تحضر مؤخّراً في برلين، الثقافات القادمة من المنطقة العربية بحضور أصحابها، هذا الحضور المكثّف لا يعني غياب الثقافات العربية عن العاصمة الألمانية قبل العام 2015، أي العام الذي وصلت فيه مجموعة كبيرة من اللاجئين السوريين في ظلّ المأساة السورية، بالتزامن أيضاً مع موجات هجرةٍ فرديةٍ اختيارية من بلادٍ عربيةٍ عديدة، في ظلّ ظروف شخصية وعامة.
لكن بمتابعةٍ يوميةٍ للمشاهد الثقافية في المدينة، بلا إحصائياتٍ وبحثٍ معمق، بإمكان ملاحظة أن الإنتاج الثقافي العربي في برلين، ما بين الموسيقى والأدب والمسرح وحفلات الرقص، بغالبيته هو القادم من بلاد الشام (سوريا، لبنان، فلسطين على وجه الخصوص)، من ثم مصر ودول شمال أفريقيا بنسبةٍ أقل.
هذه الملاحظة لا تعني الغياب التامّ الثقافات التونسية والجزائرية والمغربية عن المدينة، بل مؤخراً هنالك توجه لدى بعض الفضاءات الثقافية للعمل على حضورٍ أكبر للثقافة الشمال أفريقية، العربية منها والأمازيغية، وهويّتها الأفريقية الحاضرة.
من هذه الفضاءات مؤسسة "ورشة الثقافات" (Werkstatt der Kulturen) التي تعنى بالثقافات التي تعيش في برلين، خاصة ثقافات المهاجرين وموسيقاهم، والتي أقامت للسنة الثانية على التوالي، مهرجان موسيقى الغناوة (أو الڭناوة أو الڨناوة)، الذي يُقام على مدار ثلاثة أيام في المركز، وكان قد بدأ فعاليته لهذا العام في موكبٍ مشى في شوارع برلين ترأسته موسيقى الغناوة، التي جاءت بها الفرق المغربية المشاركة.
في حديثٍ لرصيف22 مع القائم على المهرجان، الموسيقي والمؤلف المغربي علاء زويتن، المولود في مدينة اليوسفية حيث درس الطب والموسيقى، ثم قاده حبّه للموسيقى إلى ألمانيا لاستكمال دراسته في علم موسيقى الشعوب، قال: "فكرة المهرجان الكاملة جاءت ضمن فعاليات جلساتٍ موسيقيةٍ ننظمها، والتي تدور كلّ مرّة حول موسيقى ما، كالموسيقى العربية، موسيقى اليهود، البلقانية وغيرها، وعندما جاء دور موسيقى الغناوة خلال عام 2018، لم تكن لدي فكرة عن أماكن تواجد موسيقيي الغناوة لاستضافتهم، وعندما بحثت وجدت أربعة موسيقيين يعيشون في غرب ألمانيا، قمنا بدعوتهم وكان حفلاً رائعاً لدرجة أننا في اليوم الثاني بدأنا بالتخطيط لإقامة مهرجان سنوي".
يعود الاسم "غناوة" أو "كناوة" إلى مجموعةٍ عرقية في المغرب، انحدرت من سلالة "عبيدٍ" أُحضرت إلى الامبراطورية المغربية نهاية القرن السادس عشر ميلادي، من أفريقيا السوداء الغربية، والتي كانت تُسمى آنذاك السودان الغربي أو إمبراطورية غانا، والتي هي دولة مالي حالياً. جاء الاسم حرفياً من "كينيا"، أو "عبيد كينيا" كما كانوا يطلقون عليهم، قبل أن يندمجوا في المجتمع المغربي ويشكّلوا واحدةً من أهم مركّباته العرقية الثقافية.
في حديثه عن موسيقى الغناوة، قال زويتن: "الغناوة هي طريقة صوفية تابعة لبلال الحبشي، لذلك فهي كثيراً ما تناجي الإله والرسول وأصحابه وآل بيته، اختصَّ بها المجتمع الأسود المغربي ومستمرّة منذ زمنٍ طويل. تتوزّع الطريقة في شمال أفريقيا، ورغم التشابه بينهما إلّا أنها تختلف نوعاً ما من بلدٍ إلى آخر، ومن مدينةٍ إلى أخرى".
ويتابع: "فمثلاً في المغرب يُطلق عليها الغناوة، وفي الجزائر تسمى بالديوان، أما في تونس فاسمها اسطمبالي وفي مصر الزار. وهي موسيقى من تراث العبيد الذين استقرّوا في شمال إفريقيا، وتعتبر موسيقى المقاومة، لأن هؤلاء اندمجوا في المجتمع المسلم واعتنقوا الإسلام وأصبحوا يتحدّثون العربية، بعدما كانوا يتحدّثون لغات مختلفة جنوب صحراوية في الأصل، ولكنهم حافظوا على موسيقاهم. كما أن هنالك نظرية تقول بأن "القراقب"، وهي الآلة المعدنية الثقيلة التي تُضرب دفتيها ببعضها البعض، لتكون إحدى الآلات الأساسية في هذه الموسيقى، هي في الأصل سلاسل العبيد التي استخدموها كأداةٍ موسيقيةٍ آنذاك".
