تغييرها، بمعنى آخر يمكن تغيير حالة "طبيعية" مقبولة وموجودة منذ آلاف السنين في غضون أشهر".
منى الطحاوي: "يجب عليكن أن ترفضن وتتمردن وتعطلن النظام الأبوي، لأن الصمت لن يحميكن"
وبدورها شبهت الصحافية المصرية منى الطحاوي النظام الأبوي برأس الأخطبوط، واعتبرت أن أذرع الأخطبوط تمثل أشكالاً مختلفة من الاضطهاد، مشيرة إلى أنه بمعزل عن طبيعة الدولة "سواء كانت ثيوقراطية أو ديمقراطية أو استبدادية"، فإن النظام الأبوي هو عالمي، والشق الذي يختلف هو "المخالب" التي تستخدمها الذكورية لضمان هيمنة الرجال، بما في ذلك اللعب على وتر الرأسمالية، العنصرية والكراهية.
وفي حديثها مع موقع electric literature، شددت الطحاوي على أهمية قطع رأس الأخطبوط، أي تدمير وسحق النظام الأبوي عن طريق كسر حاجز الخوف، هذا وتوجهت إلى النساء من حول العالم بالقول: "يجب عليكن أن ترفضن وتتمردن وتعطلن النظام الأبوي، لأن الصمت لن يحميكن".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين