يأتي هذا المقال ضمن الملفّ المُعدّ لشهر أكتوبر 2019, في قسم "رود تريب" بـ"رصيف22" والمعنوَن "بصحْتك يا ساقي... بارات عربية لا بدّ من زيارتها".
البارُ فضاء له خصوصيته؛ له هويته المعبّرة عن سياق محدّد بكلّ تفاصيله الاجتماعية والثقافية والاقتصادية؛ فضاء انغماسٍ في حالةِ بحثٍ عن بهجة أو نسيان غمة أو تبديد عزلة أو تأكيد انتماء. والبار في المدينة المنتمية للمجال الإسلامي ليس طارئاً و لا مستجدة، وليس مرتبطاً بتركة الاستعمار، إنه حاضر في مختلف المراحل، وقد حضر في تاريخ الجزائر. وقد احتضن مجالس الشرب، كما احتضن مجالس الحشيش، وهو ما استفاض في الحديث عنه بعضُ الرحالة.
والبار في مدينة وَهران ظلّ حاضراً في النسيج الاجتماعي طيلة عقود، حضوراً ملتبساً بخصوصية المدينة التي تشكلت بالتثاقف والتلاقح والتهجين، وتموضعت كمحطّة تقاطعات، فطُبعت بذلك التمازج معمارياً وإيقاعيا وسلوكياً. ولهذا لم يشكل تموضع البار في الفضاء المجتمعي نشازاً، بل كان الحاضر دوماً في سيرة المكان ذلك التداخل بين المقدس ـ المدنّس.
كان في كلّ حي وشارع في وهران بار أو أكثر، ولكن منذ أواخر الثمانينيات بدأ التراجع، وبدأت البارات تختفي أو تغيّر نشاطاتِها. غير أنه بالمقارنة مع مدن أخرى استمرّ حضورها وتكاثرت بدل البارات محلاتُ بيع الخمور، والإشكال ليس في اختفاء البارات، بل في تغيّر المزاج الذي دفع بعض المترددين على الحانات إلى الانسحاب وتفضيل استهلاكهم للخمر بشكل فردي في بيوتهم لأن نكهة جلسات الحانات التي تعودوا عليها ضاعت، هذا ما يقوله لي فنانٌ مخضرم صار يبتاع زاده من دكّان بوسط المدينة. وربما الحالة تشبه أو تقترن بافتقاد عادات كثيرة كانت تختص بها المدينة.
البار في مدينة وَهران ظلّ حاضراً في النسيج الاجتماعي طيلة عقود، حضوراً ملتبساً بخصوصية المدينة التي تشكلت بالتثاقف والتلاقح والتهجين، وتموضعت كمحطّة تقاطعات، فطُبعت بذلك التمازج معمارياً وإيقاعيا وسلوكياً
تراجعُ عدد الحانات لا يختزل فقط في الطرح النّمطيّ المكرّر لسبب موجة التدين والأسلمة، بل لعوامل أخرى رجحت كما قيل في مصر حزبَ الحشيش على حساب حزب البيرة. التحوّلات التي تسارعت منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي تركت آثارها على نمط المعيشة، واقترن ذلك بدرجة أساسية، بالتخريب الذي تعرض له العمران ـ بالتعبير الخلدونيّ ـ، فالمدن التي كانت مشحونة بروح المدينة تبدّدت وتعرّضت لتفسّخ ماديّ وأدبي.
ساحة أول نوفمبر
رغم كلّ ما ذُكر ،لا زالت في وهران بارات، و أيضاً في الهوامش ما يعبَّر عنه بـ"المحشاشة "، وهو صنفٌ من الأمكنة السرّية لجلسات الخمر وأمور أخرى، و الاسم مشتقّ من الحشيش، نسبة إلى المخدِّر المكتسّح. وهناك مطاعم تقدّم الخمور وبارات الفنادق والملاهي، ولكلّ فضاء زبائنه، وكلّ من الزّبائن يمثّل نوعية من الفئات التي تفصح عن الواقع الاجتماعي بكلّ تحوّلاته.
حانات تقلّصت وما تبقى افتقد خصوصيات ما كان عليه سابقاً؛ حانات صارت تُعدّ على أصابع اليد. ومن البارات القديمة المستمرّة هو بار "الفوندوم" المتواجد بوسط المدينة، وفي ساحة "أول نوفمبر" التي تُعتبر من أشهر ساحات وهران، عاصمة الغرب الجزائري. ساحة تربط هامشَ وهران وحيَّها الشعبيّ "سِيدي الهواري"، بوسط المدينة. الساحة قريبة من شارع عَرف زخماً فنياً في زمن مضى، ومن أحد باراته انطلقت حملة "الشيخة الريميتي"، رائدة ما يُعرف بـ"موسيقى الراي"، واشتهر اسمها بذلك.
في هذا البار ثمة نوع من الألفة بين من اعتادوا التردّد عليها؛ فهناك علاقة حميمة بالمكان؛ علاقة نجدها مع مقاهٍ ومع مساجد وساحات ومساحات مختلفة في المدينة
ظلّت ساحة "أول نوفمبر"، هي البرزخ الرابط بين عوالم المدينة المختلفة، ربطاً يحضر في المترددين على بار الفوندوم؛ فالموقع قد منحَه محوريةً واستقطاباً لعيناتٍ من مختلف الأوساط والمستويات؛ فهو بار يمزج بين الحانات الشعبية والحانات التي تجذب عناصر النخب الاجتماعية والمنتمين لما يُعتبر الطبقة الوسطى.
