"يحز في نفسي، كأي موريتانى آخر، مستوى الفساد الذي يتخبط فيه البلد، والأوضاع المزرية للمواطن وضعف النخب داخل البلد: كل هذه العوامل من بين أخرى جعلتني أخصص جزءاً من وقتي لتوعية المواطنين ونقاش قضايا البلد الملحة".
هذا ما قاله الطالب عبد الودود لرصيف22 عن أسباب إقدامه على البث المباشر على فيسبوك. عبد الودود هو صحافي ومدون موريتاني مقيم في كندا، ويتابع صفحته على فيسبوك 56 ألف متابع، ولديه قناة على يوتيوب أيضاً، ويُعتبر اليوم أحد أشهر مَن وجدوا في البث المباشر على فيسبوك ضالتهم للتعبير عن أفكارهم ورفض ما يعتبرونه ظلماً يحدث في بلدهم.
نجح عبد الودود عبر كلام مبسط يستخدم القاموس الشعبي والكلمات التي تترك أثراً في الشارع في أن يكون للمحتوى الذي يقدمه نصيباً مهماً من التداول على فيسبوك وحتى على تطبيقات المحادثة كالواتساب، حيث يتم تداول مقاطع بثه التي ينتقد فيها السلطة والمجتمع.
يعتبر الشاب الموريتاني أن البث المباشر هو فرصة للمثقف لينزل من برجه العاجي ويحدّث الناس، على اختلاف مستوياتهم التعليمية، بما يهتمون به بطريقة سهلة، لأن شبكات التواصل الاجتماعي بطبيعتها غير نخبوية.
الطالب ليس الوحيد
عبد الودود ليس الوحيد الذي وجد في البث المباشر طريقاً مهماً للتعبير عن آرائه، بل أصبح الأمر ظاهرة تستقطب مهتمين به، رغم أنه يولّد جدلاً يقسم الناس بين مشجع وبين مَن يعتبر أن ما يقدَّم مبتذَل.
من ضمن مَن اختاروا البث المباشر كوسيط للتعبير سيد أحمد ولد الطفيل، وهو صحافي وناشط حقوقي موريتاني مقيم في كندا.
يتحدث ولد الطفيل لرصيف22 عن بدايته مع البث المباشر، ويقول: "بدأت البث المباشر مع بداية إصدار فيسبوك للخدمة، وكنت أقوم بها بشكل تجريبي حول ساحة التايم سكوير في نيويورك، وكان التفاعل كبيراً من طرف الأصدقاء وجمهور فيسبوك ومن بعدها قمت ببث حول متحف وكان التفاعل مع البث جيداً أيضاً، لذلك شعرت أن البث المباشر له جمهور أكبر من جمهور التدوين والمقالات وهي الأساليب التي كنت أنتهجها للتعبير عن نفسي في الغالب".
يصنّف ولد الطفيل نفسه "ثائراً على الأنظمة المتعاقبة"، ويروي أنه تعرّض للقمع مراراً، "فقد تم توقيفي مراراً بسبب مقابلات تلفزيونية، ووجدت في البث المباشر فرصة للتعبير عن رأيي بدون قمع أو عقاب مباشر، وفرصة للكلام عن القضايا السياسية في موريتانيا".
ويضيف: "خلفيتي كمواطن موريتاني مولود في العاصمة نواكشوط ومترعرع فيها وشاركت في أقدم التظاهرات وسنّي الذي يسمح لي بتذكير الكثيرين بمحطات من تاريخ النضال السياسي الموريتاني، جعلني حين أتكلم عمّا يحدث في موريتانيا لا أتكلم عن جهل".
واصل ولد الطفيل البث على فيسبوك لأنه شعر أنه "النافذة الوحيدة التي تربطني بأصدقائي وبالمناضلين والصحافة والمدونين والحقوقيين وأناس عاديين وحتى الأقارب".
يرى أن فيسبوك هو أكثر وسائل التواصل الاجتماعي شعبية في موريتانيا ويقول إنه اعتمده للبث المباشر "لأنه أسهل"، مضيفاً أنه قام بتخصيص وقت للبث المباشر متلائم مع عمله ويسمح له بـ"التحضير الجيد له".
من جانبه، قال الصحافي الموريتاني المقيم في أمريكا الداه يعقوب، والذي يحاول أن يقدّم ما يشبه "التوك شو" عبر خدمة البث المباشر لرصيف22: "ما جعلني أخصص جانباً من وقتي للبث المباشر هو خلفيتي كصحافي هوسه البحث عن المعلومة والمحافظة على الاتصال مع الجماهير، خصوصاً في ظل طفرة شبكات التواصل الاجتماعي وتسيدها للمشهد الإعلامي"، راوياً أن بدايته مع الأمر تعود لأكثر من عامين.
مواضيع شتى وتفاعل كبير
تتنوع مواضيع البث المباشر، ويطغى عليها الجانب السياسي ويتنوع تفاعل الجمهور معها، وتتغير طريقة التعبير من ناشط لآخر.
يحكي عبد الودود عمّا يقدمه في بثه، ويقول: "قمت حتى الآن بتسجيل الكثير من الحلقات وكل حلقة حصدت آلاف المشاهدات ويمكن الاطلاع عليها على قناتي على يوتيوب. تناولتُ العديد من المواضيع من بينها كشف حقيقة القروض من الصناديق والبنوك والمؤسسات الدولية التي أثقلت كاهل البلد بالديون".
ويضيف: "تناولت أيضاً مواضيع بأساليب بسيطة كانت بعيدة عن الرادار"، ضارباً المثل بمواضيع كـ"السِير الذاتية والشهادات المزورة للوزراء وللشخصيات السامية في الدولة... ومهزلة عدم تكافؤ ميزان الرواتب وما يترتب عليها من هدر للمال العام وانعدام المردودية إلخ".
وأكد على وجود تفاعل كبير مع ما يقدمه: "أعتقد أن هناك تفاعلاً متزايداً من جمهور المتابعين، ما يعكس وجود إرادة شبابية وشعبية رافضة لتوجهات وسياسات بالوعات المال العام التي أهلكت البلاد والعباد".
عرافة شغلت الناس لعلاقتها مع الرئيس الموريتاني السابق وزوجته، قمع فرقة موسيقية بسبب أغانيها، جرائم الشرف، حقوق الطلاب، الفتاوي المثيرة للجدل حول العلاقات الحميمية... أبرز القضايا التي يتناولها شباب موريتانيا بعيداً عن رقابة إعلام السلطة
هناك الجدّي والرصين والمثقف وهناك "مَن هو مشغول بمرويات الماضي وغريب الفقه"... نجوم البث المباشر على فيسبوك في موريتانيا: ما لهم وما عليهم
من جانبه، سرد ولد الطفيل بعض التفاصيل حول محتواه، وقال: "الأكثر مشاهدة وتفاعلاً هي حلقة بعنوان جمهورية فالة وهي حلقة عن عرافة شغلت الناس لعلاقتها مع الرئيس الموريتاني السابق وزوجته، وكذلك بث مع عضو فرقة أولاد لبلاد إسحق حول القمع الذي تعرّضوا له بسبب أغانيهم ورحلة هربهم ولجوئهم إلى كندا".
أما الداه يعقوب، فقد تحدث عما يقدمه وقال: "المواضيع التي أركز عليها دوماً هي المواضيع المتجددة في الأحداث، سواء سياسية أو اجتماعية وحتى اقتصادية في موريتانيا، كالانتخابات الرئاسية مؤخراً وجرائم الشرف ومنع الطلاب من التسجيل في الجامعة بسبب تجاوز سن الخامسة والعشرين".
ويروي أن "هناك مَن يقترح المواضيع ويتصل وينتظر البث المباشر بتشوق كبير جداً"، مؤكداً في الوقت نفسه أن هناك مَن يعارضه ويعتبر عمله إضاعة وقت، "لكن عموماً البث المباشر خلق بديلاً ومنافساً قوياً للمشهد الإعلامي المحلي في موريتانيا".
