خرجت في الفترة الماضية تظاهرات كبيرة في شرق السودان، وخاصة في مدينة كسلا، رفعت مطلب حق تقرير المصير للإقليم، في أول مطالبات بالانفصال عن السودان في ظل الحكومة الانتقالية التي تضع على رأس أولوياتها ملف السلام وإنهاء الصراعات المسلحة، بعد الإطاحة بنظام البشير.
تُجمع القوى المؤثرة في شرق السودان على وجود تهميش حاد للمنطقة من حكومات السودان المتعاقبة، بدون استثناء حكومة عبد الله حمدوك الجديدة، إلا أنها تختلف حول المطالبة بحق تقرير المصير.
فهذا المطلب يرفعه بعض الناشطين مثل محمد عمر طاهر، القيادي السابق في مؤتمر البجا، والجبهة الشعبية المتحدة للتحرير والعدالة، وآخرون أقل تأثيراً.
في المقابل، هناك قوى وجبهات أخرى ترفض الانفصال وتدعو إلى دعم حكومة حمدوك، بينما يمثل "مؤتمر البجا"، الكتلة الأكبر في الإقليم، أغلبية صامتة لا تدعم تقرير المصير وفي الوقت ذاته تنتظر ما ستقدمه الخرطوم للمنطقة.
"أرض البجا"
"أرض البجا". بهذه الكلمة وصف محمد خير، الباحث المختص بتاريخ وتراث قبائل البجا، منطقة شرق السودان، مبيناً أن البجاويين لا يفضلون مصطلح الشرق لأنه مجرد تسمية جغرافية.
ويتكون شعب البجا من 6 قبائل، أو نظارات، كبرى هي الحباب والبشاريين والهدندوة والأمرار والحلنقة والبني عامر، وأضيفت لها نظارات جديدة مثل الرشايدة والمكوكية.
وتمتد أرض البجا من حلايب وشلاتين في جنوب مصر حتى مصوع في إريتريا جنوباً وبعض أجزاء سنار غرباً، في ما كان يسمى بـ"السودان الشرقي"، وفي السودان يتمركزون في ولايات البحر الأحمر وكسلا والجضارف.
وأكد خير لرصيف22 أن البجا يتحدرون من أصول عربية وقدموا من شبة الجزيرة العربية، ويتحدثون لغتين أساسيتين، هما التجري والبداويت، والتجري تتحدثها قبيلة البني عامر، وبرغم اعتبار البعض أنها لغة منفصلة إلا أن معظم تركيباتها عربية فصحى ولكن بعضها لا يستخدمها العرب حالياً، وهي اللغة الرسمية في إريتريا حالياً، بينما تتحدث قبائل الحباب والهدندوة والبشاريين لغة البداويت.
وأضاف الباحث أن ثاني مميزات شعبه هو الزي، إذ يرتدون الجلباب وفوقه السديري ذي الأكمام الطويلة، ومعه "سماديت"، وهي قطعة قماش طولها من 5-6 أمتار تُلف حول الجسد، ويمتشقون سلاح البجاوي وهو السيف والرمح، و"الشوتال"، وهو نوع من الخناجر شكّل رمزاً للبجا ولـ"الأورطة الشرقية" التي كونها أبناء الشرق كأول جيش سوداني منظم، في بداية القرن العشرين، و"الدرجة"، وهي أحد أنواع الدروع.
وتطرق خير إلى عادات البجا في الزواج، فبعض بطون البني عامر تشترط ألا تأخذ زوجتك إلى منزلك إلا بعد سنة من الزواج، وعامة تقدَّم للعروس "كلالات"، وهو حلق كبير، و"الحجل"، وهي أسوِرة توضع في القدمين واليدين، ومهر من رؤوس البقر. وفي الزفاف تتحرك "السورة"، وهي قطيع من الجمال والأبقار المحملة بالمواد الغذائية. وفي أول ليلة، تفرّ العروس من زوجها وتطيل أظافرها لتجرحه وإذا لم تفعل تعيّرها صاحباتها.
وبيّن الباحث البجاوي أن البجا لا يحبون البحر والعمل فيه، ولا حتى أكل السمك، إلا قليلاً، رغم كونه مجتمعاً ساحلياً، ويعتمدون على المواشي والرعي والزراعة.
كما تحدث عن أن البجا يقرعون الطبول في ثلاث مناسبات هي الوفاة والزفاف والحرب، وكل مناسبة لها نغمة مختلفة.
