لطالما تغنّت الأغاني العربية بجمال الفتيات ذوات البشرة السمراء، وتغزلت آلاف القصائد بوصف جمال اللون الساحر، فصنعت لها حضوراً شاعرياً قوياً، ولربما كان لهذا تأثير على المجتمعات العربية، كتغيير الصورة النمطية المرسومة في أذهان البعض عن السمراوات اللواتي لا يحملن سوى جرعة زائدة من الميلانين في خلاياهن الجلدية.
وفي فلسطين يمثل أصحاب البشرة الداكنة جزءاً لا يتجزأ منها، ويتوزعون وفقاً للجغرافيا في كل من مدن الضفة الغربية، والأراضي المحتلة عام 1948، وقطاع غزة، والثابت هو تمسكهم بلونهم، كنقطة قوّة لتعزيز ثقافة الاختلاف، وإذابة الفوارق المجتمعية والعنصرية، وهذا بالفعل ما نجحت به نماذج من الفتيات السمراوات، اللواتي استطعن إحداث فارق في تبديل خوفهن لنقاط قوة.
جيهان زيدان
"اللون الأسمر مصدر إلهام"
"أم الجوج"، "أم سمرا"، بهذه الألقاب المحبَّبة تشتهر جيهان زيدان (30 عاماً)، مقيمة في مدينة القدس، وتعمل مراسلة صحافية لجريدة عربية.
تقول لرصيف22: "بالطبع لا يشكل لون بشرتي عائقاً أمام تقدمي في العمل أو الحياة بشكل عام، بل يبدو لي مصدر إلهام، يدفعني للتقدم مجتازة جميع العقبات، بهدف تغيير النظرة النمطية المأخوذة عن أصحاب البشرة السمراء، والتي بدت تتلاشى لأنهم فرضوا وجودهم بقوة، بفضل نجاحاتهم المتكررة وروحهم المرحة التي سهّلت اندماجهم في المجتمع تحديداً مع أصحاب البشرة البيضاء".
لا تجد جيهان حرجاً فيمن يداعبها بألقاب تشير للون جلدها، كونها تتميز بامتلاكها حضوراً ملفتاً أينما تحل، في المناسبات الوطنية أو الاجتماعية، والمؤتمرات التي تشارك فيها برفقة صديقاتها ذوات البشرة البيضاء، التي تمازحهن مراراً بقولها: "أنا نجمة المكان"، وهذا ما بناه فيها لون بشرتها المختلف، بحسب تصريحاتها.
"أمازح ذوات البشرة البيضاء في المؤتمرات، وأقول: أنا نجمة المكان".
لكن وفق جيهان، لا يمكن وصف ما يعيشه أصحاب البشرة السمراء في المجتمع الفلسطيني بالحياة المثالية، وفي بعض الأحيان قد يواجه البعض منهم عنصرية لكن لا يمكن وصفها بالحالة العامة، فمثلاً لم يعد مصطلح العبيد منتشراً كما السابق في المجتمع، كما أنها تشير إلى أن طبيعة الحياة التي يعيشها المجتمع الفلسطيني، كونه صاحب همّ وقضية واحدة، تتطلب منه أن يكون متكاتفاً، ومتقبلاً للآخرين، لا سيما أن لهم باعاً طويلاً في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي.
