عندما فكرتُ بإعادة طباعة مجموعتي القصصية "تماماً قبلة"، التي مضى على إصدارها أقل من عشر سنوات، أحسست بأن قبلتي كانت في غيبوبة الكوما، ومن ثم بدأت بالاستيقاظ عبر ظهور الغلاف الجديد لها أولاً، والعودة إلى الوعي أخيراً عبر تجسدها في طبعةٍ جديدة.
إن كان لي أن أتكلم عن محاسن الصدف، فلقد ترافق خبر طباعة قصصي مع خبر استعادة مايكل شوماخر لوعيه، إذ بدأ يخرج من حالة الكوما، بالإضافة إلى ذلك كان معرض دمشق الحادي والثلاثين للكتاب في مكتبة الأسد قد فتح أبوابه، ولقد أعدّت لي "دار سين" الناشرة للمجموعة القصصية، بعد أن أخذت كل الموافقات كي تطبع المجموعة من جديد، حفل توقيع لها.
ولأن الفرح يأتي بالجملة، كانت ذات الدار التي تبنّت مجموعتي القصصية قد طبعت في بداية عام 2019 روايتي "نوكيا"، بعد أن أخذت جميع الموافقات على الطباعة – وروايتي هذه كنتُ قد طبعتها في مصر عام 2014، وفي ذلك الحين أرسلت لي الدار التي شاركت في معرض الرياض في السعودية أن "نوكيا" كانت من أكثر كتبها مبيعاً في المعرض! فتأملت أن يكون حظها وفيراً في معرض الكتاب، لدرجة أن شعوري كان يشبه إعادة توطين المهجرين الذين نزحوا من بلدهم بسبب الحرب، ومن ثم عادوا إلى بيوتهم كي يعيدوا إعمارها.
مرت الأيام بطيئة حتى جاء يوم التوقيع باسماً كما هو اسمي، فسافرت إلى الشام، وعند الساعة الرابعة ظهراً من السابع عشر من أيلول، جرّدتُ قلمي وقلت لأبي تمام: "القلم أصدق إنباء من السيف"، لكن سيف مسرور جلاد الرقابة كان بالمرصاد، فلم يكتفِ بقطع رأس "نوكيا" بل قطع رأس "تماماً قبلة"، والسبب القريب لهذا المنع على الرغم من الموافقات كافة، رقابة جديدة تفتّقت في عقلية الرقابة ألا وهي: الرقابة الديمقراطية، التي تعني بأن أحد القرّاء من زوار المعرض لم تعجبه كلمة أو جملة أو محتوى في كتاب ما، فيخبر الجهة المنظمة للمعرض، وبكل حسن نية وثقة بالقارئ الرقيب تقوم الجهة المنظمة لمعرض الكتاب بحظر الكتاب المقصود، وسحبه من التداول في المعرض، ولن تنفع معه كلّ كواسر البروكسي في العالم.
تحوّل فرحي في معرض الكتاب إلى ترح، ولكن تفكّرت بسقراط الذي أُعدم بفارق خمسين صوتاً عن الذين رفضوا إعدامه. هكذا انتصرت رقابة القارئ على إبداع الكاتب وخطر في بالي أيضاً، المثل الذي تقوله الأم لولدها العاق: "قلبي عَ ابني وقلب ابني عَ الحجر"، فأنا أشبه هذه الأم، لا أكتب لنفسي فقط، بل للقارئ الذي غدر بي وأصبح عسساً لصالح الجهة المنظمة للمعرض دون علمه - إن افترضنا حسن نيّته- بأن جعلته دريئة تحميها من هجومنا عليها قائلة: منعتُ الكتاب بناء على رغبة هذا القارئ الخفيّ -لا أعتقد أنه حقاً من بين القرّاء- الذي رأى بأن الكتاب يخلّ بالأخلاق والآداب العامة!، لكن يا عزيزتي الرقابة ألم يكن هذا القارئ الخفي في عام 2009 عند طباعة المجموعة القصصية لأول مرة، أم أنه كان مازال صغيراً يراقب الثقافة من خلال (لهّاية) في فمه!؟
وكما فعل سقراط يوم إعدامه، استحمَّ كي يكفي النساء مؤنة غسله كما يذكر التاريخ، استحممت بدموعي وقلت: "إن خبر المنع وسحب التداول للمجموعة القصصية والرواية أفضل دعاية لهما، وابتسمت كقط أليس في بلاد العجائب وأنا أتذكّر عبقرية ميكافيلي!".
سياسة الموافقات مع وقف التنفيذ
لا يمكن طباعة كتاب في سوريا قبل أن يأخذ جميع الموافقات، حتى من الذباب الأزرق الذي يبيض على الجثث لو دفنت في سابع أرض، والموافقات ودهاليزها لا تأخذها إلا من باب الاتحاد، ومن ثم تخرج منه إما مانعة أو سامحة بالنشر، وهكذا يصبح اتحاد الكتاب لدينا يُحيي ويميت كما فرعون النبي موسى، لكن يا حسرة على الكاتب، فهو لا يستطيع أن يخرج من صدره يده بيضاء من غير سوء، ولا قلمه يشق الصخرة كما عصا موسى التي تتحول إلى أفعى عند الضرورة، وهكذا يطوي الكاتب رقبته أو ذيله ويعود خائباً إن منع كتابه، أو يضحك كما سارة عندما بشّرها الملاكان بأنها حامل.
كنتُ مع الموافقات على كتبي كما سارة زوجة النبي إبراهيم، فقلت: إن أكبر إحساس يعيشه الكاتب أن يرى كتبه على رفوف المكتبات والمعارض وبين أيدي القراء، ألم يبشر الإله إبراهيم أن نسل ولده سيكون كرمل البحر، لكن هيهات أن تكتمل السعادة لأن الاتحاد الذي يمنع ويسمح، صمت تماماً عن حقوقه وحقوق الكتّاب الذين مُنعت كتبهم في معرض الكتاب، فلم نسمع له صوتاً (يشجب ويستنكر ويدين) تصرفات الجهة المنظمة لمعرض الكتاب، فأصبح حالي بدلاً من رمل البحر مجرد حفنة من الرمل في ساعة رملية، تقيس الوقت لكن لا تحياه.
عزيزي اتحاد الكتاب: أنا لست عضواً منتسباً ضمن هيئتك، لكن بحكم الجيرة والشبه، ولأني "أتعاطى" الكتابة الأدبية، كان من واجبك الأخلاقي أن تسمعنا صوتك المعترض على ما يحدث من سحب للكتب ومنع تداولها في المعرض، ألم يقل كانط أجعل من فعلك وعملك كأنه قاعدة عامة على مستوى العالم، فالمبادئ لا تتجزأ!
عزيزي اتحاد الكتاب يقولون: إن هناك أكثر من 300 كتاب قد مُنع، طبعاً بعد أخذ الموافقات سابقاً عليها، وحتى نهاية المعرض سيكون العدد أكبر ما دامت رقابة القارئ الجديدة أشد ويلاً على الكتّاب، فاحذر عزيزي اتحاد الكتاب، فالحديث الشريف يقول: لا ينسب لصامت قول! فلا يعوّل عليك بعد ما حدث!
لا يمكن طباعة كتاب في سوريا قبل أن يأخذ جميع الموافقات، والموافقات ودهاليزها لا تأخذها إلا من باب الاتحاد، ومن ثم تخرج منه إما مانعة أو سامحة بالنشر، وهكذا يصبح اتحاد الكتاب لدينا يُحيي ويميت كما فرعون النبي موسى
على الكاتب السوري من واجبات دون أن تكون له حقوق عند رقابتنا... كان المعرض مليئاً بالروايات الأجنبية المترجمة، والتي فيها ما هب ودب من سياسة وجنس ودين، لكن رقابتنا تعاملت مع كتب غير السوريين وفق الأعراف الدبلوماسية
التكاثر الجنسي بالأبواغ
على ما يبدو أن الرقابة لدينا تريد من الكاتب السوري إن ذَكر الجنس في كتبه أن يصف لقاء الذكر والأنثى بلقاء نباتي، لأن رقابتنا ضد أكل اللحوم، فهي نباتية في المنهج الجنسي.
هذا عن الجنس أما عن الدين، فبإمكانك التكلم عن ديانة الأمازونيات، وإذا تحدثنا عن السياسة، فالأفضل أن تكتب عن كيفية تحويل النحاس إلى ذهب، لأن علم السياسة لدى رقابتنا تطور عن علم الخيمياء والسحر ومن أبوابه: جلب الحبيب إلى سيارة الجيب وفكّ المعقود من مربى المعقود.
وبعد أن ذكرنا ما يتوجب على الكاتب السوري من واجبات دون أن تكون له حقوق عند رقابتنا، نأتي على ذكر الكاتب الأجنبي ولأن المثل يقول: "الفرنجي برنجي"، كان المعرض مليئاً بالروايات الأجنبية المترجمة، والتي فيها ما هب ودب من سياسة وجنس ودين، لكن رقابتنا تعاملت مع كتب غير السوريين وفق الأعراف الدبلوماسية، التي تحمي سفارات الدول في البلاد التي تكون فيها، فلم تقرب رقابتنا الكتب الأجنبية إلا بالتي هي أحسن، فهم سياح وضيوف، وعيب علينا ألا نكون كحاتم طي، فنذبح الكاتب الوطني لأجل عيون الكاتب الأجنبي ونطعمه حتى الشبع طوال أيام المعرض.
عند باب المعرض
قصتي مع باب المعرض قصة لها في قلبي غصة، فلقد حدث أني جئت المعرض في اليوم الثاني، وكنت متأبطاً كتبي " تماماً قبلة – مخلب الفراشة"، فاستوقفني أمن الباب وقالوا لي بكلّ احترام: ممنوع إدخال الكتب إلى المعرض!؟ فقلت لهم: هذه كتبي، فلم يستجيبوا، وحجزوا الكتب كأني متأبط شرّاً إلى أن قدر الله أمراً آخر، فيما بعد!
في كل مكان في العالم تعتبر الكتابة هوية للكاتب إلا في معرض دمشق للكتاب.
ولكي ننهي هذا المقال، لأن العبرة فيما قلّ ودلّ كما تقول العرب: ستبقى دمشق الكتاب على الرغم من الرقابة الديناصورية، وكل معرض منع كتب وأنتم بألف خير.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...