كأنّ البارَ مركبٌ يرحل عبره زبائنُه بالسُّكر نحو لحظات انعتاق من رقّ الوقت، حسب تعبير الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي
الفوندوم اسم بلدة فرنسية لها وزنها التاريخي وخصوصيتها الطبيعية. كما أن هناك حانات أخرى تحمل أسماءً تحيل إلى غواية الأمكنة والأسفار، كبار "ليالي لبنان"، وبار "الخليج"، و"تيتانيك"، وبار "موريتانيا"، وبار مطعم "البوسفور"، وبار مطعم "لاكوميت". وكأنّ البارَ مركبٌ يرحل عبره زبائنُه بالسُّكر نحو لحظات انعتاق من رقّ الوقت، حسب تعبير الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي.
بار الفوندوم يجاور مقرَّ بلدية وهران، وكان يتاخمه مقرُّ جمعيةٍ سهرت على تنظيم فعاليات أغنية الراي، ثمّ صار موقعه مقرّاً لمحافظة مهرجان الراي الذي تمّ نقله إلى ولاية سيدي بِلعبّاس، والبار أيضاً يقابل مسرح المدينة في ساحة تعتبر محطة رئيسية لشبكة خطوط النقل الحضري.
الداخلون إلى بار الفوندوم يواجهون مجتمعاً بكلّ شرائحه من الشابّ البطّال إلى الشيخ المتقاعد، ومن العامل البسيط إلى الأستاذ الجامعي. في هذا البار ثمة نوع من الألفة بين من اعتادوا التردّد عليها؛ فهناك علاقة حميمة بالمكان؛ علاقة نجدها مع مقاهٍ ومع مساجد ومع ساحات ومساحات مختلفة في المدينة.
في الفوندوم هناك قاعة واسعة نسبياً، تتوالى الطاولات في ترتيب ممتدّ طولاً، و حول كلّ طاولة أربعة أو أكثر من الزبائن. بعضهم أصدقاء والبقية مجرّد شركاء طاولة. يطغى تداول البيرة و الريكار، و يتردّد أطفال يبيعون السجائر والشوكولاتة واللوز والبيض المسلوق، وتلك أجواء مألوفة في أغلب البارات، كما تحضر فتيات يتقرّبن من الزبائن، يشتغلن كنادلات أو يعرضن خدماتهن للراغبين، فالحانات امتداد لنشاط العروض الجنسية أيضاً.
أحاديث متشعبة في طاولات الزبائن؛ البعض مستغرق في مستجّدات الساحة السياسية، وجماعة أخرى تستعيد أيام مضت، وواحد يبوح بهمّه، وهكذا دواليك.
تنبعث ايقاعات موسيقية مختلفة من الراي حتى الوهراني والمغربي والغربي. ورغم الصخب هناك من يستغرقون في الحديث بانفصال عن كلّ ما يجري حولهم. وقد وفّر البارُ مناخَ أمانٍ وجوّاً حميمياً. يحرص المشرف على البار على النظام والحفاظ على سمعة المحل، وضماناً لذلك هناك عناصر مكلفة بضبط الأمور.
كلّ بار تحمل هوية. فهناك حانات اقترنت بنوعية من يتردّدون عليها، فحملت تعبيراً فئوياً، وبعضها ملحق بمطاعم وفنادق وهي الحانات التي تستقطب عادة من ظهروا في فترة مدّ الأوليغارشية، ولقد راج تعبير عنهم هو "البقارة"، نسبة إلى البقر.
ميزة بار الفوندوم هي أنه تجاوز التصنيف، وبقي شعبياً، وفي نفس الوقت مغايراً لما التبس بالحانات الشعبية، و هو ما يجعله من أفضل البارات الموجودة في وهران.
في البار مخبرٌ من مخابر رؤية الذات الجمعية بكلّ تناقضاتها؛ فالسّكارى ينطلقون أحياناً ليفصحوا عمّا ظل محجوزاً، كما أنه تحضر التركيبة التي تبدو مستغربة، فالبعض يشرب ويردّد "ربي يعفو علينا"، طالباً من الله تخليصه من الإدمان. ومن الوقائع الدالة على ذلك ما وقع ذات مرّة إذ سبّ أحدُ السكارى الذات الإلهية فثار مالكُ البار، وطرده قائلا: لا تكفر في محلّي.
ذلك معطى جدير بالاعتبار من طرف من يريدون تمثُّل الحقائق بعيداً عن القولبة التنميطية؛ حقائق مجتمع لا زال يحمل تناغم ناسوتيّته مع اللاهوت، ولا يعيش الانفصام الذي نجم عن موجة التديّن التسليعي الذي اكتسح الشارعَ في السنوات الأخيرة.
ويتحسر بعض الكبار على ضياع نكهة "أيام زمان"، فمجالس الشرب لها "إتيكات"ها و"بروتوكولات"ها، وجلسة الشرب كانت محكومة بجملة قواعد متّفق عليها، في طريقة الشرب والجلوس، وأيضا ما يعبّر عنه بـ"القطعة"، أي بعض أصناف الأكل التي تناسب صنف المشروب، ما يُعرف بـ"المازة".
ورغم كلّ ما طرأ، ورغم افتقاد بهاء ما مضى، تستمرّ وهران منتجة للبهاء، ويستمر بارٌ مثل الفوندوم محافظاً على بروتوكول مجالس السُّكر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون