من حيفا، انطلق يوم الجمعة، العشرون من أيلول/ سبتمبر 2019، "معرض فتّوش للكتاب" والذي ينظّمه مقهى ومطعم وغاليري ومتجر فتّوش، للسنة الثالثة على التوالي، إلّا أن هذه المرة كان المعرض "ناقصاً" بعض الشيء، وذلك بعد أن اتخذت الجهات الإسرائيلية قرار منع شحنةٍ من الكتب القادمة من بيروت برّاً عبر الأردن، من دخول حيفا.
"فتّوش" والذي تأسس عام 1999، لم ينوِ صاحبه، وديع شحبرات، أن يكون مقهى ومطعماً فقط، علماً أنه كأوّل مقهى فلسطيني يُفتتح في "حيّ الألمانية" في حيفا قام بدوره في تشكيل فضاءٍ عامٍ يجتمع فيه الفلسطينيون والفلسطينيات، في وقت غياب فضاءات تحتضنهم آنذاك. فعلى مدار السنوات تطوّر المقهى ليحوي متجراً لبيع الكتب والمنتجات اليدوية، ومن ثم توسّع أكثر ليؤسس فرعاً إضافياً في ميناء حيفا، يحتوي على غاليري فنون في غياب الغاليريهات الفلسطينية في المدينة، فمنذ تأسيسه كان فتّوش نموذجاً للمحلات التجارية المنخرطة في الفعل الثقافي للفلسطينيين في الداخل الفلسطيني كلّه، وليس فقط في حيفا.
"فتّوش" هو أوّل مقهى فلسطيني يُفتتح في "حيّ الألمانية" في حيفا قام بدوره في تشكيل فضاءٍ عامٍ يجتمع فيه الفلسطينيون
كان هاجس المديرة الثقافية لفتّوش، الشاعرة الفلسطينية أسماء عزايزة، بتأسيس معرض كتابٍ يُحضر إلى حيفا آلاف العناوين من دور النشر العربية، فتحوّل مع الوقت إلى حدثٍ ثقافي أساسي، ليس فقط في مدينة حيفا، إنما في الداخل الفلسطيني كلّه، "يجذب إلى أبوابه جمهوراً واسعاً من مختلف المناطق الجغرافية والأعمال والخلفيات" احتفاءً بالكتب والقراءة، ومسلطاً الضوء على الكتّاب وإصداراتهم الجديدة، والأهم، هو إعادة ربط حيفا مع محيطها العربي، مع مصر والخليج وتونس والمغرب والعراق ولبنان وغيرها من البلاد، من خلال الكتب.
لكن هذا العام، قرّرت إسرائيل أن تأخذ إجراءاتٍ استناداً إلى قانون من فترة الانتداب البريطاني، وهو قانون "التجارة مع العدوّ" والذي سُنّ عام 1939، حيث منعت شحنةً من الكتب الصادرة في بيروت من الوصول إلى حيفا. رداً على ذلك، أطلق معرض فتّوش حملة بعنوان "رجّعولنا الكتب"، وقد أصدر القائمون على المعرض بياناً للصحافة، جاء فيه: " نرى أن هذا القانون يمسّ بحقّنا في العمل وفي اختيار حصّةٍ كبيرة من الكتب التي تأتينا من عواصم كانت ولا زالت مركزية في إنتاج موروثنا الأدبي والثقافي العربي. كما يمسّ بحقّ جمهور متجر فتوش ومعرض فتوش للكتاب والفلسطينيين بعامّة، بالمعرفة والقراءة ومتابعة الإنتاج الفكري والمعرفي والأدبي والأكاديمي الذي يصدّره فضاؤهم العربي إلى العالم، ويمنعهم من التواصل مع هذا الفضاء كامتدادٍ طبيعي لتاريخهم وحاضرهم الثقافي الشامل".
