شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
محاولات جيل الألفية للخروج من الماتريكس الإسلامي

محاولات جيل الألفية للخروج من الماتريكس الإسلامي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 28 نوفمبر 201705:49 م
يمكنكم امتلاك كل ما ترونه بيعوا روحكم من أجل السيطرة الكاملة هل هذا حقاً ما تحتاجونه أغنية "ماذا تريدون مني"، بينك فلويد. تفقد الأشياء تماسكها، أشعر بأنني أريد شيئاً يشدني إلى الأرض، أشياء كثيرة تضايقني، ولكن بطريقة غريبة، الجاذبية الأرضية، الملابس التي أرتديها وأنا في الشوارع، أشعر أنني مشدود إلى الموسيقى أكثر من العمل والصداقات والجنس. تصيح صديقتي في وجهي أثناء استقلالنا المترو، لا أعرف لمَ أغضبتها إلى هذا الحد؟ ولكن جسمها، وصوتها، وعينيها، هذا التعقيد في تجاعيد وجهها، ولغة الجسم، يمتلئ قلبي بالاندهاش لعظمة الطبيعة، وأضحك، وتضحك، وننسى. من منطقة مجهولة وغامضة ينبثق السؤال فجأة "ما معنى هذا كله؟". أحاول تذكر اللحظة الأولى التي طرحت فيها هذا السؤال واستحوذ علي، كنت في الإعدادية، وكنت انتهيت من أكل ساندويشاتي، لم أنتبه للحصص، ولكن السؤال شغلني كثيراً، سألت والدي "إيه المعنى في حياتنا؟ احنا عايشين ليه أصلاً؟". نهرني والدي بشدة، إلى الدرجة التي نسيت فيها فعلاً ما كان شكل النهران، هل ضربني؟ هل شتمني؟ ما أذكره هو سرد لأشياء بدت عبثية في عقلي الصغير الذي لم يتشكل بعد، النجاح في الدراسة، الزواج بامرأة محترمة، أن تتذكر الله وتلتزم بالفروض، هل هذا كان صائباً؟

ماتريكس الإسلاميين

أوامر واضحة، ونواهٍ واضحة، الأشياء واضحة لدرجة البداهة، الله خلق العالم، وأنزل الكتاب على نبيه، وما عليكم سوى اتباع التعليمات لتعيشوا طويلاً وبصحة وافرة، وتدخلوا الجنة في النهاية، حتى لو دخلتم النار لفترة، ففي النهاية هناك جنة. يقول (م. أ.) (45 عاماً) صديقي، وهو مخرج أفلام وثائقية، إن الفراعنة كانوا عباقرة عندما آمنوا بإله وآخرة، خدروا الجانب الوجودي للإنسان، العبث الناجم عن الوعي الذاتي بالموت، ودفع الناس للاهتمام بأمور المعيشة والعمران والحضارة. MAIN_Thematrixincode99MAIN_Thematrixincode99 يمنحكم الإحساس بالتدين التميز عن الناس، بلحيتكم واستقامتكم، تبدون متسامين، لا تغريكم المخدرات والنساء، ومهتمين بمستقبلكم، وتتزوجون امرأة صالحة، وتنجبون أبناء تربونهم على التقوى، يمكنكم أن تتعايشوا مع السعار الاستهلاكي والتعبد للمظاهر وأنتم معتزلون ثقافة الناس، وتضحكون على انكبابهم على الدنيا. تعرفت في تلك الأوقات إلى شاب ألماني يتحدث العربية بتلعثم، ترك عملاً يدر عليه أموالاً، ويعيش في شقة متواضعة ومشتركة في شبين الكوم، مع صديق لي أزهري، تحدث عن النعيم النفسي الذي يعيش فيه منذ أن دخل الإسلام، وهو يعتبر نفسه محظوظاً. يقول المحلل النفسي