وبرأيه، إن أهم بث قام به هو بث حول بعض الفتاوي المتعلقة بالعلاقات الحميمية والتي أصدرها بعض الفقهاء في موريتانيا وأثارت الجدل، وكذلك بث آخر يتعلق بضحايا آبار الذهب في موريتانيا".
تحطيم مركزية الإعلام
يعتبر كثر أن الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي أنهت مركزية النشر وتحكم السلطة فيه، إذ وُلدت منابر غير سلطوية وغير متحكَّم فيها.
ويقول الباحث الموريتاني الحاج إبراهيم لرصيف22: "بالفعل، لعبت شبكات التواصل الاجتماعي دوراً محورياً في تغيير الوضع القائم المتعلق بنشر وبث المعلومة بكل وسائطها المعروفة، وساهمت في كسر احتكارها، إذ أتاحت للمتلقي ربما لأول مرة في التاريخ أن يكون منتجاً وصانعاً للمحتوى".
وأضاف أن هذا التحوّل "حرر الرأي والمعلومة من احتكارية السلطة الرسمية لكنه أتاحها لسلطات أخرى أكثر عدداً وأقل تنظيماً ومركزية وهذا ما خلق أوضاعاً وظواهر تواصلية لم تكن لتظهر في الأوضاع التقليدية للإعلام الممركز".
وأكد ولد عبد الودود بدوره أن الإعلام الاجتماعي الجديد ضرب الإعلام التقليدي في العمق و"على الأنظمة الفاسدة فهم ذلك"، وأضاف: "لا أحد يستطيع الوقوف في وجه تدفق المعلومات في العصر الرقمي ومَن يحاول ذلك سيكون تماماً كمَن يحاول أن يُغطي الشمس بغربال". وهذا الأمر، برأي ولد الطفيل، "يزعج النظام".
زخم كبير وانتقاد لاذع
يتعرض بعض مَن يقومون بالبث المباشر للسخرية والانتقاد اللاذع ويُتهمون بالجهل والخوض في مواضيع لا يفقهون فيها شيئاً، وبأنهم يميّعون فضاء الإنترنت وينشرون التفاهة والرداءة.
ولكن الحاج إبراهيم يعتبر "أن المجال العام الموريتاني أمسى مجالاً مائعاً لأسباب عديدة منها أسباب بنيوية أنتجتها السلطة والأنظمة الحاكمة لتمكينها نخباً طفيلية دون مستوى وبلا تكوين معرفي أو احترافي من التحكم في إنتاج مضمون إعلامي ومعرفي يشكّل مجرد مرآة عاكسة لحالة التردي العامة التي يشهدها المجال العام الموريتاني".
وأوضح سيد أحمد ولد الطفيل أن هناك اختلافات بين مَن يقومون بالبث المباشر، فهناك "مَن هو مشغول بمرويات الماضي وغريب الفقه... وهناك مَن يستضيف الضيوف وهو لا يمكنه نطق الكلام بشكل سليم، ويسمي مرض التوحد بمرض التوحيد".
كذلك، يرى الطالب عبد الودود أنه لا يجب وضع المدونين في خانة واحدة، وقال: "المدونون متباينون في توجهاتهم ومشاربهم ومستوياتهم العلمية ولذلك لا يمكن جمعهم في سلة واحدة.. فمنهم مَن يكشف الأنظمة الفاسدة ومنهم من يُطبل ويُزمر لها ويدافع عنها وهناك مدونون مهنيون وهناك غير ذلك".
أمام هذا الواقع، انتشرت أصوات في موريتانيا دعت لضرورة التحكم في البث المباشر، وعدم السماح لمَن ليس لديهم قدرات علمية عالية في الظهور في المباشر. ولكن الداه يعقوب يرفض ذلك ويقول: "أنا ضد هذا الطرح لأنه من حق أي مدون أن يعبر عن رأيه ووجهة نظره ما دام لم يجرح أو يشتم أحداً".
ويختم بأن "تجربة البث المباشر تجربة غنية قرّبت المسافات وأتاحت عدم المركزية وحررت أصحاب الرأي من انتظار الضوء الأخضر من قبل وسيلة إعلام لتمنح لهم هواءها، لذلك توجت بنجاح كبير ومتابعة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...