"طبيعة الحياة التي يعيشها المجتمع الفلسطيني، كونه صاحب همّ وقضية واحدة، تتطلب منه أن يكون متكاتفاً ومتقبلاً للآخرين، لا سيما أن لهم باعاً طويلاً في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي"
"لم أعان طيلة حياتي من لون بشرتي الداكن بل يشعرني بالتميز، والفضل يعود لنشأتي في بيئة محمية ومثقفة، حتى أني تزوجت بشاب وسيم من مدينة الناصرة وأنجبنا طفلي "حبيب" الذي يمتلك من اسمه نصيباً"
وتذكر أنه قد يعتري الخوف والقلق بعض أصحاب البشرة السمراء عند انتقالهم من مرحلة معينة إلى أخرى، وهذا بالضبط ما حدث معها في بداية دراستها الجامعية، قبل أن تحطّ قدميها في جامعة "بيرزيت"، حيث درست الإعلام، سيطر عليها هاجس كبير جعلها تتساءل: كيف تتصرف إذا لم يتقبلها أصدقاؤها وشعرت أنها منبوذة؟ فهي الطالبة السمراء الوحيدة في الجامعة آنذاك، ولكن عند دخولها أول يوم دراسي لها تبددت مخاوفها، فسرعان ما شكلت بيئة جيدة مع طلاب\ات جامعتها حتى بات بعضهم من أعز أصدقائها المقربين لها حتى هذا الوقت.
كما تسعى أن تكون أول مذيعة تظهر على شاشات التلفاز الفلسطينية من ذوات البشرة السمراء، وتطمح لدراسة الماجستير والدكتوراه مستقبلاً.
ماريا ميغيل
"وين ياكوشي"
بالانتقال الى مدينة حيفا الفلسطينية، حيث تعيش ماريا ميغيل (50 عاماً)، وهي ناشطة مجتمعية، مزجت بشرتها بين اللونين الأبيض الذي أخذته عن والدتها الحيفاوية، واللون الأسمر الذي أخذته عن والدها الإفريقي من بلد "غينيا بيساو".
كبرت ماريا في منزل فلسطيني عربي دافئ يسوده التفاهم والألفة والمحبة، جمع بين جدرانه أعظم شخصين بالنسبة لها، وهما والداها اللذان لم تلمس قط أي من أوجه العنصرية بينهما، فكانا التربة الخصبة التي أثمرت بذرة قوية، بحسب حديثها لرصيف22.
يقولون: "إذا أردت أن تميّز أماً ذكية فاستمع كيف تشرح موضوعاً حساساً لطفلها"، وهذا بالضبط ما قامت به والدة ماريا، شارحة لها قصة الاختلاف في ألوان البشر الجلدية، إثر تعرضها لموقف وهي في الثالثة من عمرها شكل لديها صدمة، حين كانت تسير برفقة والدها بالشارع، وقام إسرائيلي بمناداته: "وين ياكوشي".
"شو يعني أبوي كوشي"، فأنا لا أرى فيه سوى صورة، وهي "إنه أبوي يعني أبوي مش أي شي ثاني"، سألت ماريا والدتها، فأجابتها بقصة مفادها "أنَّ شأن الله في الخلق جعل لكل منا لوناً مختلفاً عن الآخر، كما اختلاف الورود لنعطي للحياة رونقاً جميلاً بعيداً عن الرتابة"، وحينها أدركت معنى الاختلاف في اللون.
تقول ماريا: "لم أعان طيلة حياتي من لون بشرتي الداكن بل يشعرني بالتميز، والفضل يعود لنشأتي في بيئة محمية ومثقفة، حتى أني تزوجت بشاب وسيم من مدينة الناصرة وأنجبنا طفلي "حبيب" الذي يمتلك من اسمه نصيباً".
وتؤكد ماريا أن شخصية الفرد هي من تفرض على المجتمع تقبله ورسم طريقه، فالطبيعة البشرية عادة ما ترسم لمن تراه مختلفاً، صورة ذهنية معينة تتباين من شخص لآخر وفق ثقافته، بغض النظر عن جوهر الاختلاف.
تسير ماريا في تربية طفلها حبيب وفق المنهج الذي تربت عليه في بيت عائلتها، حتى في أول يوم مدرسي له قامت المدرسة بالاحتفال باليوم الإفريقي، لتعريف الطلاب بطقوس الإفريقيين من حيث العادات والتقاليد لتعريف الطلاب، مثلما حدث معها في صغرها.
