يأتي هذا المقال ضمن الملفّ المُعدّ لشهر أكتوبر 2019, في قسم "رود تريب" بـ"رصيف22" والمعنوَن "بصحْتك يا ساقي... بارات عربية لا بدّ من زيارتها".
إذا كنتم مسافرين وتبحثون عن حانة فلن يكون بمقدوركم أن تقرأوا مادة طويلة! فإن زار أحد منكم عمّان، فليذهبْ إلى عمّان القديمة وجبل عمان، حيث حاناتها أصيلة ومحبة وتشبه ما تَشكّل في خيالنا عن الحانة قبل أن نعرفها للمرة الأولى.
في جبل عمّان وعمّان القديمة هناك الكثير من الحانات، لم أزر أكثر من عشر حانات لكنني أسمع من الكبار والصِّغار عن تجاربهم في الحانات. الجميل أن الحانة هنا لا تزال تحافظ على طابعها الأصلي، أي الشكل الأول الذي وُجدت من أجله؛ جعّة وحديث عابر غير جدّي ورشة ضحك وصدفة واحدة عبر عمرٍ كاملٍ من التردّد عليها. هذا ببساطة ما أحبّه في حانات الأردن. أماكن في غالبها بسيطة ومتاحة لمن يعتبرون الجعة جائزة جيدة بعد نهار متعب، ولمن يجلسون حول الأصدقاء إذا رغبوا، أو يجلسون أمام الكؤوس الفارغة إذا سيطرت الوحدةُ على أمزجتهم.
في الثامنة عشرة من العمر، أي في منتصف فترة المراهقة ندخل إلى الجامعات، نبدأ في تشكيل دوائرنا الاجتماعية الجديدة، تبدأ رحلةُ تحسّس الأشياء عن قرب، ويتحوّل كلّ سؤال عن مجهول في السابقِ إلى إجابة نابعة من تجربة حقيقية، إنه السنّ الذي ننطلق فيه إلى الحرية المقرونة طوال الوقت بوصولنا إليها، وأخيرا نتعرف إلى معنى "الشلّة". الشلّة غالبا تطلق على مجموعة من الأشخاص الذين يجلسون أغلب وقتهم سوياً، ويتشاركون الجزء الأكبر من الاهتمام، ويتفقون على الطريقة الأكثر تسلية للجميع.
شلّتي كانت مكونة من شباب وشابات يشبهونني بعض الشيء؛ يهتمون بالقراءة وبعضهم يكتب والبعض الآخر بدأ يصبح يسارياً، وبعضهم يستمعون إلى الموسيقى ويعزفون على العود أو البيانو. كنا مجموعة مهتمّة بالفنّ والآداب، وهذا جعل الدراسة وقتَها آخرَ اهتماماتنا. كأنه كان على كلّ واحد منا أن يُنهيَ مرحلة كاملة من حياته ليصبح بمقدوره أن ينتبه إلى حقيقة أنه كان يتصرف باستهتار.
"الحانة هذه تُعدّ الأقدم في عمّان. أسست منذ عام 1953، وكانت المحطةَ الأهمَّ للتجّار والنساء من المجتمع المخملي"، هكذا قال النادلُ لنا فور وصولنا بما أننا كنا وجوهاً جديدة تعبُر المكان
كان يوم الخميس في سنتنا الدراسية الأولى مخصّصاً للتجارب الجديدة. وعلى كل واحد منا إيجاد مكان يعرفه جيداً ليعرّف الآخرين إليه. كانت هذه اللعبة ميزةً يعرفوننا بها سكّانُ العاصمة بأننا سكان القرى والمحافظات. نحن نعيش بين السهول وتجاربنا في المحالّ والأماكن الصالحة للزيارة أقلّ منهم، لذا كانت لديهم الفرصة دائما ليبرزوا تفوّقهم المعرفي في الأماكن الممتعة.
كنت أسمع عن الحانات من الكبار، ومن التلفاز، كما كنت أقرأ عنها في الروايات والكتب. لم يكن لدي هاجسٌ أن أجرّب الذهاب إلى الحانة، ولم تتشكّل لدي الرغبة حينها بأن أدوّن شعوري تجاه المكان الذي سنشرب فيه البيرة مثلاً.
حين يبرد الحديث في جلسات الأصدقاء تظهر الأشياء التي تجمعهم فجأة؛ ينطلق صوتٌ ذكيّ على طاولة المقهى ليقول: "يلا بيرة"؛ هذا ما أتذكره عن حانة "المايسترو" في المرّة الأولى
كانت هناك حانة تدعى "الأوبرج" في عمّان، لا معالم لها في الشارع العام. الذهاب إليها يتمّ عبر ممرّ ضيّق بين محالّ تجارية، تقع فوق محل تجاري. نصعد الدرج المؤدّي لها ثمّ نصل إلى مكان متوسط الاتّساع ونصف معتم. صور كثيرة على الجدران، وتفاصيل متعددة لا يتمّ إدراكها من المرة الأولى، لكنكم تدركون أنها تفاصيل مركبة، وسوف تبقى طويلاً في الذاكرة. ننتقل بعدها إلى مكان متّسع خارجي. شرفة تفاصيلها أكثر وضوحاً وجمالاً، وفيها الكثير من الأزهار والنباتات والكراسي الملونة، بينما لا صور فيها ولا شخصيات تحيط بكم.
"الحانة هذه تُعدّ الأقدم في عمّان. أسست منذ عام 1953، وكانت المحطةَ الأهمَّ للتجار والنساء من المجتمع المخملي"، هكذا قال النادل لنا فور وصولنا بما أننا كنا وجوهاً جديدة تعبُر المكان. احتفى بنا النادلُ، وبدأ حديثه عن الشيوعيين الكبار الذين يترددون على المكان، وتحدّث عن الكتّاب ممن لا تحلو لهم الكتابة إلا في الأوبرج؛ هكذا يكون الحديث مع شلة مراهقين يعبرون الحانة للمرّة الأولى!
في الأوبرج تكثر التفاصيل؛ شكل الصور المعروضة للفنانين مميزة. يوجد على الجدار الأكبر في المحلّ صورة لأم كلثوم تظهرها كما هي في ذاكرة الآباء والأجداد، عظيمة وصاحبة حضور مهيب. كما توجد صورة لعبد الحليم حافظ وأخرى لمحمد عبد الوهاب. وتوجد اكسسوارات من النحاس معلّقة في كلّ مكان، تضفي على المحلّ طابعَ القدم.
لم تكن للمحل مكانة خاصة لدي. كان الحانة الأولى التي دخلتُها، وكانت جميع زياراتي بعدها بسبب إجماع الأصدقاء على اللقاء هناك. أعرف جيداً المشاعر التي كانت تنتابني هناك؛ شيء من الأبوية والهيبة والاتزان كان يسيطر على المكان؛ على الرغم من الضحك بصوت عالٍ وعدد الشباب، إلا أن شواربَ كثيرة ووجوهاً مجعدة كانت تعني أن المكان مسنّ.
حين يبرد الحديث في جلسات الأصدقاء تظهر الأشياء التي تجمعهم فجأة؛ ينطلق صوتٌ ذكيّ على طاولة المقهى ليقول: "يلا بيرة"؛ هذا ما أتذكره عن حانة "المايسترو" في المرّة الأولى. حانة جميلة جداً في عمان في منطقة تسمى جبل اللويبدة، وهو مكان حيّ؛ هذا هو الوصف الدقيق له. تفاصيل متنوعة في المحل، صور لفرق الجاز والبوب من جميع أنحاء العالم. بار خشبي مميز يشعركم بأن المكان يستوعب وجودكم كل واحد/ة على حدة.
إضاءة المحل خافتة طوال الوقت، والموسيقى فيه تشبه حالة الطقس ومزاج الأشخاص. يشبه الحانةَ التي قرأنا عنها كثيراً في الروايات، حيث يجلس الشابُّ المتعب ويشرب الجعة وتصادفه الحسناء. المايسترو هو الحانة المثالية لمن تأخذه التفاصيل اللحظية، أغنية عابرة، رقصة مباغتة، وملامح لأحدهم يدخل الخمارة للمرة الأولى. وهكذا استمرّت سنوات الشباب بين هاتين الحانتين الجميلتين في عمّان. هل حدث وزرتم إحداهما؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ 15 ساعةأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ يومينلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...