تستحقّ المجموعة القصصية "ملخص ما جرى" للكاتبة السورية رشا عباس، التوقف عندها كتجربةٍ متميزةٍ في الإنتاج الأدبي السوري المعاصر، من حيث اطلاع الكاتبة على تقنيات الفن القصصي، البحث عن قصص مركبة من حيث البنية وأسلوب السرد.
لا تسعى الكاتبة للربط بين نصوصها وبين الحدث السياسي والاجتماعي السوري الحالي، بقدر ما تسعى إلى تجريب تقنيات السرد القصصي، وبناء عوالم ذهنية ونفسية خاصة، بحثاً عن الجمالية والمعاني المركبة. أغلب عناوين القصص طويلة، ما يوحي باهتمامٍ مركز في اختيارها، أغلب القصص بلا أسماء شخصيات أو حتى أسماء رواة، كما أن أغلب الأماكن مطلقة، نادراً ما تشير المؤلفة إلى أسماء المدن التي تجري فيها الأحداث.
شخصيات أنثوية استثنائية
في القصة الأولى (الوقوع أرضاً بتهذيب بالغ)، تستلهم المؤلفة لعبة الروليت الروسي لتجعل منها تقنية في السرد، فالقصة تتألف من ست فقرات، كل فقرة هي رصاصة. من الرصاصة الأولى حتى السادسة يتكوّن النص: "ولكن. أية براعة أن تحشو مخزن المسدس بطلقة واحدة، وتوجهه نحو رأسك مختبراً حظك؟ المدهش حقاً هو أن تدع الرصاصات الست تقتلك كلها"، النصوص الستة هي الدقائق الست الأخيرة من حياة فتاةٍ تعيش مع والدتها في دمشق، ستقدم على الانتحار في آخر النص.
ما تركز عليه القصة هي طبيعة الحياة التي تعيشها الفتاة في عزلتها، حيث لا يثيرها أي من المواد المقدَّمة في التلفزيون، تغرق في عالم الرسوم المتحركة "الهنتاي" داخل عالم غرائبي من الموسيقى العالية، أصص نباتات تزرع فيها رأس مقطوعة، ودمى معصوبة العينين بعصابات سوداء تحيط بها في كل مكان في الغرفة. في هذه القصة قدرة حقيقية على رسم تفاصيل عالم فتاة مبني على خياراتها، لكنه يتداعى من شدّة العزلة. تطلب الفتاة المنتحرة من والدتها أن تسقي بالدماء السائلة من رأسها أصيص النباتات على الشباك.
ما كتبه الناشر في تقديم المجموعة: "في قصص المجموعة نلتقي بأشخاص يعيشون في مدنٍ تحت القصف، ونلتقط التفاصيل الدموية التي لا نجاة منها". ينطبق بدقة على القصة الثانية بعنوان (إرشادات السباحة على الظهر مع قذيفة شيلكا)، حيث الراوية التي عاشت كليلة النظر طوال ماضيها، تجرب الآن اكتشاف المدينة من حولها بعد وضع النظارات.
النظارات هنا تكشف الرؤية عن مقدار الخراب والدمار الذي حل بالمدينة: "كان كل ما حصلت عليه هو مشاهد واضحة للغاية للقذائف الحمراء المتوهجة ليلاً، والمُطلة من سفح الجبل الذي تكشفه شرفتنا المرتفعة، إلى منطقة لا أعرفها، أو طائرات الهيلكوبتر العسكرية في الصباح الباكر التي تحلق ببطء متوجهة إلى أحياء أخرى"، تروي أيضاً القصة عن القمع، حيث حكاية الصبي ابن اللحام الذي حرق صوراً للرئيس فاختفى، وها هي الرواية تصطحبه إلى المسبح عند أطراف المدينة للغوص تحت الماء معاً، بما أن الكل معرض للموت بقذيفة بأية لحظة، فالراوية تجد أن تلقي القذيفة تحت الماء يخفف من أثر القلق. إنها قصة عن قدرة رؤية ما حل بالمدينة من الخراب والدمار.
في قصة (تستطيع أن تدعوني مخمل)، تعود الكاتبة إلى براعة خلق شخصية أنثوية استثنائية. القصة عبارة عن خواطر شخصية أنثوية في أطوار مختلفة من عمرها. "مخمل" شخصية متمرّدة تعاني من نبذ المجتمع لها كونها مختلفة المظهر، الوشوم تملأ جلدها، تعيش على هامش المجتمع مع المسوخ من أشباهها، على حد تعبيرها.
الغاية من القصة هي رسم شخصية امرأة مختلفة، هامشية، متمردة، تقول مخمل حين يطلب منها عابر سبيل خدمات جنسية: "أنا لا أعمل في البغاء كما ظننت، لكنني أحب هذه الملابس وحسب. رغم أنني أشعر بالإطراء لسؤالك ما إذا كنت أقدم خدمات جنسية، واحترم وحدتك، ولكن، للأسف كل ما أستطيع فعله هو أن أحكي قصتي".
في القصة الأولى من "ملخص ما جرى" للكاتبة السورية رشا عباس وهي بعنوان "الوقوع أرضاً بتهذيب بالغ"، تستلهم المؤلفة لعبة الروليت الروسي لتجعل منها تقنية في السرد، فالقصة تتألف من ست فقرات، كل فقرة هي رصاصة
من قصة تتبع في سردها لعبة الروليت الروسي بـ"رصاصة" في كل فقرة، إلى مهاجر يجرّب المخدرات لأول مرة، ثم قصة شخصية تملأ جلدها الوشوم، ومدينة توقف فيها الزمن... إطلالة على مجموعة "ملخص ما جرى" للكاتبة السورية رشا عباس
نساء في حال الفقد
في (نيجاتيف لصورة فوتوغرافية مع أخي)، أيضاً عن مدينة تعيش حرباً، حيث الراوية أخت تفتقد أخيها المساق إلى المعركة، هي تشكك بحزن والديها على الأخ، فبينما نتعرف في العادة على مشاعر الأم أو الأب في حال الفقد، تضيء لنا القصة مشاعر الأخوة، ففي هذا النص وحدها الأخت تعاني من آثار الفقد لأخيها.
قصة (ثلاث أغنيات لجورجيوس) هي أيضاً ترصد عوالم أنثوية في حال الانتظار أو الفقد. الأغنيات الثلاث هي أدعية، نقرأ نصاً مكوناً من ثلاثة أدعية: دعاء امرأة تأمل بالإنجاب، ودعاء امرأة هربت من قريتها وفقدت من تنتظره وتدعو لجورجيوس أو الخضر للتعجيل بعودته: "عبرت صدر الجبل، هربنا من القرية. وقالوا لي ألا أجزع، لأنهم سيجلبونه مع القادمين بعدنا. جاء القادمون كلهم، ولم يأت".
لعبة زوجية على حاجز عسكري
مع (دنس) يأخذ اللعب بالسرد منحى آخر، تجري الحكاية على حاجز بين بيروت والشام، مع امرأة تحاول الوصول إلى زوجها الذي ينتظرها، يتحقق العسكر على الحاجز من هويتها المكسورة: "عندما أكون حسنة المزاج، كنت أتبع تقنية واحدة للتخلص من إزعاجهم. أنزل من السيارة أمام عسكر الحواجز، أريهم ما أرتدي مستنكرة أن أتهم بالاصطفاف مع ثورة الإرهاب وقطع الرؤوس"، لكن مع الوصول النص إلى خاتمته نكتشف أن كل الحكاية هي لعبة بينها وبين زوجها: "نستعين على قضاء الوقت في ظل انقطاع الكهرباء بتمثيلية، ستكون اليوم وسيماً قذراً، يحرس حاجزاً أمنياً، وسأكون امرأة عابرة بوجه نظيف وبطاقة هوية مكسورة"، يحوّل السرد من تفاصيل الحكاية لعبةً بين زوجين.
الهجرة بين الفراغ والمخدرات
في قصتي (جودو) و(الخوذة الزرقاء) محاولة لرصد عوالم الهجرة. في (جودو) مهاجرة 25 سنة، تعمل في مخبز، تنتظر حصول أمها على تأشيرة السفر للالتحاق بها، لا تذكر المؤلفة اسم بلد الهجرة، فالحكاية تصلح لأية مهاجرة تعيش أوقاتها في عزلة: "دخلت إلى موقع لقراءة الطالع عبر التاروت"، وتعتقد أن عليها المواظبة على رياضة الجودو لقضاء وقتها، لكن التعبير الأمثل عن جوانيات المهاجرة هي حكايتها مع شخصٍ متوحدٍ يظهر لها من شرفة البناء المقابل لمسكنها.
تطور المهاجرة مشاعر عاطفية تجاهه من العطف والحنو، تعتقد أنها تفهم حال توحده، وتقتحم منزله للقائه والحديث معه، وحين تدخل غرفته تكتشف أنه ليس إلا شالاً أحمر معلق على مشجب، لكنها تستمر في البحث عنه إيماناً منها بحتمية وجوده. هي حكاية مهاجرة معزولة تبتكر حكاية تفرغ فيها عواطفها، تبتكر علاقة عاطفية وهمية، حيث شخصية متخيلة غير موجودة تحتاج منها العناية والحنو.
(الخوذة الزرقاء) هي أيضاً عن حكاية مهاجر يجرب للمرة الأولى تأثير المخدرات، يصبح النص وصفاً لهلوسة أو لتأثير المخدر على الراوي، هو يخشى الذهاب إلى المشفى لأنه مهاجر، خوفاً من الانتقادات التي تطاله، وتنتهي تجربة المخدر بأن تقوده إلى الموت.
صورة الكاتبة
متاهة تسجن صانعها، ومدينة خارج الزمن
قصة (جملة أفكار غير فعالة لقضاء الوقت)، توحي من عنوانها أنها حكاية عن الفراغ، تصمم فيها أنثى مسافرة متاهةً لتزجية الوقت، لكن هذه المتاهة تصبح بتصميمها سؤالاً فلسفياً، فتتوسع المتاهة من على الورقة إلى العالم المحيط من حولها، ورغم أن المسافرة لا تتواصل مع الركاب وزملاء الرحلة، إلا أنهم يستبعدونها من الباص، متلمسين خطراً قد يتولد منها، ربما تمكنوا من معرفة أفكارها الداخلية وهي تعمل على تصميم المتاهة. هي حكاية تذكّر بجماليات قصص بورخيس، الذي كتب أيضاً قصة عن متاهة طلب الملك مينوس من المهندس ديدالوس أن يصممها بعناية، ليحبس بها فيما بعد، فتصبح المتاهة سجناً لصانعها.
تحضر العوالم الفانتازية لبورخيس في أكثر من قصة في المجموعة، أوضحها في (الساعة السابعة من يوم أمس)، تصل الرواية إلى مدينة حيث الزمن متوقف فيها، المدينة ملجأ للأشخاص المنبوذين من دائرة الحياة، منهم ممثلة مشهورة ذوى جمالها، طبيب عُزل من مهنته بسبب تجاربه العلمية. يصبح محك اختبار الكتابة في هذه القصة هو قدرة المؤلفة على ابتكار عالم فانتازي قادر على وصف مدينة توقف فيها الزمن.
فتى معتقل في زنزانة، وجنين مسخ داخل رحم
(في سجن مصر)، يدخل فتى إلى الزنزانة، توحي نضارته وملاحته، حيث يحمل وجه أمه الجميل، بأنه سيتعرّض للاعتداء الجنسي من قبل السجناء: "ثبتني على الجدار، وأمسك وجهي بيده الخشنة متمعناً فيه، كنت أسمع عما يحدث في السجن للفتيان من عمري"، لكنه لا يلبث أن يكتشف أن السجناء يروون فيه نبياً أو مُرسلاً قابلوه سابقاً في أحلامهم، وبينما اعتقد أنهم سيعتدون عليه، فهم يرون به نبياً ومخلصاً، يروي السجناء للفتى الجديد أحلامهم، وعندما يسوق السجان الفتى للتعذيب، يحاول السجناء إقناع السجان بتعذيبهم بدلاً عنه. قصة لمّاحة عن حال السجناء الذهني والنفسي، وأحلامهم وآمالهم بانتظار الخلاص.
نعود إلى العوالم النسوية في (دائرة سوداء على شاشة الفحص)، يعيش القارئ اللحظات العصيبة لأنثى تكتشف أنها حامل، وبينما تحاول إخفاء الأمر عمن حولها، تُلقي بأداة فحص الحمل في المرحاض، فيطوف ماء المرحاض على كامل الشقة، ومن ثم على كامل البناء والمدينة، كناية عن العار الذي تشعر به المرأة من الحبل من علاقة عاطفية، بذلك يتحول الجنين إلى دائرة سوداء على شاشة الفحص عند الطبيب، يتحول إلى مسخ بداخل جسد بطلة القصة التي ترغب التخلص منه: "هذا المسخ سيبقى مرتاحاً في الداخل. أظن أنه يتثاءب الآن كريهاً ودبقاً".
مدن الخراب الذهنية
أخيراً، نختار الحديث عن قصة (يوم عدت إلى الخراب) لأهميتها في تناول تجربة الحياة في مدن الخراب والحرب. تهرب امرأة من مدينتها التي تعيش الحرب، بمساعدة إدارة جريدةٍ عالمية، تطلب منها إدلاء شهادتها عن الحرب لصفحاتها، لكن البطلة تتهرّب ثم لا تلبث أن تطلب من مجموعة أطفال أن يساعدوها في العودة إلى مدينتها الأصلية، فتجد مقدار الدمار قد ازداد فيها، منزلها تهدم، فارق جميع أفراد عائلتها الحياة، وحين تحاول العودة إلى عملها في التلفزيون مجدداً، تكتشف أنها ليست إلا نزيلة في مشفى للأمراض العقلية، يحاول الأطباء إقناعها بضرورة الهرب لأن صفارات الإنذارات انطلقت والقصف على مدينة المستشفى قد بدأ.
هذا التداخل بين الأماكن في الحكاية، يوحي باستحالة الفرار من العنف والحرب، فكلما وصلت بطلة الحكاية إلى مدينة جديدة، ينكشف لها أنها مازالت في مدينتها، أو يمكن القول كلما حاولت البطلة الانتقال من مكان إلى آخر هرباً من الحرب، وجدت آثار الحرب في انتظارها، سواء في دمار الحرب من حولها، أو في دواخلها الذهنية التي يسودها الدمار.
نبذة عن رشا عباس: قاصة، وكاتبة سورية، صدر لها في القصة: "آدم يكره التلفزيون" (2008)، "كيف تم اختراع اللغة الألمانية" (2016، هاينرش بول، باللغة الألمانية والعربية). وفي مجال المقالات: "الفن والثقافة من الجبهة: على أمل أن تتحدث سورية أكثر" (2014).
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...