الألماني أريك فروم في كتاب "الدين والتحليل النفسي": "أولئك الذين يحاولون العثور على حل بالرجوع إلى الدين التقليدي، فيتأثرون بالرأي الذي يدعو إليه رجال الدين. علينا أن نختار بين الدين وبين طريقة في الحياة لا تحرص إلا على إشباع حاجتنا الغريزية وراحتنا المادية، وإذا لم نعتقد في الله فلا مبرر لنا ولا حق لنا في أن نؤمن بالروح ومطالبها". يقول ديف هوستافا، حساب على كورا، إن الناس يعتقدون في الأيديولوجيات المتطرفة لأنها تضفي ثقلاً عاطفياً مسكراً من "الغضب الأخلاقي، والتقوى الإلهية، واليقين المطلق لحل مشاكل معقدة لا تستطيعون الاعتراف بأن حلها لن يكون إلا بتضحية قليلة أو مساومة". ويخلص هوستافا إلى أن الأيديولوجيات المتطرفة تستفز أشد المشاعر الإنسانية رجعية، الفخر والغضب والخوف وشهوة الانتقام، أما الاستماع إلى العقل أو التواضع فهو احتمال بعيد و"هذا هو سبب أنها فعالة جداً ولا تقاوم لبعض الناس". ما لا يستطيع أن يمنحه المتطرفون للإنسان هو استيعاب الصفات النبيلة، إنها تحتوي مراهقتكم، تمنحكم احتياجكم للتقدير المشجع لنرجسيتكم، وتشبع حاجتكم للتميز من دون بذل مجهود، ولكن بمجرد أن تنضجوا إنسانياً، عندما تدركون بطريقة غامضة أن المسيحيين واليهود والملحدين مثلكم، تشغلهم الأسئلة نفسها، تثيرهم الاحتياجات نفسها، يعانون من الألم والتمزق نفسيهما، عندما تدركون أهمية استخدام العقل والتفكير النقدي، عندما تقدرون تجربة الحياة، وأنها تستحق أن تُعاش وتُختبر، حينذاك حتى لو لم تتركوا المتطرفين فإنهم سيتجنبونكم، وهذا ما حدث. ولكن...

تجربة الانتقال ليست سهلة

يقول فرويد، مسلطاً الضوء على الجانب الوجودي من هذه التجربة: "إذا واجه الإنسان وحدته وتفاهته في الكون، فسيكون أشبه بالطفل الذي ترك بيت أبيه، غير أن غاية التطور الإنساني هي أن يتغلب على هذا التثبيت الطفولي، وعلى الإنسان أن يعلّم نفسه لمواجهة الواقع.. الإنسان الحر الذي حرر نفسه من نير السلطة التي تهدد وتحمي، هو وحده الذي يستطيع استخدام قوة عقله".
الإنسان الحر الذي حرر نفسه من نير السلطة التي تهدد وتحمي، هو وحده الذي يستطيع استخدام قوة عقله. فرويد
انتابني كثيراً إحساس بالذعر المفاجئ، كأنكم تركتم خيمتكم، في وسط غابة من الوحوش المفترسة وحدكم، تسمعون أنفاسهم، تتخيلون أنهم سينقضون عليكم، إلى الدرجة التي تجنبتم فيها النزول تحت المطر، وفي مساحات واسعة خالية، أشعر بأنني غير محمي. صديقتي تجلس في البار للمرة الأولى وتنتشي بالخمر، ينتابها إحساس بالخوف وتنظر إلى السماء "هو أكيد ربنا مش زعلان مني عشان أنا مبسوطة"، بعد ذلك بيوم توفيت والدتها، وقررت ألا تعود مرة أخرى. صديق لي يبيع الكتب والمنتجات الثقافية يكبرني بعشرين عاماً، كنت أندهش لثقافته الكبيرة التي تتضاءل أمامها قراءاتي، وتديّنه المتطرف، يلبس الجلباب الأفغاني