شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
ثورة لبنان... غيرتني حميمية شوارع بيروت وبددت عزلتي

ثورة لبنان... غيرتني حميمية شوارع بيروت وبددت عزلتي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الاثنين 28 أكتوبر 201907:48 م

رحتُ في زيارة مخطط لها إلى بيروت خمسة أيام، وأنا في المطار أستعد للإقلاع، وموظفو مطار القاهرة يحتجزوننا بضع ثوان، في إجراء روتيني لأمثالي ممن لم يأخذوا الختم العسكري على جوازاتهم، للتأكد من تأدية الخدمة العسكرية، لعبت بموبايلي، وانتقيت بضعة كتب لأوشو سأقرأها بشكل عشوائي، وصندوقاً أصفر على تطبيق "غوغل كيب"، مفكرتي الافتراضية، التي كتبت فيها اقتباسات من كتب لبوذية الزن، والفيلسوف الهندي أوشو، والشاعر الإنكليزي أليستر كراولي، أحد مؤسسي الحالة الهيبية في منتصف القرن الماضي.

"تجاوزوا حدود بلادكم، سافروا، وستعرفون وأنتم في المطار، أننا لسنا أحراراً، عبيد".

أقرأ كلمات أوشو بين الحين والحين، قبل صعود الطائرة، بعد إغماءة خفيفة في منتصف الرحلة الجوية، عند استيقاظي المتقطع في منتصف الليل بمكان استضافتني فيه صديقتي بمحبة، سمته "بيت اللفة"، و"اللفة" كلمة خصبة ثرية، تعني الطفل الذي لم يتحرر من "اللفة"، القماش الذي تحيطه به أمه، وتعني جولة، إذا أحببت أن تستعير دراجة من صديقك لتلعب بها تقول له: "ممكن لفة"، أي جولة.

كأنه مكان الميلاد، والترحال القصير اللعوب المبهج.

وحدث في "اللفة" باليوم الثاني لإقامتي، "حفلة كاكاو"، قمنا خلالها بممارسة تأمل جماعي، تقنية يسميها أوشو "التأمل الديناميكي"، نفذته ببراعة مدهشة مدربة تأمل ألمانية.

غبار النجوم

أمارس التأمل لسنوات، ولكني فشلت في كل طقوس التأمل الجماعي، حتى في الحضرات الصوفية أشعر أني منعزل عن المجموع، يتطوح جسدي وحده متعرقاً من نشوات الروح وانطلاقاتها.

دخلت في حميمية روحانية مع المعلمة الألمانية، التي ظلت تصدر أصواتاً أنثوية ساحرة، تتحدث بكلام هامس: "لا تكن وحدك، شاركنا"، وكانت تلك اللحظة الأولى، في هلوسات سمعية وبصرية دخلت الدائرة، وشعرت ببعد مختلف في الوجود، وقع الحاجز بيني وبين الآخرين.

لذة الحميمية.

أشعر بروح كل شخص، بجسده، بحب كل شخص، بلمسة عارية جامحة، كأننا في حضرة صوفية عتيقة بجامع السيد البدوي في طنطا في مصر، أو حفلة جنس جماعي منتشية بعقاقير الهلوسة في "ثورة الحب"، على شواطئ كاليفورنيا.

في بداية الخلق، غبار النجوم مليء بالطاقة، والمادة كالصلصال الطري الساخن، وأنت لست أنت، تختبر الأورغازم بلا جسد، تستمتع بلا أنا، منتشٍ بوجودك وأنت في العدم.

"أنا سجنك يا أحمد"، تقول صديقتي التي أحبها، وهي ترتدي ثوباً أزرق قصيراً، أمام الشاطئ، تضحك كدولفين.

"كن حراً مثل النحلة، النحلة فقط هي التي تعرف السر الأكبر، كل الزهرات فيها الرحيق"، تقول امرأة غجرية أسست لبوذية الزن لأحد المعلمين، بحسب كتاب لأوشو.

أقول لصديقتي وهي تلف سيجارة، وتضع التبغ بعناية وتؤدة في "البفرة"، كم أن الخوف وانعدام الثقة يشكلان وعي الناس ودوافعهم، إذا لاحظت امرأة على وجهها تجعيدة أو شعرة بيضاء، إذا استيقظ أحدنا واكتشف أن "أنفه" بات أطول، أو اعوجّ ظهره كثيراً، كيف ستشكل كل المشاعر السلبية، شعوره بنفسه وإحساسه حتى بمن يحبهم، إذا تغيروا؟

"هل تعرفين أن الرجل يمكن أن يفقد شغفه بامرأة فقط لأنها أصبحت سمينة، أو زادت التجاعيد التي على وجهها؟ أي عالم نعيش فيه، وأي كائنات حية نحن؟"

غيرتني الأجواء الحميمية في بيروت، بددت "عزلتي الجميلة"، كنت دائماً أنتقد مجموعات الأصدقاء بأن ليس فيها حرية، أحدهم يتحكم فيك حتى بدافع الحب، بدافع أنه يعرف أكثر، والبقية تخضع، لقد انكسر الحاجز، كلنا واحد أحد، وكلنا كثير.
لقد حققت ثورة اللبنانيين هدفها، لا يوجد شيء أبعد، لقد كسرت الحواجز بيننا، وجعلتنا نحس، والإحساس وعي، وأجمل إحساس في الدنيا "لذة الحميمية".

"اسكت يا أحمد"، تقول صديقتي، وقد انشغلتُ عن قطرات المطر، ورائحة طمي جنينة "بيت اللفة"، صمتُ، وأشحتُ ببصري عنها، يا للآلهة، أشاهد بحواسي كلها، اللمس والبصر والأنف، هذه الدراما الكونية الرائعة، الألوان الرائعة في السماء، أبيض وأزرق، وتدرجات لونية داكنة، كهرباء، مطر، طمي، نباتات.

لاحظت في طمي الجنينية دودة خضراء، كأنها جاءت للحياة توّاً، تتحرّك ببطء، تمط نفسها، تدفن نفسها في طمي، ثم تخرج من جديد، أعدت بصري لصديقتي مرة أخرى، اكتشفتُ أنها كانت ترى ما كنت أراه، واكتشفتُ أني توقفت عن حبها في اللحظات السابقة، وأحببت الكون وجماله، لأراه في النهاية، كل ما شعرت به، في لمعة عيونها وهي تنظر إلي، كأننا واحد أحد شعر بالملل فانفصل جسدين، ليلعب مع نفسه لعبة خطرة ولذيذة.

"كيف يمكن أن تحبي وأن تكوني حقيقية في نفس الوقت، الحقيقة هي كينونتك، لا تحبيها، تحرري من حبك لها، توقفي عن أن تصبحي وكوني، الأنا هو المسافة بينك وبين الهدف. الأنا هو المسافة بين الحاضر والمستقبل"، أوشو من جديد.

بعدها، استمتعت جداً بالمشي في شوارع بيروت، من "بيت اللفة" في الأشرفية إلى مار مخايل. السماء رائعة والسحب تتحرّك ببطء، متكاسلة، غير مستعجلة، الأزرق والأبيض وتدرجاته لوحة رائعة، أترك نفسي، فقط أشعر، أسمع موسيقى الكلاكسات، والهمس، والكلام، النظرات العابرة، روائح الشجر والبنزين، لا أحلل، لا أنتقد، فقط أحس.

"إذا استمتعتم بالحياة، الأصوات والألوان والرائح، سيختفي الفن من حياتنا، لأن الفن يعتمد على مشاعر الملل، والاستياء من الوجود، لن تبحثوا عن الجمال، لأن الجمال موجود في كل ما حولكم، وفيكم"، أكتب في مذكراتي على "كيب غوغل".

أجسادنا جميلة

أجّلت سفري مرتين، وفي الفترة الثانية وقعت الثورة، كنا ومجموعة من الأصدقاء، نضيع في شوارع بيروت كل يوم، من مطعم إلى مطعم، ومن كافيه إلى كافيه، نأكل ونشرب ونضحك، وكان عقلي مهووساً بالتحليل والتصنيف، هذا شجاع، هذه سلطوية، وتلك ساخرة من الحياة.

عندما قررنا لليلتين أن نشاهد الثورة، وسرنا في الشوارع، انكسر الحاجز بيننا جميعاً، ورأيت.

