بعد الأمسية التي أحيتها مؤخراً المغنية السورية "سناء بركات" في المركز الوطني للفنون البصرية بدمشق، وتضمنت أغنيات من التراث السرياني المديني وليس الديني، تكثَّفت الأسئلة لدي عن جذور الأغنية السريانية، وكيف تخلَّصت من تبعيَّتها للتراتيل المسيحية والطقوس الليتورجية الكنسية التي التصقت بها؟ وأيهما الأسبق والأشمل؟ ومن أثَّر في الآخر؟ وهل فَصْلُ الدّين عن الأغنية السريانية خصَّبها أم حَدَّ من قدرتها على التطور؟
المعلومات التاريخية تقول أنّ الغناء السرياني، كسيرورة، ارتبط بالإنسان الآرامي الأول الذي كان يُغنِّي علاقته بالأرض والآخر، وعلاقته بالخالق ومخلوقاته، لدرجة دفعت الباحث جوزيف ملكي للتأكيد بأن جذور الأغنية السريانية تعود إلى زمن الميثولوجيا (عهد الأساطير القديمة)، إذ قال في كتابه "الغناء السرياني من سومر إلى زالين" (زالين هي القامشلي حالياً مع بعض الامتدادات في الأراضي التركية):
"تبدو تلك الجذور واضحة في ملحمة جلجامش، وأوروبا الفينيقية، وعشتار وأدونيس وأنليل، وغيرها، عابرةً سومر وآكاد (4500 ق.م)، وكنَّارتهما الذهبية، وسلَّمهم الموسيقي الشرقي، مروراً ببابل (2000 ق.م) وآشور (1000 ق.م)، وكنعان وآرام، والعهد الهلنستي، وصولاً إلى صدر المسيحية، والعصور العربية وحتى وقتنا الحاضر. تؤيد ذلك المنظومات التي وجدت على الآجر في خرائب نينوى الأثرية وفي أور".
قيثارة سومرية وسلم موسيقي سرياني
وأضاف: "جلجامش كأعظم الملاحم الشعرية المغنّاة وغير المقفّاة التي عرفتها البشرية، أبدعها الشعب الأكادي في وادي الرافدين، وردَّدها في صلواته واحتفالاته بمصاحبة الآلات، ثم أخذت تلك الملحمة تتطور لغةً ونغماً خلال عشرات القرون وصولاً إلى اكتشاف الأبجدية المقطعية المسمارية، وجلجامش كتبت بالأكادية التي جاءت السريانية امتداداً لها"، ليأتي الموسيقار السرياني "كبرئيل أسعد" في كتابه "الموسيقى السورية" فيؤكد أن الألحان السريانية بُنيت على القيثارة السومرية التاريخية الخالدة، ذات الأوتار السبعة، قائلاً: "لقد تم وضع السلم الموسيقي السرياني السوري التاريخي، والعائد لشعبي سومر وآكاد المملكتين المتحدتين، من الألحان الثمانية، التي باتت تُستعمل في الكنيسة السريانية الأنطاكية."
احتكارها للسَّماء
إذن، الموسيقى السريانية حجر زاوية في الألحان الكنسية، فكيف استطاعت الأغنية السريانية أن تحافظ على بقائها، رغم أسر الليتورجيا وجماليات التراتيل التي تخلب الألباب؟
تذكر العديد من الدراسات والأبحاث الموسيقية أنه عند مجيء المسيحية ودخول الوثنيين في الدين الجديد، وبسبب كون السريان (الآراميين) قوم ملتصقون بالعبادة وتأدية الفرائض الدينية على الأنغام والأغاني الروحية، فإن كثيراً من الألحان والأغنيات التي كانت تنشد في المعابد الوثنية والعبرية دخلت الكنائس وصارت جزءاً من ألحانها.
ويضيف الباحث والموسيقار السرياني "نوري اسكندر" أنه "خلال القرن الأول والثاني والثالث الميلادي بدأ بعض رجال الدين بوضع نصوص جديدة للصلوات والتراتيل بألحان جديدة، ومنهم "برديصان" (222 م) وهو أستاذ في الفلسفة وشاعر موهوب، ألَّف 150 ترنيمة مُقلِّداً فيها مزامير النبي داوود، وكان موسيقياً بارعاً التف شباب الرّها حول فرقته الموسيقية مشاركين في الغناء والرقص والخمر واللهو، وكانت مضامين معظم هذه الأناشيد مخالفة لمفاهيم الإيمان المسيحي "القويم"، بحسب بعض رجال الدين الذين اختلف معهم دينياً وفلسفياً، فنبذوه هو وابنه "هورمونيوس" الذي كان مثل أبيه شاعراً وموسيقياً ساحراً.
ثم جاء القديس مار أفرام عام 373 م الذي مدح ألحان برديصان، لكنه قام بوضع ترانيم وأناشيد جديدة على تلك الألحان، كما ألّف ألحاناً جديدة ساحرة، وشكَّل فرقة كورال من بنات الرها لتقدم هذه التراتيل الجديدة في صلوات الصباح والمساء والقداس والأعياد، وهكذا استطاع جذب وإعادة معظم الشباب إلى الكنيسة".
أي أن الألحان السريانية بقيت كما هي، لكن المواضيع الحياتية المتعلقة بالحب والغزل والعمل والوطن وما إلى هنالك، تم نبذها وتحقيرها، والانتقال من مسامرة المخلوقات إلى تبجيل الخالق فقط، واحتكار روحانية الموسيقى السريانية للسماء، بغض النظر عن الأرض والسائرين عليها، لكن ذلك لم يمنع الأغنية السريانية المدينية من المحافظة على خصوصيتها، ولو بعيداً عن المتن، إذ ثابر محبوها على إثرائها بالأشعار والألحان الخاصة التي جُمِعَ معظمها في كتاب حمل عنوان "بيث كاز" أي "خزانة الألحان"، والتي تم استخدامها من قبل المسلمين بعد دخولهم من شبه الجزيرة إلى بلاد الشام، بحسب الباحث جوزيف ملكي، واضعين لها مفردات عربية على قَدِّها، فكانت القدود الحلبية وغيرها.
عند مجيء المسيحية ودخول السريان في الدين الجديد، وبسبب كونهم ملتصقون بالعبادة وتأدية الفرائض الدينية على الأنغام والأغاني الروحية، فإن كثيراً من الألحان والأغنيات التي كانت تنشد في المعابد الوثنية والعبرية دخلت الكنائس وصارت جزءاً من ألحانها
"آمين" و"هاليلويا" كلمتان كانتا تردّدان أمام الإله إيل قبل ستة آلاف عام في بلاد السريان، ولا تزالان ترددان اليوم حول العالم في سياقات دينية مختلفة
شعر العالم سوريُّ الأصل
الموسيقار السرياني إدوار شمعون يشير في دراسة له إلى أن أشعاراً في العالم من حيث الإيقاع والبحور استمدت من الجذور السورية السريانية، ويعلل ذلك بقوله: "الموسيقى السريانية انطلقت من سوريا مغناة كلمةً ولحناً، ولما استقلت أشعار الأمم الأخرى عن المواضيع الدينية نحو التعبير عن مواضيع إنسانية أخرى، استمرت على منوال نظمها السوري السرياني، بدليل أن الإنسان في العالم كله يردد آمين وهاليلويا اللتين كانتا تردّدان أمام الإله إيل قبل ستة آلاف عام في بلاد السريان".
مضيفاً أنه "بمقارنة عروضية سنجد أن البحر الشعري الإنكليزي الرباعي الحركات، ومثلها الزجلية السورية "هية لينا هية لينا" منظومة على البحر الرباعي السرياني، والبحر الإنكليزي الخماسي وأغنية "شفتك يا جفلة ع البيدر طالعة" تعودان إلى البحر الخماسي السرياني، وأيضاً البحر الإنكليزي السداسي والقرادي السباعي الفقراتْ لأغنية "جيب المجوز يا عبود رقص أم عيون السود"، والأهزوجة الزجلية "طلوا طلوا الصيادة وسلاحن يلمع يابا" كلّها مصاغة على الوزن السباعي السرياني، والبحر الفرنسي التساعي ومثله أغنية "يا وليف الزين يا أسمراني" مصاغتان على وزن التساعي السرياني.... واستمرت الألحان السريانية وأوزانها في الأغاني العربية الشعبية منها وغير الشعبية، وخصوصاً في بلاد الشام ومصر حتى وقتنا الحالي".
أغنيات تعكس مفهوم حياة
من تلك الأغنيات الشعبية ما جادت به حنجرة المغنية السورية سناء بركات في أمسيتها ضمن المركز الوطني للفنون البصرية، حيث قدَّمت تسعة أغنيات مدينية باللغة السريانية، متنوعة جداً في مناخاتها الموسيقية وإيقاعاتها ومواضيعها، التقيناها للحديث عن تجربتها مع هذا التراث الغنائي فقالت: "بدأت بالترنيم السرياني منذ صغري، لكن مع الوقت وبعد دراستي الأكاديمية أحسست أن من واجبي كموسيقية بالدرجة الأولى، وكسريانية من قرية زيدل الحمصية بالدرجة الثانية، أن أعرّف الناس على هذا التراث الذي يحتوي العديد من الألحان الشعبية بعيداً عن اللحن الكنسي، لذا بدأت العمل على هذا المشروع، وكنت أتقصد دائماً تقديم أغنية سريانية واحدة على الأقل في الحفلات الموسيقية التي أحييها، سواء في دمشق أو في باقي المحافظات، متمنيةً أن أكون جزءاً من المساهمين في إحياء هذا التراث".
ولكون هذه الأغنيات كانت تستخدم لدى شعوب ما بين النهرين في كافة المناسبات الاجتماعية، وتعكس عاداتهم وتقاليدهم ومفهومهم للحياة، فإنها بقيت تنتقل من جيل إلى آخر شفوياً، كما أوضحت "سناء"، حيث اعتاد الأهل غناء هذه الأغاني وتعليمها لأطفالهم لينقلوا معها تاريخ وحضارة وثقافة الشعب.
أغنية حديثة بعد الحرب
وتتفق "بركات" مع الباحث "راني الياس" بأن "الأغنية السريانية الحديثة ظهرت في القرن العشرين، مذ بدأت شعوب المنطقة تشعر بالاستقرار بعد الحرب العالمية الأولى، فبرزت الحاجة مجدداً لإعادة إحياء الأغنية الشعبية التي تعبر عن المشاعر والأفكار الدنيوية المستقلة عن الأناشيد الدينية التي سادت في القرون السابقة، فظهر العديد من الملحنين وكتاب الأغنية أمثال: نعوم فايق، فريدون أتورايا، حنا بطرس، أوائل القرن العشرين، ثم تابع كل من كبرئيل أسعد، ألبرت تمرز، وليم دانييل، دنحو دحو، نينوس آحو في منتصف القرن، تلاهم مارال أبروهوم لحدو، مورميس وإيوان أغاسي، أدور موسى، نوري إسكندر، جوزيف ملكي وغيرهم، في رغبتهم تطوير هذه الأغنية حتى يومنا".
وعن خصوصية الموسيقا السريانية، تقول "سناء": تتميز بنظام الألحان الثمانية، وكل لحن فيها مبني على جنس موسيقي معين، والجنس مؤلف إما من ثلاث درجات أو من أربع أو خمس درجات متتالية صعوداً أو هبوطاً، هذه الأجناس هي: البيات، السيكا، الراست، الحجاز، النهوند، الصبا، العجم، الكرد، موضحةً أن صيغة أو قالب الأغنية مرتبط بصيغة القالب الشعري الذي بنيت عليه، فهناك قالب أحادي وثنائي وثلاثي أو قالب السويت. وتضيف: كما تتميز الأغاني السريانية بالأوزان المتعددة والمرتبطة بأوزان الشعر السرياني، فإلى جانب الأوزان التقليدية الثنائي والثلاثي والرباعي، نجد العديد من الأوزان المعقدة مثل الخماسي والسباعي والوزن الأحد عشري، وهناك رقصة خاصة بكل وزن.
سنغني حتى الصباح
أما عن الاختلاف بين الموسيقا السريانية والعربية، تقول المغنية السورية: "في الموسيقا السريانية تعزف النوطات أعلى بـ"كوما" أو أكتر عن الموسيقا العربية، وهذا ما يشكِّل خصوصيتها اللحنية، والـ"كوما" تُشكِّل تسع البعد الكامل وتؤدي إلى اختلاف الطبوع والأجناس والعقود الموسيقية المكوَّنة"، وهو ما تحدث عنه الباحث الموسيقي "نوري اسكندر" بالقول: "جميع الألحان السريانية تحوي على مسافات موسيقية ميكروتونية "ثلاث أرباع التون" وإن وجودها وكيفية ورودها يعطي أجناس موسيقية تسمى بحسب النظريات الموسيقية الشرق أوسطية بـ: جنس بيات، راست، حجاز، الحسيني، الصبا. وكل جنس منها له لون سمعي وتأثير حسي معين يساعد على التنويع والتوسع في الجماليات الموسيقية والتعبير".
الأغنية السريانية تحوي كماً هائلاً من جماليات السهل الممتنع، فضلاً عن غناها بالدلالات والمضامين ذات العلاقة مع الروح الاجتماعية المميزة لشعوب منطقتنا، ولعل أفضل ما نختم به هذه الرحلة معها هو أن نُردِّد كلمات أهزوجة "زمرينا ورقدينا" التي تقول: "سنغني ونرقص حتى الصباح.. وسنرفع كأس المحبة عالياً.. طيور السماء شاهدةٌ على حبِّنا.. الذي سيبقى مكتوباً بدمنا، سنكون دائماً مع بعض حتى بعد الممات".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...