أحياناً، انضم إلى جماعة "التبليغ والدعوة"، سألته مرة حول سبب تدينه، قال لي إنه كان ملحداً ماركسياً في شبابه، وذات مرة أمطرت الدنيا، وكان يمشي في أرض خلاء بين المزارع، والبرق شديد، انتابه رعب، واكتشف أنه لا يستطيع الهروب من قدرة الله، وأنه ضعيف للغاية، وخائف للغاية. أتساءل ما الذي يجعل أصدقائي يقفون عند هذا الحد ولا يستطيعون التحرر من وجود سلطة تهددهم وتحميهم بحسب لغة فرويد؟ قسّم كثير من العلماء العقل الإنساني حسب وظيفته إلى نوعين، السعي إلى الكفاءة، وإتقان مهارة في العمل، واختيار مناسب لشريكتكم، والنجاة من خداع الناس ومكرهم، وجانب آخر استمتاعي انتشائي. لا يعمل الجانبان معاً بكفاءة، حتى تستمتعوا بلحظتكم تحتاجون إلى أن تخدروا الجانب الآخر، وحتى تكونوا بارعين في عملكم عليكم أن تقمعوا الجانب الآخر. المجتمعات لا تكافئكم على نوعية حياتكم، وعلى استمتاعكم. مناخات العمل، وشكليات الزواج، والعادات والتقاليد، تعلي من الكفاءة على حساب الاستمتاع. يضيف الصوفيون إلى ذلك أن حالة الانتشاء والابتهاج بالحياة ليست مجرد "مزاج عالٍ"، إنها حالة "ألوهية"، حالة معرفية ووجودية. محمد (38 عاماً)، الذي شاركني مدةً من الزمن في التشدد الديني، واستطاع التحرر من السلطة التي "تهدد وتحمي"، مثقف يعمل في التدريس ويسكن في بيت متواضع في ريف أحد الأقاليم، أدمن مشاهدة قنوات متخصصة أوروبية في عالم الحيوانات. يقول لي ونحن نشاهد أسداً يخطط للانقضاض على فريسته: "الإنسان ما هو إلا مجرد حيوان بربري وشهواني ومشكلته كهرباء زائدة في المخ، هذه الكهرباء جعلته يتخيل حضارة، وأخلاقاً، وأدياناً، ليرضي غروره، ويجعل لحياته التافهة العديمة القيمة معنى".

ثورة يناير

وأنا على أعتاب الثلاثين من عمري، تأكلني احتياجاتي، الإشباع الجنسي، طموحاتي كصحافي وكاتب سيناريو حينها. أشعر بضغط كبير على عقلي، ضغط لن يريحني حتى أشبع احتياجاتي وتطلعاتي، ضغط يعدني بمجرد أن يتركني بنشوة لا يحتملها عقل. وفي خضم التخبط جاءت ثورة يناير، هكذا ببساطة، اجتمعنا في ميدان التحرير وأصررنا على إسقاط مبارك وتغيير النظام بشكل كامل. Gigi-Ibrahim_FlickrGigi-Ibrahim_Flickr صاحبت شباباً وشابات قرروا التمرد على نمط الحياة العائلي، صديقتي (أ. ن) خلعت الحجاب، وقررت النزول إلى القاهرة وتحويل مهنتها من موظفة حكومية. وهو تطلع كبير للطبقة الوسطى الطامحة للاستقرار المادي، وعملت في الصحافة، وقد شكل ذلك نمطاً اجتماعياً لا يزال مستمراً في القاهرة، ويشكل جزءاً كبيراً من ظاهرة تجمعات وسط البلد في العاصمة. ما زلت أرى تفاصيل صغيرة في تلك اللحظة الدرامية التي أعقبت سقوط مبارك، في الأجواء المعبأة بالغاز صدر (أ. ن) يلهث بعد الهروب من الشرطة في أحداث محمد محمود الشهيرة والغاز، وتلتفت حولها كثيراً خوفاً من أن يأتي أحد من عائلتها، وهذا ما حدث. اختطفتها عائلتها وقامت بضربها، رأيت آثار الكدمات على وجهها بعد أن نجحت من الفرار ثانيةً، وروت لي باكيةً كيف ربطوها في السرير وضربوها بشدة. أشد أعدائك نفسك التي بين جنبيك هكذا تحدث علي بن أبي طالب، ولعله كان مصيباً جداً، فما اكتشفته في نفسي وأصدقائي هو أننا نخشى من الحرية، نهرب من الفرح، نسعى إلى نظام متماسك نتعايش معه حتى لو على حساب تناغمنا مع أنفسنا. لعل من أعمق ما قرأت عن حالة ثورة يناير كان للصحافي والمخرج عمر روبرت هاملتون، في كتاب "المدينة تربح دائماً". إذ سلط الضوء على ثورة يناير من زاوية الأحداث الشخصية، وبالتحديد في علاقة الشابة مريم بصديقها خليل، كيف بدأت علاقتهما واعدة وحية، وانتهت هكذا ببساطة، كأنهما لم يصدقا الثورة، ولم يثقا في استمرارية علاقتهما. يرى ديفيد غرابر عالم الأنثروبولوجيا، وأحد مؤسسي حركة "أوكيوباي" في أمريكا، التي كانت على نمط ميدان التحرير، في مرض الاكتئاب، بعداً سياسياً. يقول إن الطبقات الحاكمة في السبعينيات وجهت مصادرها لعلاج مضادات الاكتئاب، لأنه منذ ذلك الحين فُرضت على الناس ظروف يصعب التعايش معها، أدوية مثل ريتالين وزولوفت وبروزاك مصممة لمتطلبات حياة وظيفية تقودنا إلى الجنون والاختلال العقلي. دعونا نصيغها بطريقة أخرى، فإن الجانب المتعلق بالكفاءة والحياة المهنية والنجاح وكل تلك القيم بات إشباعه، والتحقق فيه، غير متناغم مع طبيعتنا الإنسانية. باتت الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية تشدنا إلى دائرة مجنونة ومظلمة، ولكن ألم تفتح لنا ثورة يناير الأمل في أن ذلك ممكن، التغيير. يكتب أحمد إسماعيل (35 عاماً)، أحد الفاعلين في ثورة يناير وممن سجنوا في قضية تيران وصنافير في حسابه على "فايسبوك": "أنا خرجت من سجن النظام، ودخلت سجن الخوف، سجن الوحدة، سجن الاكتئاب، سجن الإحباط، وأمارس على نفسي دور الجلاد، وأجلد ذاتي بلا رحمة". 2_Gigi-Ibrahim_Flickr2_Gigi-Ibrahim_Flickr صديقة ناشطة شابة، كانت من بين البارزات في حراك ثورة يناير، تجاوزت الثلاثين وهي محتفظة بعذريتها، قررت أن تفك ارتباطها هذا مع صديقها، ولكنها بدلاً من أن تنتشي بحالة الحميمية، رأت نفسها عدائية للغاية، دفعته بعيداً وهرولت إلى الحمام وأغلقت على نفسها، استفرغت كثيراً، وكان صديقي يسمع أنفاسها المهتاجة، ونشيجها المتقطع، وأدرك بالضبط ماذا يحدث. يروي صديقي لي حينها وصوته لا يخلو من الكآبة. حاولت أن أخفف من إحباطه، وجدته يعنفني: "أحمد بطل تفاهة، الموضوع مش سيكس يا أحمد، إحنا اتكسرنا، دي لحظة وعي، إحنا اتهزمنا واتكسرنا، إحنا فشلنا في إننا نخرج برا الترس، عارف يعني ايه انكسرنا، يعني حنختار الاختيارات نفسها بتاعة أهالينا، ولو عيالنا عملوا ثورة حنفشخهم، حنبقى جزء من النظام اللي ثرنا عليه، ومش بعيد نطوره ونحدثه عشان عمره يطول".

التحول

كانت تجربة الثورة تجربة تحمل ألماً هائلاً، قتل شخصين بجانبي أثناء مطاردات ليس سهلاً، مشاهدة امرأة تغتصب في ميدان التحرير، شعور هائل بالذنب والإحساس بالعجز. وكان له آثار اكتئاب لا أدري كيف نجوت منه، الأكثر إيلاماً أن تشاهدوا أصدقاءكم وهم يتحولون، تشاهدون النظام كيف يتماسك، كيف يعيد بناء نفسه وضرب كل من هو خارجه. ولكن كل ذلك تغير بعد أن التقيت بالهندي الأحمر، خرج لي من تحت الكهف، وحدق فيّ، نظراته مرعبة، وأنا ألتفت حولي، والخوف والذعر يقتلانني، لايزال محدقاً في وجهي، أشعر بلذعات على جسدي، إلى أن استسلمت، أشار بيده إلى اليسار، غامت الدنيا في عيني. MAIN_Pink-FloydMAIN_Pink-Floyd رأيتني ماءً أخضر يتدفق في شجرة على الصحراء، كنت منتشياً بالحياة، لا وعي، لا ذكريات، لا شيء، فقط إحساس صافٍ بالحياة، ورأيتني كوكباً يتدحرج في الفضاء الواسع، ووجدتني أرى نفسي من أعلى، نظرت إلى نفسي باستغراب واشمئزاز، أي حياة تعيسة يعيشها هذا الكائن. مجرد أن نظرت في عيني الهندي الأحمر وفقدت شخصيتي وهويتي، اختبرت تجربة الابتهاج بالحياة والطمأنينة، لا تقلق، أنت البحر والشجر والحجر، أنت الشمس، حتى لو تم فناؤك، الكون لا يفنى، والطاقة لا تفنى ولا تستحدث من عدم. الثورة في خلق الإنسان، والثورة في الوعي بالانتشاء بتجربة الحياة، ليس في الجنس أو الطعام أو السفر أو الطموح وتحقيق المكاسب، أو السلطة والإحساس بالسيطرة على حياتكم، الثورة هي الوعي، الوعي بحالة الوعي، الوعي بكل الميكانيزم في الحياة، السعي للحب، للعمل، أن تفعلوا ذلك وأنتم تعونه. سأجن، تفقد الأشياء تماسكها، أشعر بأنني أريد شيئاً يشدني إلى الأرض، أشياء كثيرة تضايقني، ولكن بطريقة غريبة، الجاذبية الأرضية، الملابس التي أرتديها وأنا في الشوارع، أشعر أنني مشدود إلى الموسيقى أكثر من العمل والصداقات والجنس، أشعر بأنني جردت من مواقفي الأخلاقية، تزعق لي صديقتي في المترو، لا أعرف لماذا أغضبتها إلى هذا الحد، ولكن جسمها، وصوتها، وعينيها، هذا التعقيد في تجاعيد وجهها، ولغة الجسم، يمتلئ قلبي بالاندهاش لعظمة الطبيعة، وأضحك، وتضحك، وننسى. لقد كنت تحت تأثير عقار يسميه الأطباء "هلوسة" ويسميه البعض عقاراً كشفياً. هو ببساطة يقوم بمهاجمة الجانب المتعلق بالكفاءة في عقلكم، الذكريات، الأنا، الطموح، المكاسب، الإلحاح الحاد لإشباع الرغبة الجنسية، وينجح في القضاء على كل هذه الجوانب لبضع ساعات، تعيشون في حالة انتشاء واستمتاع بلا خوف ولا قلق. كيف ستفهمون؟ كيف ستتحررون؟ وأنتم مسكونون بالخوف والقلق والعجز، وأنتم مشدودون برغباتكم الغريزية والمصطنعة، في اللحظة التي ستتحررون منها من الخوف والقلق ولو للحظة، سترون ألواناً وأشياء وأفكاراً مختلفة، لهذا اتجهت إلى ممارسة منضبطة وقاسية للتأمل، واخترت الكاراكاتا الهندية، أحب العالم عندما يهدأ عقلي تماماً، أحب تلك الأمواج الذهبية، والوجوه التي تظهر لي مخيفة أحياناً، ومبتهجة أحياناً. أترون أنني تحررت فعلاً؟ هل يمكن أن تتحرروا مما زرع في داخلكم أثناء الطفولة، من تجاربكم الأولى، ولكنني تحررت الآن، أشعر بعقلي وإدراكي متغيرين. في حفل توقيع كتابي الأول في معرض الكتاب، جاء إلي شاب أراد أن يشعل سيجارة، نظرت في عينيه، وقلت: "هل تعاطيت الأسيد قبل كده؟". نظر إلي باندهاش، وأخذني من يدي بالقوة، جلسنا تحت شجرة، أخبرني أنه أغلق كل حساباته على السوشيال ميديا، وجاء من هولندا إلى الإسكندرية، وبحث عن وظيفة مستقرة ولا يهم الراتب، وأنه سيفرغ حياته لقراءة الفلسفة والتصوف. نظر حوله كأنه يبحث عن شخص ما: "عايز أفهم، إيه الكون اللي إحنا عايشين فيه ده، إحنا مين، وإيه اللي جابنا هنا". أنظر حولي فأجدني غريباً ومنفصلاً ومنفصماً عن اللحظة التاريخية التي يعيشها أبناء جيلي، بدأت أدرك الأمور بشكل مختلف الآن، الآن هم المنفصلون عن اللحظة التاريخية، لحظة الخروج من الماتريكس، لحظة الكفر بالسلطة، لحظة الشعور بأننا آلهة، وأسياد هذا الكون، لحظة اكتشاف أن الشرطة والسلطة لا تحمياننا بقدر ما تخدعاننا وتزيفان حياتنا، وتقمعان تطلعاتنا، أقول لنفسي يجب أن نعرف اللحظة التاريخية بما تحمله من احتمالات إيجابية خاصة بها، وليس بالسلوكيات والأفكار والتوجهات الشائعة. هل هناك أمل؟ واضح أن كثيراً من أصدقائي يغرقون في حالة شديدة من الاكتئاب، أتساءل: هل يستطيع من ذاق الحرية والفرحة في ثورة يناير أن يتعايش مع الطوب الاسمنتي، مع النظام، مع المجتمع. هذاصعب. من هنا غرق كثير من أصدقائي الذين وعوا أنهم سيكونون في النهاية تروساً في الآلة السياسية والاجتماعية، في حالة اكتئاب حادة. الاكتئاب يعني أنكم لا تستطيعون أن تتعايشوا مع ظروفكم. يقول صديقي المخرج بعد أن قرر السفر والزواج في بلد غربي خارج مصر، إنني سأصبح ترساً في آلة، ليس ذلك فقط، بل إنني أرغب أن أكون ترساً في آلة بعد كل هذا العمر، بعد الثورة التي قمنا بها. يكذب صديقي، بالتأكيد، لن تكون ترساً في آلة وأنت تعي ذلك، التروس لا تعي، قد تعي عملية المسخ، والتحول من إنسان إلى "زومبي"، ولكن أليس في الوعي ثورة. يجيب ميكا وايت أحد المفكرين الاجتماعيين ومؤسس حركة "أوكيوباي" الأمريكية في مقال كتبه أخيراً حول تساؤل بات يطرح في جميع أنحاء العالم، أين النشطاء؟ أين الشباب الذين نزلوا إلى الشوارع في الربيع العربي، وحركات أوكيوباي في ألمانيا وأمريكا وبريطانيا ودول كثيرة؟ لماذا لم تثر فضائح أوراق الجنة هؤلاء؟ يرى وايت أن النشطاء في العالم يعيشون حالة ركود، لأنهم اكتشفوا أن المسألة لا تتعلق بتغيير الزعماء والقادة الفاسدين، ولكن النظام العالمي كله فاسد، ويحتاج إلى تغيير، وربما ثورة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image