سلخ ممنهج للفلسطيني عن ثقافته العربية
في حديثٍ خاص لرصيف22، مع المديرة الثقافية لمتجر فتّوش، الشاعرة أسماء عزايزة، قالت: "المشهد مضحك، لأن نفس دور النشر التي مُنع جزء من كتبها من الدخول إلى حيفا، لدينا كتب أخرى منها في المعرض. هنالك سخافة في القانون، لكن رغم هذا "الهَبَل"، نحن لا نستخف بالأمر، لأن هذا المنع هو جزء من سلخٍ ممنهج ومستمر للفلسطينيين عن فضائهم العربي وعن ثقافتهم العربية، والذي يعتبر بأن كل من ينتمي إلى هذه الثقافة هو "عدو". السلخ ليس فقط عن محيطنا العربي، إنما عن العالم أيضاً، لأن نسبة كبيرة من هذه الكتب هي ترجمات من العالم للعربية، والتي تتُرجم أيضاً من قبل الإسرائيليين إلى العبرية".
وتتابع أسماء: "القانون يفيد بأنها تجارة مع العدوّ لأن مصدرها بيروت، فبالنسبة لإسرائيل فهي صدرت في دولة عدو وممنوع أن تدخل إلى حيفا. هدفنا من الحملة التي أطلقناها هي توعية الجمهور على هذا القانون، بأن نحكي قصتنا وقصة المنع والحصار المفروض علينا… بمعنى، المعرض ليس فقط دعوة لشراء الكتب والأكل والشرب، إنما يجب أن نتحدى جميعنا هذا المنع، كما أن هدفنا خلق تضامن حول القضية، آملين أن يستمر هذا التضامن ويصل إلى خطوة احتجاجية لإلغاء القانون. ما من خطةٍ واضحةٍ لدينا، لكن نتمنى أن يصبح لدينا حراكاً جماهيرياً وإعلامياً ليشكّل التفافاً حول القضية كي نستطيع أن نفعل شيئاً ما سوية في المستقبل".
قرّرت إسرائيل أن تأخذ إجراءاتٍ استناداً إلى قانون "التجارة مع العدوّ" من فترة الانتداب البريطاني، والذي سُنّ عام 1939، حيث منعت شحنةً من الكتب الصادرة في بيروت من الوصول إلى حيفا
يعيد بناء "معرض فتّوش للكتاب" جسر التواصل بين حيفا والعواصم العربية من خلال الكتب التي يحضرها سنوياً إلى المدينة. محاولاً أن يعيد للكتاب العربي قيمته، بعد سنوات من محاولة إسرائيل سلخ علاقة الفلسطيني مع لغته وثقافته
قانون "منع التجارة مع العدوّ" الانتدابي سُنّ عام 1939
إبّان الحرب العالمية الثانية، سنّ البريطانيون قانون "منع التجارة مع العدوّ" عام 1939، وطبّقوا القانون على كافة البلاد التي تقبع تحت الانتداب البريطاني. جاء القانون آنذاك لمنع كل أنواع التجارة مع النازية. وبعد النكبة، قامت إسرائيل بتبني القوانين الانتدابية ومن بينها هذا القانون، مع التعريف أن "العدوّ" هو الدول العربية. منذ ذلك الوقت، لم يُبطل القانون. اليوم في العام 2019 نتحدث عن منع استيراد كتب استناداً إلى قانون سُنّ فترة الانتداب البريطاني، أواخر ثلاثينيات القرن الماضي.
في حديثٍ خاص مع المحامية الفلسطينية سوسن زهر، من "عدالة - المركز القانوني لحقوق الأقلية العربية في إسرائيل"، قالت لرصيف22: "على الرغم من أن القانون الإسرائيلي تطوّر، القانون الدولي تطوّر أيضاً، والذي يُلزم التواصل الاجتماعي والثقافي بين الأقليات وعالمهم الأوسع، كما أنه يتحدث على ضرورة المحافظة على التواصل بين الأقليات وشعوبهم في أي مكان بالعالم، وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وقيام الأمم المتحدة والمصادقة على اتفاقيات حقوق الإنسان، كلّ هذا تطوّر باتجاه احترام الأقليات، خاصة بما يتعلق بالتواصل الاجتماعي والثقافي، لكن في إسرائيل، ما زال القانون ساري المفعول حتّى يومنا هذا".
قوانين إسرائيلية ترى في الفلسطيني عدوّاً
الحظر على الكتب ليس جديداً، ففي عام 2009 مُنعت "مكتبة كل شيء" في حيفا من تجديد الرخصة وإحضار كتب من لبنان وسوريا، وقام مركز "عدالة" آنذاك بتقديم التماس إلى محكمة العدل العليا الإسرائيلية حول هذه القضية، لكن قبل أن يصل الالتماس للمحكمة، تراجعت دولة إسرائيل، أي وزارة التجارة والصناعة فيها، عن قرارها، وسمحت للمكتبة بإدخال الكتب عن طريق الأردن، لكن بلا قرار محكمةٍ مُلزم.
عن هذا، أضافت زهر: "أحياناً نقدّم التماساً للمحكمة والدولة تتراجع، لأنها غير راغبة بإعلان قرار ملزم كي تحافظ الدولة على تطبيق استثناءات ما. هنالك سخرية في القضية، وشيء غير مفهوم واعتباطي، من ناحية، يدخل جزء من الكتب، ومن ناحية ثانية الكتب متوفّرة على الإنترنت وهنالك إمكانية الوصول إليها، فالمعنى الجوهري لمنع الكتب من الدخول غير موجود. فاحتمالاتنا بالتوجه إلى المحكمة، هي عالية، لكن لا يمكن ذلك بلا وعي جماهيري ومطالبة جماهيرية واضحة تضغط لإلغاء القانون".
وتتابع زهر: "على الرغم من أننا نتحدث عن قانون صدر عام 1939، لكن يمكن القول إن الأمر ليس جديداً علينا، لأن كل القوانين والأجواء السياسية في إسرائيل تضع الفلسطيني كعدوّ، والقانون سارٍ بتعريفنا نحن الفلسطينيين كعدوّ اليوم، مثل قوانين النكبة والمقاطعة ولمّ الشمل… وفقاً للقانون الإسرائيلي، فإن هناك آلاف القوانين التي تجسّد فكرة أن العدوّ هو الفلسطيني. حتى لو القانون الدولي اليوم يحاول أن يقضي على ظاهرة التمييز العنصري ضد مجموعات معينة، إلّا أن إسرائيل اليوم ما زالت مستمرة في تطبيق قانون كأننا ما زلنا في الحرب العالمية الثانية".
إعادة ربط حيفا بالإسكندرية والرباط وبغداد
يعيد بناء "معرض فتّوش للكتاب" جسر التواصل بين حيفا والإسكندرية والرباط وبغداد وبيروت، وذلك من خلال الكتب التي يحضرها سنوياً إلى المدينة. معرض يُغامر بالعناوين التي يُحضرها، محاولاً أن يعيد للكتاب الجيّد قيمته، بعد سنوات من محاولة إسرائيل سلخ علاقة الفلسطيني مع لغته وثقافته وكتابه، محاولة متجسدة بالأساس في منهاج تعليمي قادر أحياناً أن يُكرّه الطالب بلغته العربية بالدرجة الأولى.
إن أهمية "معرض فتّوش للكتاب"، هو وجوده في ظلّ المعارض في الداخل الفلسطيني، عن هذا تضيف أسماء عزايزة: "ما من مكتبات كثيرة، لا في قرانا ولا في مدننا، الناس تنتظر المعرض من عامٍ إلى آخر، واقع حيفا إزاء الكتب ليس مثل بيروت، بوجود احتمال أن أكون جالسة في مقهى وأسمع عن كتاب صدر حديثاً فأمرُّ على المكتبة لأتناوله… نحن مثل القابعين في السجن، ننتظر زيارة الأهل كي يحضروا لنا الملابس والكتب مرةً كلّ عام".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون