باستقالة رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري، تدخل السلطة اللبنانية في مرحلة من الشلل الكامل. الثورة التي يشهد البلد فصولها المدوية، نجحت منذ أيامها الأولى في فرض الصمت التام على السياسيين اللبنانيين. وبهذا فقد تساووا تماماً مع قادة حزب الله الأمنيين الذين لا تعرف لهم صورة ولا يُسمع لهم صوت.
وعلى نحو ما تعمل سلطة حزب الله الأمنية في الخفاء والسر، دخلت الطبقة السياسية اللبنانية برمتها إلى هذين الخفاء والسر. فما يُحاك وما يدبّر ليس معروفاً للعامة أو الخاصة. والأفكار التي تطرح للخروج من الأزمة لا تخرج أيضاً من الكواليس الضيقة، ولا تتعدى جدران غرف الاجتماعات إلى خارجها. أما الصحافة اللبنانية الموالية لسلطة حزب الله الأمنية، فتنشط في تأليف الشائعات وابتكار السيناريوهات التي تستعيد كل مكامن القوة، التي يملكها حزب الله حصراً، لتوظفها في تخويف المعتصمين في الساحات والطرقات.
وبدخول الطبقة السياسية في كهف الخفاء والسر، تكون قد فقدت كل مقوماتها كسلطة مخولة بإدارة البلاد. ولم يعد المراقب يملك ما يمكّنه من معرفة اتجاهات أهلها وتمييز المواقف بين متشددة وأقل تشدداً وتعريف أصحابها. تحوّلت السلطة السياسية بكل أحزابها ومكوناتها إلى كتلة صماء ولم تعد ثمة حاجة بأحد إلى أن يدرك أنها باتت شبه ميتة.
في موقع آخر، نجحت الثورة في فرض صمت مدوٍّ على الإنتلجنسيا اللبنانية بمثقفيها وبيروقراطييها وتكنوقراطييها. هذه الفئة الاجتماعية كانت على الأرجح تنتظر أيضاً تعب الثوار وهمود همتهم لتعيد على أسماعهم خطاباً مكرراً عن الحلول التي اقترحوها منذ سنوات وعن الطرق الأنجع لتحقيق المكاسب والانتصارات على السلطة الفاسدة. والأرجح أن أهل هذه الفئة أدركوا أخيراً أن هذه الثورة لا تقاد من أرشيف الثورات، وأن كل الخطابات المحضرة سلفاً باتت بلا قيمة، وعلى مَن يريد التنطح للقيادة أن يظهر قدرة فائقة على الابتكار والتجديد والتمسك بأهداب المعاصرة ليتمكن من اكتساب ثقة الناس مجدداً.
والحق أن أهل هذه الثورة وناسها نجحوا في تدمير كل وسائل السلطات المختلفة، أكانت ثقافية أم سياسية أم أمنية أم مالية، لإخضاعهم وحزمهم تحت سلطة خطاب ادعاء المعرفة. فلأول مرة في تاريخ لبنان، وفي التاريخ المعاصر، تنجح ثورة في قلب المعايير كلياً ونبذ المتعارف عليه في التحركات الاحتجاجية.
هذه الثورة لا تدافع عن قادتها. هي أصلاً بلا قادة، وتالياً لا يستطيع خصومها التصويب على هؤلاء لإصابتها بمقتل. وهذه الثورة لا تقدم خطاباً منحازاً إلى اتجاه دولي أو إقليمي في مواجهة خطاب آخر، فهي ليست معنية في أن ينتصر محور على آخر أو ينهزم. وأغلب الظن أن حزب الله قد انتبه إلى هذه الخاصية منذ خطاب أمينه العام الأول الذي أعقب اندلاع الاحتجاجات.
لكن انعدام الخطاب المدوي والمجلجل لا يعني أن هذه الثورة بلا أفكار. وانتفاء المطالب الواضحة والحاسمة لا تعني عجزاً عن اجتراح المطالب. بل يبدو أن هذا الأمر ناجم عن طلاق بائن بين زمن أهل الثورة وناسها وزمن أهل السلطة وأهل الحكم على حد سواء.
