لا يمكن تجاهل كيف أضحى كل من الفن والثقافة عذرًا أساسيًا أو مبررًا اجتماعيًا يُسمح ل"ممارسيه" أو متبنيه - غالبًا - بما هو غير مسموح اعتيادًا. أو أنه أكثر راحة للمجتمع أن يسند كل ما هو كذلك إلى طبيعة ”شذوذ“ العنصر (أيّ الفنان) عن التناسق المتعارف، بحيث يضحي الفنان، هو ”الشاذ“ بنظر المجتمع، الذي يدخله إلى المنظومة اليوميّة تحت وسم "فنان" كتشخيص أو تهمة، والتي يشكل جزءًا أساسيًا منها عدم القدرة على التنبؤ بما قد يصدر عنه، لتجنب حالة القلق المصاحبة لهذه الحيرة. وهكذا تدور حلقة العلاقة.
من هنا ينبع التوجه، بأن وجود "المستقل" أو البديل ليس فقط مستقلًا بالمعنى الاقتصاديّ والسياسيّ، بل هو أيضًا بديل لمجتمع يقصي غير الاعتيادي.
من هنا ينبع التوجه، بأن وجود "المستقل" أو البديل ليس فقط مستقلًا بالمعنى الاقتصاديّ والسياسيّ، بل هو أيضًا بديل لمجتمع يقصي غير الاعتيادي. ومن المفهوم ضمنًا أنّ الفن بجوهره يعطي حرية ما قبل الحرية التي تأتي مع الانتفاء عن التيار السائد؛ مثل حرية القرار الشخصيّ، فيكون من الطبيعي أن ترتبط الأجواء الثقافيّة بأجواء المتعة الشبابية.
إغراء أو ثنائيّة البار والمنصة
بينما تجتاح المؤسسات الثقافيّة والمشاريع المرتبطة بالتمويل - الخارجي غالبًا - تحت إطار التنمية في الضفة الغربيّة، وبالأخص رام الله، كونها مناطق فلسطينيّة، والتي احتكرت وحددت إلى حد ما شروط الإنتاج الثقافي بالطرق المباشرة وغير المباشرة. تغيب مثل تلك المساحات الثقافيّة العربيّة مثل صالات العرض، دور السينما، كليات الفنّ، المراكز الثقافيّة، وفي حديثنا هنا الفلسطينيّة بهويّتها، عن حيفا، التي تعتبر أيضًا بؤرة ثقافيّة محليّة، كما رام الله. لكن في حيفا، كفضاء لخلق ثقافيّ وفنّي فلسطيني، تنتشر ظاهرة البار والمنصة.
في حيفا نجد البار، وهو البار بذاته حيث تباع المشروبات الكحوليّة وغير الكحوليّة أيضًا، هو في الوقت نفسه بمثابة مساحة للحياة الليليّة، وأيضًا مكون أساسي للفضاء الثقافيّ والفنيّ. فمن جهة، بحكم كون البار عاملًا جاذبًا للشباب إلى المكان، وفي حديثي عن الشباب هنا، أقصد طبقة ذات توجه فكريّ متحرّر وليس فئة عمريّة، يكون البار، السبيل الأكثر ملائمة أو الوحيد لتحقيق استقلاليّة اقتصاديّة لهذه المساحات، حيث لا تمويل خارجي من الاحتلال وغيره، إذا لا شروط تُفرض عليها.
والنتيجة بذاتها سبب، حيث أن مثل هذا الارتباط بأجواء متحررة من المجتمع، يجعل الثقافة بأنواعها، محط أنظار ووجهة مغرية للجوء، فيرغب ويبحث الجمهور الشبابي عن أدنى علاقة/ اشتراك بذلك المشهد.
