يأتي هذا المقال ضمن الملفّ المُعدّ لشهر أكتوبر 2019, في قسم "رود تريب" بـ"رصيف22" والمعنوَن "بصحتك يا ساقي... بارات عربية لا بدّ من زيارتها".
هنا بابٌ عتيق، مضاء بألوان زاهية، يدفعك إلى الدخول، لتجدوا أنفسكم في عالم مسحور، منفصل عن العالم الخارجي، الذي يموج بالتجار والجزارين. الحكايات لها سحر خاص، على إيقاعات الكؤوس، والعجوز الذي يحتضن عودَه لا يتوقف عن الغناء، والسكارى تتعالى ضحكاتهم حتى الثالثة فجرًا. أنتم في بار "الشيخ علي"، أو بالأحرى في فصل من المتعة.
119 عامًا، هي عمر أحد أشهر وأقدم بارات مصر"كاب دور" المعروف ببار "الشيخ علي". يقع البار الشهير، في ممرّ صغير يدعى "نجيب بك إسحاق" وهو متفرع من شارع تجاري كبير، بمنطقة المنشية بمدينة الإسكندرية، تأسس على يد شريكين يونانيين وثالث فرنسي، وفي حقبة الستينيات، أقدم المصري "محمود علي" على شرائه، وكان يقوم بإغلاقه كل يوم جمعة، تحت وطأة الإحساس بالذنب، ومن هنا أُطلق عليه الناس اسم "الشيخ علي"، وهو الاسم الأكثر شهرة وسط بارات الإسكندرية.
البار ذو المساحة الصغيرة، يبدو وكأنه قابض على الماضي، فليس ثمة تجديدات أجريت منذ تأسيسه؛ كل شيء ثابت في مكانه: حنفيات البيرة، السلالم الخشبية، الرخام الجرانيتي، الصور القديمة المعلقة على الجدران التي تبرز جزءًا من حياة الشيخ علي، وهواياته الأثيرة في ركوب الخيل وصيد الطيور، ومصاحبة المشاهير، وهناك صور أخرى لأصدقاء البار، من الأجانب والمصريين، كما أن الأغاني القديمة لم تتوقف يوماً، والمطرب المسن، لم يتوقف أيضًا عن مؤانسة الزبائن، وهم يحتسون مشروباتهم، ويأكلون المزة البحرية حيث أسماك "البساريا" و"الجندوفلي"، و"البربون" التي يقدمها العاملون بالبار بسخاء.
"الشيخ علي" له قصة كفاح مريرة، اشتعلت خلال السنوات الأخيرة، وسط صعود التيارات الإسلامية، والمدّ السلفي الذي لا يتوقف عن نهش الوجه المدني والحداثي لمصر
هذه الأجواء الناعمة، تخلق حالة من الحميمية، والصفاء، تفتقدها أغلب بارات العاصمة (القاهرة)، وهذا ما رصده الشاعر والكاتب محمود خير الله في كتابه "بارات مصر... قيام وانهيار دولة الأنس"، قائلًا: "تذكرتُ على الفور، وأنا أتأمل وجوه الجالسين حولي، أنه ما من بار في القاهرة يمكن أن يكون اسمه هكذا، أو تكون مزته على هذا المنوال، من السمك وتشكيلاته، كما أن ما يحدث هنا لا يمكن أيضًا أن يتكرر في بار قاهري، أبدًا، لا من حيث نوعية الزبائن، ولا على مستوى وجوه العابرين، أو قصص الحبّ حتى. كلّ شيء مختلف، ففي أي بار قاهري أنت تبدو كالجالس في قطار قديم ومتهالك، يهبّ عليك التراب من كل جانب، بينما الجالس في بار سكندري، خصوصًا في (الشيخ علي)، فهو كالجالس في مركب يعوم بهدوء (على وش الميه)، وحين لا يجد المرء ما يفعله في بار إسكندري مثله، فليس عليه سوى ترويض الأمل."
وذكر "خير الله" الذي وثق في كتابه السابق ذكره، ملامح من تاريخ بارات مصر، أن أصحاب البار، نجحوا في اختيار مكان تجاري محض، ورصعوه بـ"عوامة" من الفلين تستخدم للإنقاذ، وصور لأطفال وأحصنة، وعدد لا يحصى من الزجاجات التي تركت أصحابها يشربون حتى الثمالة طوال القرن الماضي، وبقيت هي هنا معنا، زجاجات خمر قديمة ونافعة، تحكي الحكايات عن الراحلين، كلما أطلت إليها النظر. فبعد كلّ هذه السنوات الفادحة، لم يطرأ على هذا المكان أيّ تغيير شكلي تقريبًا، ما يجعله البار "الأقدم" في مصر، كونه سبق تأسيس بار "ريش" في وسط القاهرة بحوالي ثمانية أعوام.
السياح القادمون من الغرب المتوسطي، يعتبرون هذا البار، قطعة أثرية خالدة في مصر، حيث صمد أمام الحربين العالميتين الأولى والثانية، ولا يزال محتفظًا بتراثه وخصوصيته التي تشكلت على مدار سنوات طويلة، والمثقفون القادمون من القاهرة، يفضلون السهر في "الشيخ علي"، ولا يتوقفون عن رصد مميزاته، وأهمها الخفة، والتحرر من ثقل الحوارات الثقافية التي تأكل رؤوسهم في بارات وسط العاصمة.
كاب دور الإسكندرية، شاهد على كلّ التحولات الاجتماعية التي حدثت للمدينة العريقة، ويمكنكم رصد ذلك في بار "الشيخ علي"، من خلال التباينات التي حدثت في نوعية الزبائن والمرتادين الذين اختلفوا مع تحولات المدينة صاحبة الروح الكوزمبوليتانية؛ كان البار يعج بالأجانب من مختلف الجنسيات، سواءً من المقيمين في عروس المتوسط، أو العابرين للتجارة من خلال مينائها الكبير، إلا أنه الآن تغيرت الصورة وأصبح من النادر أن نجد هؤلاء الأجانب وسط رواد المكان من أبناء الطبقة الوسطى المصرية، وربما ما بقي من روائح كوزمبوليتانية الإسكندرية في البار التاريخي هو حرص أصحابه أن يكون بعض العاملين من جنسيات أجنبية، حيث يعمل به حاليًا بعض القادمين من دارفور في جنوب السودان، الذين قد تفاجئكم لكنتهم العربية غير المعتادة وهم يسألونكم عن طلباتكم.
"الشيخ علي" له قصة كفاح مريرة، اشتعلت خلال السنوات الأخيرة، وسط صعود التيارات الإسلامية، والمدّ السلفي الذي لا يتوقف عن نهش الوجه المدني والحداثي لمصر، وهذا ما ذكره رئيس تحرير مجلة "أمكنة" الشاعر والكاتب علاء خالد، في كتابه "وجوه سكندرية"، حيث أوضح التهديدات المتصاعدة التي يتعرض لها البار الشهير، مشيرًا إلى صعوبة استمراره وسط المحال التي تحوطه وهي مكتبة تبيع الكتب التراثية الإسلامية، وجزار ملتحٍ، وغيرها من المحال التي تحمل اتجاهًا إسلاميًا واضحًا، وجميعها عرضت على المالك بيع البار.
السياح القادمون من الغرب المتوسطي، يعتبرون هذا البار، قطعة أثرية خالدة في مصر، والمثقفون القادمون من القاهرة، يفضلون السهر في "الشيخ علي"، ولا يتوقفون عن رصد مميزاته، وأهمها الخفة، والتحرر من ثقل الحوارات الثقافية التي تأكل رؤوسهم في بارات وسط العاصمة
ويضيف خالد: "صاحب البار، كل يوم يحاول أن ينسى أو يتفادى تلك البصقات التي تبصق أمام باب البار. كانوا عدة أخوة، شركاء في هذا الميراث المؤلم، الذي لم يعرفوا كيف يتصرفون فيه أو في أنفسهم، بينما المجتمع يتحول ويتنكر لهذه المهنة. كانت هناك بذرة دامية مزروعة في هذا الميراث، وستؤدي حتمًا إلى هلاك ما، خناقة بين الأخوة لتنهار بعدها الشركة. هذا الإحساس بالذنب، من حرمانية تجارتهم، والذي بدا يتنامى، ويبطن علاقاتهم وردود أفعالهم ببعضهم بعضًا وبمن حولهم. مهما كانت درجة صلابتهم سيتسلل هذا الإحساس إلى دواخلهم، ليصبح كعب أخيل الذي سيفجر بينهم النزاعات. كأنهم يروضون وحشًا في أي لحظة يمكن أن يلتهمهم."
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...