وقد يكون عجز السلطة التي ما زالت تسوس البلاد منذ سبعينيات القرن الماضي وفسادها هما ما أجبر اللبنانيين على تأهيل أنفسهم من دون وسيط أو معين والحرص على البقاء قيد المعاصرة وفي قلب العالم وما يحدث فيه. ذلك أن هذا الحرص على المعاصرة كان في ما يبدو أملهم الوحيد في أزمان السلطات التي تعاقبت على سرقة حقوقهم وأموالهم وآمالهم ومستقبلهم.
وفي حين أن أهل الثورة وناسها، وهم الكثرة الغالبة من اللبنانيين، تمسكوا بأهداب المعاصرة وتشددوا في تبني الحديث والجديد، فإن أهل السلطة السياسية كانوا ولا يزالون يجترون خطاباً أهلياً متوتراً لا يغني ولا يسمن، ولا يمكّنهم بطبيعة الحال من سوق الناس في قطعانهم، إلا بتكرار خطاب الحرب الأهلية والاستعداد لها.
"تمادت السلطة اللبنانية في انقساماتها الأهلية الحربية، وبدت خطاباتها أشبه ما تكون بخطابات من زمن آخر غير زمن اللبنانيين المعاصرين والذين يعرفون أن العالم أصبح في مكان آخر غير الذي ما زال السياسيون اللبنانيون يقبعون في نتنه"
"نجحت الثورة اللبنانية المعاصرة والصاخبة والضاحكة والكاشفة عن وجهها في وضع أهل السلطة والحكم ومعهم صناع الرأي العام في لبنان في سفينة الحمقى، وها هم يجوبون البحار من دون وجهة أو مرفأ والأرجح أن توهانهم سيطول كثيراً"
تمادت هذه السلطة في انقساماتها الأهلية الحربية، وبدت خطاباتها التي تتفاخر بالتيار الذي يجرف كل مَن حوله (جبران باسيل)، وبالتأكيد أنها قادرة على ملء كل الساحات وتغيير كل المعادلات (حسن نصر الله) أشبه ما تكون بخطابات من زمن آخر غير زمن اللبنانيين المعاصرين والذين يعرفون أن العالم أصبح في مكان آخر غير الذي ما زال السياسيون اللبنانيون يقبعون في نتنه.
هذه الثورة أيضاً لم تنجرّ إلى فخ الخطابات الجادة والتي يمكن بسهولة نقدها أو العمل على تفكيكها. كل ما أشهرته في وجه الحكم والسلطة السياسية لم يتعدَّ سلاح الضحك. الضحك الذي لا يقبل الانتظار الطويل. خطاب هذه الثورة هو النقيض الكامل والتام لخطاب حسن نصر الله، الطويل والجدي والمتمنطق. فخطاب هذه الثورة يقوم على بنية النكتة زمناً وأثراً. جملة واحدة تكفي، وسوف تعقبها القهقهة. وهي قهقهة كفيلة بتفكيك أي خطاب مهما بلغ مبلغه من الجدية والحصافة، وقادرة على تدمير الهالات شبه المقدسة بلحظة عابرة.
ثورة صانعي الضحك هذه تتميز أيضاً بأنها بلا أسرار تقريباً. ثوارها يحيون في العلن وعلى رؤوس الأشهاد، لا مؤامرات تدبّر في ليل، كحال حزب الله الأمني، ولا أسرار تخفى عن العين العابرة أو المتفحصة. يرقصون ويأكلون ويشربون وقد يغرمون ببعضهم بعضاً أمام الملأ. لهذا لا يمكن للسلطات ضبطها متلبسة في أي زاوية أو حشرها بخطاب أخلاقي تافه وممل.
نجحت هذه الثورة المعاصرة والصاخبة والضاحكة والكاشفة عن وجهها في وضع أهل السلطة والحكم ومعهم صناع الرأي العام في لبنان في سفينة الحمقى، وها هم يجوبون البحار من دون وجهة أو مرفأ والأرجح أن توهانهم سيطول كثيراً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...