من خلال ممارسة الفن أو، إن لم تنجح تلك، مرافقة الفن وممارسيه بما يأتي مع ذلك من الحماس والشعبية. قد يظهر هذا بوضوح في الموسيقى المحلية بالذات، الازدياد الملحوظ في عدد الموسيقيين أو منتجي الموسيقى، التي في معظمها إلكترونية أو نسخة بيتية الصنع من الـDJ - ملائمة لحفلات الشباب الصاخبة - والتي لا بدّ منها في بداية ونهاية أي عرض موسيقي حي للحفاظ على الجماهير متدفقة.
لكن في الوقت ذاته، فإن الأعراض الناجمة لا تعطي انطباعًا بتيارٍ تجددي في العمليّة الثقافية.
كمعظم الظواهر في العصر الحالي، تنتشر الميول بالعدوى، وهذا لا يعني بالضرورة سطحيّة الميول أو أنها مختلقة تمامًا، لكن لا يمكن الفرار من ملاحظة كون هذا النزوح إلى الشكل الثقافي أو الفني "س" مرتبط بموضات عابرة معينة. وهذا ينبع من عدة عوامل، أكثرها بروزًا هو تشكيل بدايات للمشهد الثقافيّ الفلسطينيّ على مستوى شعبي في مرحلة تتسم بالتزامن اللحظيّ، أي انتشار الأشكال الفنيّة الجديدة وغيرها, في حيفا وخارجها، أي سرعة شيوع أي ظاهرة بدون علاقة لمستوى المعرفة النظرية والوعي الفكري العام لزائري المشهد ومضيفيه.عامل آخر هو الذوق العام لرواد المشهد والمساحات، جماهير تلك المساحات، المبني على أسس استهلاكية، بالتالي يتم توجيه أعداد هائلة من الجماهير/المستهلكين نحو الشكل المعيّن ذلك أو كحدّ أدنى لفت انتباههم له في لحظات متقاربة جدًا. فيشيع شكل فني معين، وينتج ويستهلك بكميات المسافة الزمنية بينها شبه معدومة، وبالتأكيد غير كافية حتى يأخذ التطور التاريخي للشكل الفني وقته في دراسة إمكانيات هذا الشكل الفني الذي يستنزف على المحل، التيار السائد في قلب التيار البديل.
مساحات حيفاويّة
بنظرة إلى الممارسات والإنتاجات المختلفة لبعض نماذج الفضاءات الثقافيّة في حيفا، الواضح هو أن معادلة البار والمنصة تنجح في تحقيق نوع من الاستقلاليّة المادية للفضاء، وبذلك تتخطى مرحلة إيجاد القاعدة الماديّة اللوجستيّة لتحقيقها. من هذه الفضاءات، نتحدث عن ”المنجم“، وهو مساحة عرض وتجريب بصرية بعيدًا عن دور العرض التجاريّة، يتجلى فيه جوهر الحاجة التي دفعت لخلق فراغ من هذا الشكل، مطلب التحرر من أيّ قيود تحدد موضوعات وطرق تنفيذ الإنتاج الفني والثقافيّ في الفضاء، استنادًا على إيمان قائميه بأن "الفنّ لا يمكن أن يتحقق في حيفا على غرار قواعد المؤسسات في الضفة الغربيّة، شروط تفرضها ثيمات المعارض، وممنوعات المجتمع التقليديّة..الخ". أما "مساحة"، فهو فضاء بدأت فكرته كاستوديو تصوير وقاعة تسجيل وتدريب، بحكم نقص مثل هذه المساحات في الفضاء الفلسطينيّة، وحاجة العديد الفنانين خاصة الفرق الموسيقية لمثل هذه المساحات. أمّا ”بار وجاليري فتّوش“، فهو جاء لتلبية الحاجة لوجود غاليري فلسطيني للفنون البصريّة. وفي ”كباريت“، نجد أنه تأسس على حاجة خلق مساحة عرض موسيقيّة افتقدها المشهد في مرحلة ما، وغيرها.