النضال المسلح
ظهر البجا كمكون سياسي عام 1957، باسم "مؤتمر البجا"، وهو حزب سياسي طالب بإعطاء الإقليم حقوقه في الخدمات والمشاركة بنسب ثابتة في حكومة الخرطوم، وحصد 11 مقعداً في أول انتخابات نيابية في البلاد، وحظر بعدها مرتين في عهدي الفريق إبراهيم عبود وجعفر النميري، ثم شارك في تأسيس التجمع الوطني الديمقراطي الذي تشكل ضد حكم البشير عام 1993، وقام بأعمال مسلحة ضده، ثم انسحب منه وشكل مع تجمعات أخرى جبهة الشرق التي وقعت اتفاق سلام مع الحكومة السودانية عام 2006.
وقال كاظم محمد، أحد قيادات اللجنة المركزية لمؤتمر البجا، إن قواتهم أثناء النضال ضد البشير اتخذت من إريتريا قاعدة أساسية لها، وهناك تدرّبت على مختلف أنواع الأسلحة بمشاركة معظم قوى المعارضة وكان معهم كثير من الوجوه البارزة مثل مريم الصادق المهدي، وقاموا بعمليات قطع لخطوط النفط والسيطرة على مناطق على الحدود الإريترية السودانية.
وأكد محمد لرصيف22 أن المؤتمر اختلف لاحقاً مع الحكومة الإريترية ما دفعه إلى ترك ميدان القتال، وبعد توقيع اتفاق السلام عام 2006 صار العديد من وجوهه البارزين جزءاً من النظام، مثل موسى محمد أحمد، مساعد البشير.
مؤيدو الانفصال ورافضوه
"مطالب مؤتمر البجا في عام 1957 لم تنفّذ إلى اليوم". بهذه الكلمات وصف ياسر الطيب، رئيس الجبهة الشعبية المتحدة للتحرير والعدالة، أسباب مطالبة حركته بإعطاء الإقليم حق تقرير المصير، مبيناً أن النخب الشمالية الحالية تهمش شرق السودان ولا تعطي أبناءه حقهم في حكم وإدارة منطقتهم، عدا بتمثيل رمزي.
واتهم الطيب المركز بنهب ثروات الشرق من ذهب وبترول ورخام وحديد وعائدات ميناء بورسودان وأراضي زراعية في دلتا نهر طوكر دون أن يستفيد سكانه بشيء من هذا، مضيفاً لرصيف22 أن الجبهة تطالب بدولة كاملة مستقلة في الشرق لأن مقومات الدولة متوفرة في الإقليم، وليس بحكم ذاتي أو كونفدرالية.
أبناء شرق السودان يشتكون من أن معظم موارد الخرطوم تأتي من مناطقهم، سواء الميناء في بورسودان أو الموارد الزراعية من منطقة الجضارف، ولكن العاصمة تقوم بعملية إفقار ممنهج للإقليم
تُجمع القوى المؤثرة في شرق السودان على وجود تهميش حاد للمنطقة من حكومات السودان المتعاقبة، بدون استثناء حكومة عبد الله حمدوك الجديدة، إلا أنها تختلف حول المطالبة بحق تقرير المصير
وكشف أنهم أرسلوا إلى حكومة حمدوك مطالبهم، موضحاً أنهم يعولون كثيراً على مساعدة دول الجوار مثل إريتريا ومصر، ومضيفاً أن "كل القوى المطالبة بالاستقلال لا تزال في مرحلة تجميع صفوفها".
في المقابل، وصف محمد بري، نائب رئيس جبهة الشرق، موقف المعارضين من طلبات تقرير المصير في الإقليم، بقوله لرصيف22: "نحن مع الوحدة"، مبيناً أنه رغم وجود بعض الأصوات التي تطالب بالانفصال، إلا أن هذا مطلب صعب المنال لأن شرق السودان هو قلب البلاد.
وأكد أن أغلب الأصوات التي أصبحت تنادي بتقرير المصير خرجت من شهر العسل مع النظام السوداني السابق بعد أن كانت شريكة له في الحكم بعد اتفاقية 2006، فأصبح الوضع بدون كرسي صعباً عليها، وهي الآن تطالب بتقرير المصير لتنال "حصة من الكعكة".
وأضاف نائب رئيس جبهة الشرق أنه يوجد إقصاء واضح لأبناء الشرق، رغم أنه أكثر إقليم شارك في إسقاط النظام، لأن عقلية المركز لا تحترم باقي جغرافية السودان، مشيراً إلى أن تقرير المصير له أكثر من معنى، منه الحكم الذاتي الإقليمي، ولافتاً إلى أن شرق السودان لديه الآن منبر تفاوضي خاص مع حكومة الثورة، و"كل مَن يمتلك رؤية ما ليقدمها خلال فترة الستة أشهر المخصصة للسلام".
"لا أعتقد أن الأمر يكون بمجرد تظاهرات تطالب بحق تقرير المصير"، يصف علي نواري، أحد القيادات القبلية لقبيلة البني عامر، موقف قبائل البجا من مطلب الانفصال، مبيناً أن الأصوات التي تنادي بذلك هي للضغط على الحكومة لتحقيق مكاسب في الجهازين التشريعي والتنفيذي.
وأكد نواري لرصيف22 أن معظم مكونات شرق السودان وقياداته القبلية تبحث عن تحقيق مطالبها في ظل سودان موحد وتسعى إلى الارتقاء بالخدمات في الشرق، مشيراً إلى أن زعماء القبائل لا زالوا نادمين على فصل جنوب السودان.
منطقة بلا خدمات
"الوضع على وشك الانفجار"، يقول علي شاتاني، الناشط السياسي والمجتمعي من قبيلة البني عامر، واصفاً حالة شرق السودان. ويشير إلى أن السبب الرئيسي في تفجر المشكلة هو عدم تمثيل جبهات وأحزاب الشرق في المجلس السيادي والاكتفاء بعضو في حزب الأمة ينتمي إلى الشرق مقابل إقصاء كل مكوناته.
قبيلة البني عامر
وشكا شاتاني لرصيف22 من أن معظم موارد الخرطوم تأتي من مناطق البجا سواء الميناء في بورسودان أو الموارد الزراعية من منطقة الجضارف، ولكن العاصمة تقوم بعملية إفقار ممنهج للإقليم، فكل الموارد تتجه إلى خارج ولايات الشرق، مثل الجمارك التي لا تحصل الولاية على نسبة منها.
وأضاف ابن قبيلة البني عامر أن عدد أبناء الشرق ضئيل في الوظائف الحكومية ويكاد يكون رمزياً لحفظ ماء الوجه، وطبياً يخلو الإقليم من المستشفيات الكبيرة، وليس فيه سوى وحدات صحية تفتقر إلى أبسط مقومات العلاج، ولا تتوفر فيها أجهزة غسيل الكلى، وفي التعليم تخصص مدرسة واحدة فقط لمنطقة شاسعة فيتكدس فيها الطلاب.
انتشار الأوبئة
يشير علي عثمان محمد، أحد الأطباء من مدينة كسلا، إلى أن الأوبئة أصبحت شيئاً مألوفاً في شرق السودان، مثل الملاريا والحمى النزفية وحمى الشيكونغونيا، مبيناً أن هذه الأمراض تحصد مئات الأرواح سنوياً بدون أن تحرك الحكومة ساكناً.
وروى عثمان لرصيف22 أن حمى الشيكونغونيا ضربت شرق السودان العام الماضي، مضيفاً: "حتى الأطباء لم ينجوا من المرض"، فأغلب الكوادر الطبية أصيبت بالمرض وهناك مَن قضوا نحبهم أثناء أداء واجبهم، والسبب "ندرة كل شيء"، سواء الأدوية أو الافتقار إلى العزل الصحي.
وتابع أنه لا يوجد عدد معروف بالضبط من المصابين، فكل بيت في كسلا كان أغلبه مصابين أما الأرقام الرسمية من قبل الحكومة فهي 11 ألف مصاب.
وتطرق عثمان إلى الإهمال الحكومي في حالات الأوبئة، موضحاً أن الوباء كان يمكن القضاء عليه في أيامه الأولى عندما كان محصوراً بعدد قليل من الإصابات، ولكن السلطات لم تتحمل مسؤولياتها ولم تمد الإقليم بمواد لمكافحة البعوض الناقل.
وأردف أن ما خفف من حدة المرض هي المبادرات الشبابية لتوفير المال لشراء الأدوية ورش المبيدات الحشرية، وردم المياه الراكدة، وحملات التبرع بالدم في الخرطوم ونقلها إلى كسلا.
قلق اللاجئين
ظل مشاكل المنطقة، يعيش لاجئون إريتريون لا يمتلكون أوراقاً في معسكرات. و"المعسكرات في خطر"، يؤكد أبو هاني شمسي، عضو حركة 24 مايو الإريترية، شارحاً أن قبائل إريتريا وشرق السودان مشتركة.
وأكد شمسي لرصيف22 أن اللاجئين هم الأكثر تاثراً بأي أزمة سياسية في الشرق، فعندما يفقد الشرق الأمان يكونون الأكثر تضرراً إذ ليس لديهم ظهير.
وأضاف أن أبناء المعسكرات لم يشاركوا في المطالبة بالانفصال رغم القواسم القبلية والإثنية المشتركة، لأن المعسكرات تقع خارج المدن بينما التظاهرات حدثت داخلها، وهناك عوائق كثيرة تمنعهم من دخول المدن، ويعيشون هاجس الترحيل.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين