يفاجئنا العرض المسرحي الإيرلندي "شجرة الزيتون"، بقدرته على جعل فلسطين حكاية من حكايات الواقعية السحرية. قُدّم العرض ضمن فعاليات "مهرجان المسرح الأوربي في بيروت"، من كتابة وأداء كايتي أوكيللي، وإخراج دافي كيلهر.
المفاجئ هو قدرة النص على استنباط عناصر المدرسة الفنية، أي الواقعية السحرية، من مشاهدات، صور، وحكايات نراها عن فلسطين يومياً، وقد رأتها كاتبة النص عند زيارتها لفلسطين، لتلهمها حكاية المسرحية، فتختار الواقعية السحرية لتكون الإطار الفني، السردي، والمسرحي لرواية أحداث من تاريخ الحدث الفلسطيني ومن يومياته المعاصرة.
ملصق لمقاطعة البضائع الإسرائيلية
تعاني الموظفة كايتي التي تعمل في سلسلة "تيسكو" في دبلن-إيرلندا من عذابات العمل كمحاسبة في السوبرماركت الضخمة. يبدأ العرض وهي تلقي أمام جمهور المسرح الكليشيهات الإعلانية التي تمر عبر سماعات المحل، وعبارات الكليشيه التي يقولها الموظفون للزبائن: "أهلاً بكم، في تيسكو نؤمن لكم أفضل البضائع.. إلخ". على المسرح وفوق سجادة حمراء ليس إلا، تؤدي الممثلة كاتي أوكيللي حركات إيمائية تعبر فيها عن مهمتها في تمرير البضائع على سكانر المحاسبة، حتى يمر بين يديها منتج زيت الزيتون ملصق عليه ورقة المقاطعة للبضائع الإسرائيلية.
يأمرها المدير بأن تنزع مباشرة ورقة مقاطعة البضائع الإسرائيلية عن المنتج، قبل أن يتنبه إليها الزبون، وبينما هي تفكر بإبقاء الملصق أو نزعه، يحدث ما لم يكن متوقعاً، يخلو المكان التجاري فجأة من الزبائن والعاملين، وتنتصب أمامها شجرة الزيتون الفلسطينية التاريخية في السوبرماركت، تجد الموظفة نفسها وحيدة أمام شجرة زيتون ضخمة، عملاقة الأذرع وضاربة الجذور على الأرض الرخامية للمحل. توصف كايتي المشهد:
"لا أحد يرى هذه الشجرة الضخمة غيري، عجزت تماماً عن الحركة حين ظهرت أمامي، كنت تماماً في حالة صدمة، خصوصاً عندما بدأت الشجرة بالتحدث إليّ"، كان الغبار يملأ المكان حين بدأت الشجرة التي تملك وجهاً تشبه فيه الشخصيات الكرتونية، بتوجيه الحديث إلى كايتي، تقول الشجرة: "صوتي قادم من خيالك".
شجرة الزيتون الفلسطينية الفانتازية
تسأل الشجرة ذات الـ200 عام، كايتي عن مكان تواجدهما، فتجيب الموظفة أنهما في يوم ماطر في مدينة دبلن. تدعوها الشجرة للصعود إلى أغصانها، وحالما تهم كايتي للقيام بذلك، تطل على عالم مختلف: مساحات من الأراضي الممتدة، وبيوت متراصة جانب بعضها البعض، من على غصن الشجرة تطل على الأرض الفلسطينية، ومن خلال الشجرة عبرت إلى الأراضي الفلسطينية دون المرور بالمطارات والحواجز الإسرائيلية، كأن الدخول إلى فلسطين وزيارتها يتطلب ضرباً من فانتازيا الواقعية السحرية.
تجد كايتي نفسها في منزل فلسطيني، حيث شجر البرتقال، وامرأة عجوز جالسة للحياكة، تكثر من حولها الزهور والنباتات، تخبرها الشجرة بأن اسم المرأة العجوز هو بدرة، وأنها راوية حكايات، تقول كايتي في وصف اللحظة: "كل شيء تحول إلى الأبيض والأسود، كأننا في صورة تراثية فوتوغرافية"، بعد قليل تظهر طفلة تحمل برتقالة، يبدو أنها حفيدة بدرة، وأمام عيني كايتي، ترفع الجدة عن عنقها مفتاحاً: "يشبه مفاتيح الحدائق السرية في الحكايات العجائبية"، وتنقله من عنقها لتضعه حول رقبة الحفيدة، إنها الوصية أو استمرارية الحكاية، التي يرمز لها هنا بمفتاح ينتقل من عنق الجدة إلى عنق الصغيرة.