تيار غير تجديدي
صرعة فنيّة
قد يعزى ذلك أساسًا إلى اكتفاء مؤسسي المساحات الحرّة بالخطوة الأوليّة - المهمّة - ألا وهي خلق مساحة فيزيائيّة لها، والتي حلّ الحاجة دون وجود رؤية أوسّع لما قد تقدّمه أو تساهم به على صعيد مستويات الإنتاج، الحاجة الأساسية النابعة من نقص "المستقلّ" الذي يبحث في حرية اللاقواعد عن فرار- التجريب في التوجه، كما يعتقد - قد يكون الأبرز من الأمثلة في عروض الأداء الموسيقيّة، التي تنظّم نفسها فنيًا كي تبقى آمنة محاطة بجمهور الملهى، أي تبقى قابلة للرقص معها-. مع و/ أو بالتالي هروب وعذر من إطلاع على تاريخ ثقافيّ أو فني غير محدود بمكانيّة معينة، والذي هو أساس لأي رؤيّة فنيّة ناقدة وبديلة بالمعنى الحقيقيّ. فيغيب حضور الرسالة الفعّالة التي تطلع إلى خارج الفضاء، وإلى البحث الأعمق في هوية الممارسة والإنتاج بعلاقة مع واقع وجوده. أسئلة كالتغيير الذي تهدف له على مستوى حتى مفهوم المجتمع بذاته، فيبقى تطوير مفهوم مجتمع جديد يؤسس له بشكل تلقائي مع نشوء مساحات مثل تلك، وبتلك الطريقة غائبًا أو بعيدًا عن الممارسات المرتبطة بتلك المساحات.
حيث يضحي الفنان، هو ”الشاذ“ بنظر المجتمع، الذي يدخله إلى المنظومة اليوميّة تحت وسم "فنان" كتشخيص أو تهمة، والتي يشكل جزءًا أساسيًا منها عدم القدرة على التنبؤ بما قد يصدر عنه، لتجنب حالة القلق المصاحبة لهذه الحيرة.
حيفا، التي تعتبر أيضًا بؤرة ثقافيّة محليّة، كما رام الله. لكن في حيفا، كفضاء لخلق ثقافيّ وفنّي فلسطيني، تنتشر ظاهرة البار والمنصة.
في حيفا نجد البار، وهو البار بذاته حيث تباع المشروبات الكحوليّة وغير الكحوليّة أيضًا، هو في الوقت نفسه بمثابة مساحة للحياة الليليّة، وأيضًا مكون أساسي للفضاء الثقافيّ والفنيّ.
ما العمل؟
يكمن الإغراء الحقيقيّ في عملية إنشاء مثل تلك الفضاءات، ومما لا شك فيه أن مثل هذه البوادر التي تعتمد على التعاونيّة، التي تُؤخذ على عاتق الفرد في ظلّ غياب مؤسّسة حقيقية في صف الفلسطينيّ داخل أراضي الـ 48، هي الأكثر ملائمة، بل صحيحة وصحيّة جدّا. وهي تأتي ضمن إطار فكريّ معاكس لما تحاول الثقافة الاستهلاكيّة، بل والقوى السياسيّة أن تقيمه من الانصياع لما تقدّمه من حلول وإهمال إمكانيّة وحدة شعبيّة مشروطة بالحرية الفكريّة للجميع. ولكن الاستثمار ليس فقط الماديّ منه، حيث يبقى من الإمكانيّات غير المستغلة مثل هذه المبادرات التي هربت من إقصاء معيّن بالأساس، وجوهر مثل هذه المبادرات الذي ينبع من حاجة إدماج أكبر أن يضعها في المقدمة لتمتد إلى التيار السائد للتفكير كيف يمكن أن تتخطى كونها أوعية تحتوي المشهد الحالي بضوابطه ”البديلة"، إلى محرك يؤسس لرياديّة في الهويّة الثقافية الفلسطينيّة كجزء من بديل مجتمعي فعلي ومستقل تنشأ في داخل تلك المساحات وتمتد لخارجها ليس فقط في حيفا، بل لتصل كل فلسطيني يبحث عن انتماء بديل. انتماء يبدأ في الثقافة ثم يبحث في بنية تحتية اجتماعية أوسع تحتضن نزعات تحررية سياسية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...