لماذا نزل اللبنانيون إلى الشارع؟ هذا السؤال إجابته من أبسط ما يكون: بطالة، فقر، عملة وطنية تتهاوى، مستقبل مجهول... وكل هذا في بلد يردد أبناؤه أن السلطة فاسدة، أي أنها تحرمهم من حقوقهم لتُراكم ثروات البلد المنهوبة بيد قلة قليلة، وتقوم فوق كل ذلك بالتخطيط لفرض ضرائب جديدة ترهقهم.
اقتراح فرض ضريبة على مكالمات الواتساب فَعَل فعله شعبياً، ليس بسبب فكرة الضريبة نفسها، هي التي أتت ضمن مجموعة اقتراحات ضريبية، بل بسبب وقاحة منطق فرضها وبسبب قدرتها على تلخيص نظرة الحكومة للإصلاح الاقتصادي، والتي تقوم على إرهاق الناس بالضرائب بدون الأخذ بعين الاعتبار ضرورة العدالة الضريبية وبدون التمييز بين غني وفقير. والأنكى أن كل هذه الاقتراحات الضريبية تأتي في ظل غياب أية سياسة جدية لوقف "مزاريب" الفساد الكبرى التي يحرم بعضها الخزينة من مليارات الدولارات سنوياً ويهدر مليارات أخرى تُجبى من جيوب الناس.
"ثورة ثورة"، و"الشعب يريد إسقاط النظام"، هتف المتظاهرون في وسط بيروت وفي معظم المناطق اللبنانية جنوباً وشمالاً. الفيديوهات المنتشرة لتحركات الغاضبين تتضمن شتائم موجهة بالاسم إلى معظم المسؤولين، وصور "الزعماء" أسقطت وأحرقت في أكثر من مكان بل داست أقدام المنتفضين عليها.
كل هذه المشاهد تدعو إلى التفاؤل بأن اللبنانيين خرجوا إلى الشوارع كشعب مسحوق عرف أخيراً أن ما يعاني منه تقع مسؤوليته على جميع المسؤولين والأحزاب المشاركة في السلطة، من مختلف الانتماءات الطائفية، الجميع بدون استثناء.
ولكن هذا التفاؤل حذر وينبغي أن يكون حذراً جداً، فهناك مشاهدات أخرى مصوّرة وغير مصوّرة تدفع إلى قراءة أهدأ لتحديد أفق التحركات. فكل المشاهد المذكورة أعلاه أبطالها بضعة عشرات أو بضعة مئات كحد أقصى، ما يعني أن استخلاص مناخات عامة منها فيه تعسّف. وفي مقابلها هناك استعراضات لمجموعة من الوجوه الإعلامية ووجوه السوشال ميديا الحزبية تنظّر لتوجيه الغضب بعيداً عن بعض مكوّنات السلطة.
جولة سريعة على كتابات هؤلاء على السوشال ميديا وعلى الفيديوهات التي نشرها بعضهم من مشاركاتهم الميدانية تؤكد ذلك. يظهر "نجم" يدعو رئيس الجمهورية إلى اعتقال كل الطبقة السياسية بغرض تبرئة التيار الوطني الحر من المسؤولية عن الأزمات التي يعيشها البلد، وتظهر بين المتظاهرين مجموعات "تتمنّى" على الهاتفين ألا يهتفوا ضد حزب الله لأنه غير مسؤول عن وضع البلد، هو الذي يشارك في البرلمان منذ عام 1992 وفي الحكومة منذ عام 2005، وهو الذي كان له القرار الأول في تحديد شكل الحكومة الحالية.
أجل، يجب إسقاط الحكومة حتى ولو كان رئيسها سعد الحريري هو الحلقة الأضعف فيها. رمزياً هذا المطلب ضروري. ولكن ماذا بعد؟ هل يقف الغضب هنا؟ هل يُكتفى بكبش فداء لا يغيّر خروجه من المشهد أي شيء؟
القوى السياسية مسؤولة بالتكافل والتضامن، وبدون استثناء، عمّا آل الحال إليه، وكلها متواطئة في تدبيج "برامج إصلاحية" كاذبة لإرضاء المانحين الدوليين بدون أية خطوة فعلية لإصلاح حقيقي.
كل القوى السياسية التي تشارك في السلطة الآن والتي شاركت في الماضي مسؤولة بلا استثناء لأن وجودها نفسه قائم على استمرارية دوامة الفساد التي جنت وتجني منها مداخيل غير مشروعة لتعود وتوزّع بعض فتاتها على محابيها المرتبطين بها عبر شبكة من الزبائنية، على شكل وظائف في القطاع العام أو خدمات عينية أو تغطية على مخالفات ومصالح اقتصادية محلية تديرها مافيات، فيما حرمت أصحاب الكفاءات العصاميين من أية فرصة للعيش الكريم.
أجل. كل شيء في لبنان رُكّب بطريقة عبثية وصار ينبغي هدمه وإعادة بنائه.
موانع التغيير
ما يحدد أفق الحراك اللبناني هو مدى خلع اللبنانيين، ولو لمرة واحدة، عباءتهم الطائفية التي يحتمي تحتها "زعماء" الطوائف. ثقافة الاستثناء التي تقول إن الكل فاسدين ما عدا "زعيم طائفتي" هي ما يمنع التغيير في لبنان، وهي ما تعوّل عليه السلطة دائماً لحرف مطالب الناس عن وجهتها المطلوبة، وتسمح لها بالاستثمار في غضبهم وجني المكاسب منه.
وما يحدده هو مدى انتشار الوعي العام بأن حرمان الناس من حقوقهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية لا يميّز كثيراً بينهم بحسب انتماءاتهم الطائفية أو المناطقية. التمييز الوحيد بين اللبنانيين هو تمييز طبقي يسمح باستفادة أقل من 1% يتوزعون على كل مساحة لبنان من وجع الـ99% الباقين.
"كل القوى السياسية التي تشارك في السلطة الآن والتي شاركت في الماضي مسؤولة بلا استثناء عن تدهور أوضاع اللبنانيين لأن وجودها نفسه قائم على استمرارية دوامة الفساد التي جنت وتجني منها مداخيل غير مشروعة لتعود وتوزّع بعض فتاتها على محابيها"
"ما يحدد أفق الحراك اللبناني هو مدى خلع اللبنانيين، ولو لمرة واحدة، عباءتهم الطائفية التي يحتمي تحتها ‘زعماء’ الطوائف. ثقافة الاستثناء التي تقول إن الكل فاسدين ما عدا ‘زعيم طائفتي’ هي ما يمنع التغيير في لبنان"
على الأرض، نفس السيناريو يتكرر منذ سنوات طويلة. تبدأ الحراكات بدون قيادة وتتنوّع طبيعة المشاركين فيها مع سيطرة المدنيين على خطاب مطالبها. وعندما يتخطى حجم المشاركين الـ10 آلاف شخص في بيروت، ينقلب المشهد وتتحكم قوى السلطة بتوجهات الغاضبين وتحرف غضبهم عن استهدافها بالجملة كسلطة مسؤولة بكل مكوناتها الطائفية عن تدهور وضع البلد.
وحتى آليات ذلك يمكن التنبؤ بها. عندما يكون عدد المشاركين بضعة آلاف، يتفلّتون من سيطرة أحزاب السلطة على تحركاتهم. وفور زيادة هذا العدد، تتحمس فجأة بعض "الأحزاب العلمانية" التي لا تصلح سوى للذكر في كتب التاريخ للمشاركة وترسل إلى الميدان عناصرها لـ"يتبرّع" بعضهم بتنظيم مسارات التظاهرات وخطوط سير المتظاهرين، أي لضبط إيقاع الحركة الاعتراضية، وليحمل آخرون مكبرات صوت تُعلي صوتهم فوق صوت جموع الغاضبين.
وحين تعجز هذه "الأحزاب العلمانية" عن أداء المهمة المطلوبة منها، يشارك فجأة متظاهرون يفتعلون إشكالات مع بعض مَن لا تعجبهم هتافاتهم، ليكرهوا الناس بالمشاركة وبالتغيير.
ما العمل؟
إلى أي حدّ تغيّر وعي اللبنانيين بشكل يمنع سرقة تعبيرهم عن ألمهم؟ كثيرون ملوا من كل الطبقة السياسية ويعبّرون عن ذلك في كل مناسبة.
ولكن في ميادين الاحتجاجات، تقل فاعلية الجماعات المدنية التي تحمل خطابات نقدية للسلطة جمعاء بكل مكوّناتها لأنها عبارة عن أفراد ومجموعات شبابية صغيرة غير منظمة. هؤلاء دائماً يسرق تحركاتهم حَمَلة المكبرات الصوتية.
إلا أن النجاح غير مستحيل. الآن، لو أرادت الأقلية المدنية أن تساهم في إنجاح الانتفاضة، يمكنها أن "تنفّس" أنواتها المتضخمة، وأن تسارع إلى خلق آلية تنظيمية بسيطة أساسها: مدّ التحركات بمكبرات صوتية ومنحها للمتظاهرين كي يبقى صوتهم غير المنضبط وغير الموجَّه هو الأعلى، وتشكيل مجموعات متطوعين تتألف كل منها من عشرة أشخاص لا تقوم سوى بالسير في التظاهرات ومنع "انضباط" الأحزاب من ضبط إيقاعها والتحكم في سيرها.
قد يكون هذا صعباً في المناطق، إذ تستطيع قوى السلطة بسهولة إرسال أزلامها ليقطعوا الطرقات بالإطارات المشتعلة ويرددوا ما يريدونه من مطالب توجّه غضب الناس بعيداً عنها. ولكن في بيروت هذا ممكن جداً.
ليكن الصوت للناس، والشارع للناس، علّ السلطة تستحي وتُفسح المجال لمَن يمكن أن ينقذ البلد. المطلوب ليس حض الناس على ترديد خطاب معيّن. المطلوب تأمين الظروف ليقولوا ما يريدون قوله بحرية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 19 ساعةجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 3 أياممقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ أسبوعمقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ أسبوععزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ اسبوعينلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعيناخيرا مقال مهم يمس هموم حقيقيه للإنسان العربي ، شكرا جزيلا للكاتبه.