رداَ على العقوبات التي يتعرض لها الفنانون الأوربيون المتعاطفون مع حملة مقاطعة البضائع الفلسطينية، تقدم الإيرلندية كايتي أوكيللي بعداً أخلاقياً وإنسانياً للمقاطعة في مسرحيتها "شجرة الزيتون"
عسكري في المنزل التراثي
من هذا العالم المثالي حيث المنزل المليء بالأزهار والبرتقال، وحيث الجدة التي تروي الحكايات، تستعمل الحفيدة المفتاح الذي حصلت عليه للتو من جدتها لفتح إحدى غرف الدار، لتتغير العوالم تماماً في الداخل، ستجد رجلاً بملابس عسكرية في الغرفة، يقترب من الطفلة ويمسك شعرها، يضرب العسكري رأس الطفلة بالجدار. يصعق المشهد المتلصصة كايتي التي تطلب المساعدة من الشجرة العجائبية، لكن الشجرة عاجزة عن إنقاذ الطفلة. إنه التراث الثقافي الذي وقع بين يدي الاحتلال فأصبح يشابه رأس طفلة صغيرة مضروباً إلى الحائط ومدمى.
تتمكن الطفلة من الخلاص من قبضة العسكري، تلحق بها كايتي وهي خارجة من المنزل، ينفتح عالم الحكاية على مدينة بشوارع مليئة بالسيارات، ومارة مطأطئي الرؤوس، لم يعد بالإمكان الخروج من هذه الحكاية والعودة إلى دبلن، تلحق كايتي الطفلة بين الأماكن لتصل خلفها إلى مخيم.
هكذا يسمح أسلوب الواقعية السحرية بالانتقال بين عالم وآخر، من أحداث التجربة الفلسطينية وتاريخها. المخيم هو مكان اختارته كاتبة المسرحية ليكون أحد أماكن الحدث في مسرحيتها، رغبة في رواية النزوح والهجرة الفلسطينية القسرية، تكتشف كايتي أن والد الطفلة قد مات، وأن مصير الهجرة واللجوء فرض كحتمية على حياة العائلة.
الغناء في وجه الجرافة
تملك الشجرة العملاقة التي ظهرت القدرةَ على نقل كايتي من حكاية إلى أخرى من تفاصيل حياة المجتمع الفلسطيني، تحملها إلى منزل أقل تراثية من سابقه، منزل معاصر، حيث الغرف جديدة والأطفال يشاهدون التلفاز. بدايةً، لا تدرك كايتي الغاية من وجودها هنا، لكن ارتجاجات تبدأ في المكان، ويشرع الأطفال بالبكاء، لتكتشف أن بلدوزراً ضخماً يقوم بأعمال تهديم المنزل على رؤوس القاطنين، ومن جديد تظهر الجدة بدرة، تقف أمام الجرافة في محاولة لإيقاف عملها، لا تملك الجدة سلاحاً إلا الغناء، في مشهد جميل تصف الممثلة كايتي تلك اللحظة حيث البلدوزر المعدني الضخم يتقدم بينما تفتح بدرة يديها أمامه وتنطلق بترانيم الغناء، وكأن الترنيم يمتلك تلك القدرة السحرية على تغيير القدر. لكن الهدم يستمر، تحول الجرافة منزل الأطفال إلى ورق، وتحل محله كومة من الرمل، تقول الممثلة كايتي: "لست البطلة في هذه الحكاية، لا يمكنني تغيير ما يحدث، أريد العودة إلى دبلن، فهذه ليست قضيتي".
بعد أن تنطق كاتي هذه العبارة، ندرك من تغير الإضاءة ومن الأداء التمثيلي أن بطلة المسرحية ماثلة في تحقيق الجمارك الإسرائيلية، صوت الشرطي الإسرائيلي نسمعه في المسرح، بينما تجيب بذعر: "أبداً، أبداً، لست إرهابية، كنت في السوبرماركت. لماذا تأخذون هاتفي؟"، وهي إشارة إلى ما يخضع له الخارج أو الداخل إلى الأراضي الفلسطينية في غرف تحقيق الجمارك الإسرائيلية.
لم يعد بالإمكان الخروج من الحكاية
لا تتمكن كايتي من العودة إلى بلدها، تبقى عالقة في الأراضي الفلسطينية، وتتعرف إلى حسن، الشاب الفلسطيني الذي يعمل في مجال الزجاج، يبهرها بهذه الصنعة التقليدية التي تحول الرمل في نار الفرن إلى سائل ملون متوهج، ما يلبث أن يستخرج منها زجاجاً تُرسم عليه المنمنمات الفنية، تصفها كايتي بأنها تمتد على كامل مشغل حسن، من الأرض إلى الجدران ثم الأسقف. وصف جميل لعوالم هذه المهنة الفنية والتقنية في الآن عينه. تكتشف كايتي أن حسن مجروح، فقد أصيبت ساقه برصاصة.