طاقة هادئة حلوة تدخل ألواناً سحرية لحواسك وعقلك

في اللحظة التي رأيت فيها تجمعاً لشبان يهتفون ويغنون بحميمية، تذكرت ميدان التحرير في تلك اللحظة الأولى، موجة من المشاعر المبهجة أنستني، ليس فقط ذكريات ثورة خمسة وعشرين يناير، ولكن نفسي، طاقة هادئة حلوة تدخل ألواناً سحرية لحواسك وعقلك، وبدأت أدرك جمال أجساد أصدقائي وصديقاتي، الوجوه المنفرجة، الأجساد التي تتحرك بمرح يشبه الأطفال، وشعرت بخيط سحري يجمعنا جميعاً، ولأول مرة توقف عقلي عن التحليل والتنميط، بدأت أحس جمالي وجمال أصدقائي ولذة الحميمية.

شعرت أن صديقة في لحظة من حياتها، اكتشفت ورأت النظام، وكيف ينتظم الناس داخله، وأن ما تحلم به لن تأخذه، وإذا أخذته ستضيع حلاوته، عبثية الخوف واللذة، الكبت والإشباع، الأمل واليأس، فقررت أن تسخر من كل شيء، حتى من نفسها ورغباتها، سخرية لذيذة حلوة، تمتع حواسك بصوتها البطيء المتكاسل كنتف السحاب التي تحجب القمر، وبرؤيتها الراديكالية التي تجعلك تتذكر حلم لك، أو رغبة، أو شخص، وتضحك عليه وعلى نفسك وعلى الحياة.

وصديقة تحب، ولكن حبها يتخذ شكل الخوف، الخوف الرقيق واللذيذ الذي يشبه خوف الأم على طفلها الأول، لذا تختار أشخاصاً مثلنا، حالمين، خياليين، ضائعين، ويتلذذون بضياعهم، نثير فيها تلك المشاعر الأمومية اللذيذة.

تقدمت خطوتين لألتقي بصديقتي التي أحبها، وقلت فرحاً باكتشافي: "إنتي حاسة"، ردت بصرها لعيوني، فاكتشفت أنها اكتشفت كل ذلك قبلي، فرحة قالت لي: "أيوة يا أحمد شو حلوة الدنيا".

الإحساس وعي

"في اللحظة التي ترى فيها صديقاً عزيزاً جداً لم تقابله منذ سنوات، ستجتاحك طاقة عالية، لا تحاول أن تتذكر قصصك معه، افتح قلبك وروحك لتلك الطاقة، والعب بها، واستمتع بها، ستنيرك"، أوشو يشرح حكمة هندية قديمة.

انكسر الحاجز، كلنا واحد أحد، وكلنا كثير، متماثلون حد التماهي، ومختلفون إلى حد بعيد

لقد غيرتني الأجواء الحميمية في شوارع بيروت، بددت "عزلتي الجميلة"، كنت دائماً أنتقد مجموعات الأصدقاء بأن ليس فيها حرية، أحدهم يتحكم فيك حتى بدافع الحب، بدافع أنه يعرف أكثر، والبقية تخضع، لقد انكسر الحاجز، كلنا واحد أحد، وكلنا كثير، متماثلون حد التماهي، ومختلفون إلى حد بعيد.

مفرقعات في ساحة الشهداء، تضرب كبد السماء، وتنفجر بلهو، وعبث، ويبقى منها غبار، يشبه غبار النجوم في السماوات البعيدة والأزمنة البعيدة، وقلبي بداخلي ينبض مبتهجاً بما تنقله إليه حواسي.

"عندما يظهر الحب، تصبح الأنا عائقاً، والأنا أقوى من سور الصين العظيم، لأنها طاقة رقيقة، تحس بها ولا تراها"، أوشو.

بعدها بيومين، عدت إلى القاهرة، ويسألني الأصدقاء كثيراً عن الثورة في بيروت، فأجيب دائماً، لقد حققت ثورة اللبنانيين هدفها، لا يوجد شيء أبعد، لقد كسرت الحواجز بيننا، وجعلتنا نحس، والإحساس وعي، وأجمل إحساس في الدنيا لذة الحميمية.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image