شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
عربٌ في أمريكا… هرب من السياسة والحبّ ولقاءات صادمة مع

عربٌ في أمريكا… هرب من السياسة والحبّ ولقاءات صادمة مع "الحلم الأمريكي"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

السبت 21 سبتمبر 201906:57 م

أقفُ في طابور طويل يمتد لآخر شارع توفيق دياب، في جاردن سيتي في القاهرة، من طوله ظننت أنهم يوزعون على الجميع الفيزا ببلاش. في انتظاري الطويل الذي دام ساعة، استغرقتُ في فكرةٍ واحدة، وهي لمَ كل هذا الحماس والرغبة المُلحّة في ترك البلد؟ ولمَ أنا أقف هنا وقلبي تتصارع نبضاته؟ ملامحُ منقبضة تكسي الوجوه، ترمقني إحدى المُنتظرات في الطابور بلفتاتٍ عصبية قائلة: "أنا خايفة أترفض تاني".

الحلم الأمريكي؟

الحلم الأمريكي هو أن يعيش نخبةٌ من البشر المُختلفين عن بعضهم البعض فوق نفس الأرض، آملين بحياةٍ أفضل لهم ولذويهم، مع حق الحصول على الفرص وفقاً للقدرة والإنجاز. ولكن الحلم الأمريكي العربي كان مُختلفاً تماماً عن هذه الكلمات المُتسقة المصفوفة في سطرٍ واحد.

أتذكر أني شكّلت أفكاري الأولى عن "الحلم الأمريكي" من أبي، كان يُحدثني عن صديقه الذي هاجر وأخذ الجنسية الأمريكية ونقل كل عائلته معه إلى نيويورك، مُضيفاً أنه بدأ العمل في البداية بطريقةٍ غير قانونية، ومن بعدها سلك طريق المحاكم حتى تمكّن من الحصول على أوراق الإقامة بطريقةٍ قانونية. وحين أصبحتُ في التاسعة عشر من عمري، بدأت أتأثر بأفلام يوسف شاهين بشكل ما.. أفلام مثل: "إسكندرية ليه"، و"إسكندرية نيويورك"، و"عودة الابن الضال"، والتي تتناول فكرة السفر في سن صغيرة، والتشتت بين فقدان أرض الوطن والرغبة الحقيقية في السفر بحثاً عن العالم الأوسع، وعن أرض الحريات والفرص.

يعتقد البعض بأن وهج "الحلم الأمريكي" كان محصوراً بشباب جيل السبعينيات والثمانينيات، ولكن هذا الحلم الوردي لا يزال يراود شباب أواخر التسعينيات، ومازال يراودني.

ولكن الشرق الأوسط لا مجال فيه للأحلام الوردية في الوقت الراهن، والفرار من الحرب والموت غريزة إنسانية ولا توجد فيها حلول وسطى، فلا طريق سوى الهرب لهذه الأرض أو لغيرها.

لاجئون في أمريكا

يقول قيس،30 سنة، من بيت لحم في فلسطين: "كنا نعيش في بلدةٍ تقع في قضاء بيت لحم، في ظل الاحتلال الإسرائيلي... كان الشهيد محمد تنوح ماضياً في طريقه وحاول التهجم بسكين على أحد الجنود الإسرائيليين، فضربوه بالنار. مخّه سقط أمامه ... وأمي امرأة شجاعة ركضت باتجاهه بجلبابها الأسود، شجاعة لدرجة إنها رفضت الهرب معي. لكني لم أستطع مزاولة حياتي بعد أن قُتل جاري. أتعرفين؟ أتوق للموت كل يوم ولكني أنتظر حقي في العودة للوطن. اشتقت لفلسطين".

يعمل قيس في شاحنة مُتنقلة تقدّم الأكل العربي، يقف بها أمام شركة أمازون.

يستكمل حديثه وهو يشيح بوجهه بعيداً: "كنت صحفياً مثلك تماماً"، أضاف، وتابع: "ماذا أفعل أنا الآن؟ أعمل بين السندوتشات لمدة عامين كاملين، وفي طريقي كل يوم للأحياء الفقيرة التي تضم أعداداً من المهاجرين الذين هاجروا لأسبابٍ اقتصادية، أرى المُشردين العراة على جانبي الطريق يضاجعون بعضهم البعض، ومشهداً لامرأة تفك سروالها لتتبول في الشارع، ومشهداً آخر أرى فيه رجلاً عارياً يأكل الطين وحشائش الأرض، ليسب ويلعن كلاً منا لأننا لا نروي طينه بالمياه، فلا يزهر من قضيبه فلاً ولا ياسميناً".

ابتسم له كل صباح، وأساله: كيف حالك اليوم يا قيس؟".

ولا تأتيني منه إجابة سوى صمت مُطبق ونظرات كئيبة تحملق في المدى المفتوح.

أتساءل: هل هذه هي الحقيقة القبيحة التي بحثتُ عنها وراء وجه أمريكا الرأسمالي الرغد؟

أما المعلم حمزة، ابن الأربعين عاماً من بيت لحم في فلسطين أيضاً، قال: "اشتقت أن تصحبني في الحياة امرأة عربية لها تقاسيم واضحة وبشرة سمراء، ألمس في شعرها المموج دفء وطني المُحتل، لذلك تزوجت فلسطينية وأنجبت منها ابني البكر داوود."

المعلم حمزة رجل عصامي مُتحرّش وذكوري للغاية. يمتلك محلاً لتحضير الأكل العربي. يتلذذ بفعل سبِّ وإهانة الأمريكان بالعربية في منتصف الطريق. غضب عارم يطويه تحت جلده، ويمكن أن تلمحه من حين إلى آخر في جملته المتكرّرة: "أنتم صهاينة ولاد شرموطة".

حصل حمزة على الجنسية بزواجه من أمريكية على الورق دون أن يعاشرها، فقط دفع لها مقابلاً مادياً حتى تتبرع له بشهادة أمام المحكمة بأنه زوجها، بعد ذلك طلقها باتفاقٍ مسبق بينهما. وبعد أن أصبح له وجود قانوني في أمريكا، بدأ ببذل مجهود صادق في مساعدة الآخرين للحصول على حقوقهم من أمريكا.

يسألني كلما أُتيحت الفرصة: "لمَ لا تريدين كسر الفيزا والبقاء هنا في أمريكا؟ ليس لكِ مُستقبل في مصر. سأساعدك في الحصول على الجنسية. لا تقلقي".

حاولت دائماً أن أحادثه بالمنطق وأناقشه عن مشاعري المُركّبة تجاه مصر، وعن افتقادي السير في شوارع أعرفها. أفتقد الحياة الحقيقية وسط بشر يشبهونني، حتى أني أفتقد صوت البائعين المتجولين في المترو وهم يصرخون طلباً لحياة آدمية أفضل.

يصرخ بغضب في وجهي: "تُحبين الفقر"، ثم يتراجع قائلاً: "وأنا أيضاً أحبّ الفقر طالما أحيا في وطني…".

أتساءل: إلى أي حد تدفعنا الغربة للسقوط إلى الأسفل؟

يقول عبد الفتاح، 33 سنة، من طنطا المصرية: " تمنيت أن أتزوج من أسماء، حبيبتي الأولى والأخيرة. طالما حاولت أن أستدعي ملامحها من جديد وأتذكر كيف كانت تبدو أيام الدبلوم، مرت سنين ثقيلة من الهجرة وكل منا راح لحال نصيبه. لن أسامح أبي أبداً".

ترك عبد الفتاح، المُلقب بـ" السيسي"، مصر وهو في الـ 20 من عمره، بعد أن تسبب والده في فشل قصة حبه الوحيد. اتجه في البداية إلى دبي ليعمل بمطعم هناك لمدة 5 سنوات، ثم أرسلت له أمه أن يعود فوراً إلى مصر ليتزوج من ابنة خالته.

" عدت إلى مصر والخواء يملؤني"، قال، وتابع: "ما باليد حيلة سأفعل ما يريدون وأطوي جرحي بجرح أعمق، سأطويه بآلام الغربة".

ويتابع: "تزوجتُ من ابنة خالتي وهاجرت إلى أمريكا بعد أن أنجبت ابني البكر أيمن، والذي لم أره سوى 40 ساعة. مضى الآن 5 سنوات ولم أره إلا من خلال هذه الشاشة المُضيئة التي أبصق فوقها لأرى ابني في هيئة أنظف. تتساءلين لمَ يغادر رجلٌ مثلي، وفي نفس حالتي الاجتماعية والمادية الضعيفة، البلاد بسبب قصّة حب فاشلة؟!".

ويضيف: "هذا جزء صغير من الحقيقة. لن أنكر أني غادرت في البداية بسبب ذلك. أما الآن فأنا عالق من رأسي حتى قدمي في عملية معقدة من سلسلة محاكم ألجأ إليها، زاعماً بإني تركت مصر فراراً من ثأر يلاحقني، ولن أستطيع العودة إليها بعد أن أصبحت من كاسري الفيزا".

أتساءل: إلى أي مدى نتوقع من الحب أن يشق لنا السماء المُلبدة بالغيم الثقيل؟

الحلم الأمريكي هو أن يعيش نخبةٌ من البشر المُختلفين عن بعضهم البعض فوق نفس الأرض، آملين بحياةٍ أفضل لهم ولذويهم، مع حق الحصول على الفرص... ولكن الحلم الأمريكي العربي كان مُختلفاً عن هذه الكلمات المصفوفة في سطرٍ واحد

لا مجال في الشرق الأوسط للأحلام الوردية في الوقت الراهن، والفرار من الحرب والموت غريزة إنسانية ولا توجد فيها حلول وسطى، فلا طريق سوى الهرب لهذه الأرض أو لغيرها

تتطوف عيون يزن الفلسطيني، 23 عاماً، من نابلس، ويفتحهما على آخرهما، وكأنه يراقب الأحداث التي جرت له بشكل واضح المعالم.

يقول: "كنت أستعد لامتحانات التوجيهي، اتصل بي عمي يستغيث من الصهاينة الذين شرعوا في حرق أرضه. توجهت إليه في الحال أنا وكل شباب العائلة. اشتبكنا معهم، استوليت على سلاح أحدهم وأطلقت رصاصاً في الهواء، فأصبت ذراع واحد منهم دون قصد مني".

استكمل يَزن قصته وهو يلف بأصابعه القوية عشب الأرض ويلويه يميناً ويساراً: " دقوا على رؤوسنا الأبواب ليلاً، فتح لهم أخي حمودة، ولأننا توأم اشتبهوا فيه وأخذوه إلى السجن رهناً حتى تُدفع الكفالة أو أسلم نفسي. كالفأر هربت إلى إسرائيل وعملت هناك بشكل غير قانوني لمدة 3 سنوات".

سألت مُستنكرة: عملت لدى العدو؟

قابل نظراتي بسخرية: "أنتم العرب لا تعلمون شيئاً عن طبيعة الحياة في فلسطين، ولا تتخيلي قدرتنا على التحمّل. ولكن ما نتيجة هذا ولا أحد يحرك ساكناً؟ ونحن قوم لا نمتلك جيوشاً حقيقية. سيُباد جنسنا إلى الأبد وأنتِ تُحدثينني عن الوطنية والمقاومة. سُلبت الأرض والعرض والهوية. لا أبكي على شيء ولا أشعر بالخزي لأني كنت أعمل مع المدنيين في إسرائيل".

قلتُ بعنفوانٍ مُنكسر: اسمها فلسطين المُحتلة.

ضرب بيده فوق الأرض بعد نحله للعشب كله: "إسرائيل موجودة، لقد احتلوا الأرض ونسبوها لأنفسهم... كفى شعارات لا معنى لها".

وصل يَزن إلى أمريكا بعد مطاردات من الشرطة وحبسه وتعذيبه لمدة 8 أشهر. برغم ذلك يحلم في كل صباح بأن يكون له أسرة ويعيش بشكل مُستقر، وأن يجول مع زوجته كل بلاد العالم.

وأنا أتساءل: ما جدوى الحلم؟ 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image