وتتابع ماريا مبتسمة: "رغم أني بدينة وشعري مجعد إلا أني متصالحة مع ذاتي وأحب مظهري كذلك يحبني طلابي، وأقوم دائماً بالأنشطة المجتمعية ما يجعل علاقاتي المجتمعية قوية مع الجميع".
هناء أبو معيلق
تاريخ "اللون الأسمر" في فلسطين
ووفق بحث لمؤسسة الرؤيا الفلسطينية بعنوان "الناظر"، ذكر فيه أن أصحاب البشرة السمراء جاؤوا فلسطين مع بداية الفتوحات الإسلامية، حتى باتوا من سكانها، ويشكلون نسباً متفاوتة: في طولكرم يشكلون ما نسبته 70% من سكان المنطقة، وفي الخليل، تحديداً جنوبها، يشكلون عدداً لا بأس به، أما أصحاب البشرة السمراء الذين يسكنون بيت المقدس فيرجح أنهم جاؤوا مع نهاية القرن التاسع العشر وبداية القرن العشرين، من أربع دول وهي تشاد، نيجريا، السودان، والسنغال، تحديداً من قبائل السلامات، البرنو، التكروري، الفيراوي، الحوسي،البرجو، الكلمبو، والفلاتة.
ووفق ما توصلت إليه نتائج الدراسة أن سبب قدومهم لفلسطين هو اعتقادهم أن يوم القيامة سيكون في بيت المقدس، وكثير منهم جاؤوا من بلاد الحجاز للقدس بعد أن أنهوا فريضة الحج، وهناك مجموعة منهم جاؤوا أثناء اندلاع نكبة العام 1948.
أما في قطاع غزة فيتمركزون بكثرة في مدينة خان يونس، في حي " الغرارة"، حيث يشكلون ما نسبته 70%.
"لا أجد أن لون بشرتي الداكن يقيّدني، أضع مساحيق التجميل كما يحلو لي، وأرتدي الملابس زاهية الألوان، وأتابع كل هو جديد في تسريحات الشعر". هكذا وصفت حياتها هناء أبو معيلق (30 عاماً) ذات بشرة سمراء، تعيش في دير البلح وسط قطاع غزة، وتعمل مدربة رياضية لذوي الإعاقة في كرة السلة.
"اللون الداكن لبشرتي لا يقيدني، أضع مساحيق التجميل، وأرتدي الملابس الزاهية، وأتابع الجديد في تسريحات الشعر".
لا تشكل صبغة جلد هناء أي معيار قد يؤثر على سير حياتها، سواء على صعيد العمل أو تكوين الصداقات، وحتى نظرة المجتمع لها ككل، متحدية التابوهات المجتمعية التي تحصر المرأة في دور اجتماعي معين بسبب لونها أو جنسها، خاصة أنها تعمل في مهنة تبدو للبعض حكراً على الذكور دون الإناث.
تقول: "تربطنا علاقة ودودة مع الجيران المختلفين عنا بلون البشرة في غزة، نتشارك كافة المناسبات في الأفراح والأحزان، ونأكل معهم من طبق واحد، ولا أبالغ حين أقول إن غزة أفضل من كثير من المجتمعات الأوروبية المتطورة والتي تسودها التفرقة العنصرية".
وتنبه أنها تتعرّض أحياناً لمضايقات من قبل فئات في المجتمع تحديداً، ليس بسبب لون بشرتها، لكن قد يكون لتحديها العادات والتقاليد، مثلاً كارتدائها الزيّ الرياضي عند الخروج من المنزل، وشغفها الرياضي.
تشير هناء أن لون البشرة لا يعيق صاحبه عن النجاح، ونجد أن هناك مشهورين وناجحين من هذه الفئة سواء في فلسطين وخارجها من الدول الأخرى، وهذا مناقض تماماً لما صورته الأشكال السينمائية القديمة التي كانت تحصر أصحاب البشرة السمراء في مشاهد مهينة مثلاً، كالبواب والخادم، أو ترسمه في صورة مخيفة ترعب المتلقّي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...