يقودها حسن إلى سطح بناء معمل الزجاج، يطلعها على المدينة الممتدة أمام ناظريهما، يروي لها عن طفولته، عن ذكرياته بين أحياء المدينة، وعن أول جثة رآها في حياته، كان زميله أحمد في المدرسة قد تحمس في أحداث الانتفاضة الفلسطينية، وبينما كان يحمل حجراً ليلقيه، أصابته رصاصة في صدره وقتل. ليست الحكاية الاستثنائية هنا إلا اعتياد الطفولة الفلسطينية على رؤية الجثث، تجربة التعرف على الموت منذ الصغر، هو ما يدهش كايتي التي تقارن بين طفولتها وطفولة حسن. يقول حسن: "الإسرائيليون يريدون التحكم في أذهاننا".
امرأة حامل على الحاجز السادي
المشهد الأخير في المسرحية، عايشته كاتي أوكيللي بنفسها عند زيارتها للأراضي الفلسطينية، السيارات طوابير عند الحاجز الإسرائيلي، الجنود يوقفون سيارة للتفتيش البطيء، في السيارة رجل أجبروه الركوع على ركبتيه، الأهم هو وجود امرأة حامل، كان زوجها يقودها إلى المشفى للولادة. نوع من السادية في تصرفات الجيش الإسرائيلي على الحاجز تصفها كايتي: الجنود غير آبهين بآلام المرأة التي يظهر انتفاخ بطنها قرب ولادتها، العسكر الإسرائيلي كانوا يمنعون السيارة من متابعة طريقها إلى المستشفى. يعلق حسن على هذه الحادثة: "إن مجرد الوجود هو مقاومة".
تنتهي المسرحية ببلدوز يقطع شجرة الزيتون التي ظهرت لكايتي في بداية المسرحية وقادتها إلى كل هذه العوالم الفانتازية. تعود الموظفة كايتي لتعي نفسها في السوبرماركت، وهي تفكر هل تنزع لصاقة ورقة مقاطعة البضائع الإسرائيلية؟ أم تبقيها كما يطلب منها مدير السوبرماركت قبل أن يراها الزبون؟ تفكر قليلاً، تسترجع ذكريات من الحكايات التي اكتشفتها برحلة فانتازية مع الشجرة، ثم تقول للجمهور: "لا يكفي الوجود للمقاومة، بل علينا أن نفعل شيئاً"، ثم بحركة تمرد على إدارة السوبرماركت، تبقي ورقة المقاطعة على المنتج الإسرائيلي لتنبه الزبائن على منشئه. إنها حركة أخيرة، خيار واعي تتخذه موظفة السوبرماركت وهي تبين أن مجرد الوجود لم يعد يكفي، بل تشعر بالالتزام تجاه الحكاية الفلسطينية بفعل ما.
عرض مونودراما كثيف بحكاياته، يستعرض أمام المتلقي مشاهدات من التاريخ والحياة اليومية الفلسطينية، بنص مكتوب بدقة ليحقق عناصر أسلوب الواقعية السحرية، ينتقل بين بهجة الشخصيات الكرتونية وآلام التجربة الفلسطينية. تقول الكاتبة والمؤدية كاتي أوكيللي: "أغلب حكايات العرض استقيتها من مشاهداتي عند زيارة الأراضي الفلسطينية، حيث أمضيت أسبوعين دفعاني لاتخاذ القرار بكتابة وتحقيق هذه المسرحية".
وعند سؤالها عن سبب اختيارها القضية الفلسطينية للحديث عنها، أجابت: "أردت أن أخبر بما رأيته، أخبر القصص التي توصف التجربة وتجعل منها عملاً درامياً وعرضاً مسرحياً. شعرت أن القضية والمعاناة الفلسطينية تحتاج منا كل العون. يجب أن ننشر الكلمات والحكايات عن فلسطين".
وفي الحديث اللاحق على العرض مع الفنانة، أشارت المسرحية حنان الحاج علي إلى العقوبات التي يتعرض لها الفنانون الأوربيون المتعاطفون مع حملة مقاطعة البضائع الفلسطينية، فأجابات كايتي أوكيللي بأنها تشجع المقاطعة: "المقاطعة هامة، والمسرح يجب أن يؤثر في الناس ويدفعهم للتساؤل. حلمي أن أقدم هذا العرض في فلسطين".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...