في نسخة المهرجان لهذا العام، والتي أقيمت في شهر آب/ أغسطس 2019، شارك مجموعة من فناني الغناوة، والجديد فيه كان الموكب العام الذي سار في شوارع المدينة بالإضافة إلى "الليلة"، وهي طقس كامل استمر لمدة 7 ساعات بكل تفاصيله من موسيقى، رقص، وأغانٍ متنوعة، تتضمن عدداً من الدوائر التي تُمجّد الله والرسول والصحابة، بالإضافة إلى التبريكات ومناداة ما يسموهم بالملوك (الجن)، كـ"شام هاروش" و"ميرا" والجنية "ميمونة"، وفي كل مجموعة هناك تشكيلة من الأغاني تسمى أطروحة، وفي كل دائرة لون معين، هناك 7 دوائر عادة لستة ألوان: الأبيض، الأصفر، الأسود، الأزرق، الأحمر والأخضر، فيما الدائرة السابعة لكل الألوان. يدير الدوائر عادة المعلم، محاط بـ"القراقبية" والمقدّمة التي عادة ما تكون امرأة، والتي تهتم بسير الليلة وتقدّم الحليب، التمر، ماء الزهر، الأواني والبخور، كذلك تساعد من يتعبه الرقص.
من الأشياء المثيرة في المهرجان، كان حضور أيضاً أصوات شابة مغربية مخلصة للغناوة وتقدّمها باحتراف، منها الفنان مهدي قاموم (26 عاماً) من مدينة أغادير وفرقته "ميديكامينت"، كما الفنانة أسماء حمزاوي (23 عاماً) من الدار البيضاء، والتي هي أوّل فتاة تحترف عالم موسيقى الغناوة وتؤسس فرقةً نسائية، بما في ذلك من تحديات، خاصّة أن فن الغناوة هو رجالي بامتياز.
"من خلال الروك تصل الغناوة"
في عرضه، قدّم مهدي قاموم جزئين، الأوّل هو موسيقى غناوة بقالبها التراثي الذي يتبع مدينته أغادير، والآخر دمج فيها التراث مع موسيقى الروك. عن هذا قال قامو في حديثٍ لرصيف22: "هذا شيء جميل. بنهاية المطاف، أنا أحمل سلاح تراث موسيقى الغناوة وأرغب بإيصالها إلى من لا يعرفها، أنقلها ببساطتها وصدقها، وهنالك من يتقبّلها وآخرون لن يتقبلوها، لكن، لو قدّمت للآخرين الغناوة برفقة جانر موسيقي عالمي، كالبلوز مثلاً، والذي هو بالأصل جانر أفريقي، على الأرجح سيحبه الجمهور ويستمع من خلاله إلى الغناوة".
ويتابع: "كذلك الأمر بالنسبة للروك، القريب مني على مستوى، ورأيت أن مزيجه مع الغناوة جميل، وقادر أن يحمل رسالتي إلى العالم لإيصال الغناوة للناس".
أقامت مؤسسة "ورشة الثقافات" التي تُعنى بالثقافات التي تعيش في برلين، مهرجان موسيقى الغناوة (أو الڭناوة أو الڨناوة)، وكان قد بدأ فعاليته لهذا العام في موكبٍ مشى في شوارع المدينة ترأسته موسيقى الغناوة، التي جاءت بها الفرق المغربية المشاركة
موسيقى الغناوة (أو الڭناوة أو الڨناوة) التي "تعتمد على آلات بسيطة كالقمبري والقراقب، بالإضافة إلى تقنيات المناداة والرد، هي عالية الإحساس، وتولّد شعوراً جمعياً من حولها... إنها إرث عالمي يجب مواصلة الحفاظ عليه والاحتفاء به"
الحضور الشبابي لتركيبة فرقة "ميديكامينت" كان مثيراً للاهتمام، لربما في الوقت الذي يبتعد فيه "الشباب" عن تراثه الموسيقي في بلادٍ عديدة، عن هذا يقول قامو: "في المغرب، وهذا رأيي الشخصي، لربما يكون صحيحاً ولربما لا، نستطيع أن نرى ابتعاد الشباب عن الثقافة المغربية، لأن الموسيقى التجارية طاغية على الأجواء. لدينا معلم في الغناوة يعرفه مليون شخص، بالمقابل سعد لمجرد يعرفه ثلاثة ملايين شخص. وأنا أحترم سعد لمجرد وأرى أنه استطاع إيصال الأغنية المغربية بطريقته، لكن أشعر بالمقابل أنه من المهم عدم تجاهل وإهمال التراث الموسيقي المغربي، والعمل بجهد لإيصاله إلى العالم".
ويتابع: "الغناوة قادرة على إيصال صوت المغرب إلى العالم، وأن تحكي عن المغاربة قصصهم في ظلّ استماع شريحة كبيرة من الشباب إلى الموسيقى الأمريكية وليس العربية… من المخجل أن نكون جالسين ضمن مجموعة، يُطلب فيها من شخص مغربي أن يغني أغنية مغربية تراثية، ولا يعرف أي أغنية. التراث كما قلت هو سلاح، الغناوة هي تراث المغرب والتي تؤكد أنه لدينا ما نقوله للعالم".
"التحدي ليس بنقل التراث، بل بأن يحبّه الناس"
لا تختلف هذه الروح التي تحدث بها مهدي قاموم عمّا قالته الفنانة الشابة أسماء حمزاوي في حديث خاص لرصيف22، والتي في إجابة عن سؤال حول أهمية أن تغني الغناوة في برلين، أو أي مكان آخر خارج المغرب، قالت: "أنا أنقل الثقافة المغربية. نحن مغاربة ونحب بلادنا ونحترم ثقافتنا. الغناوة هي ثقافة مغربية، ولي الشرف أن أوزّعها بالعالم وأعرّف الأجانب على موسيقى المغرب وأجعلهم يحبونها. نستطيع أن نعرّف الناس على ثقافة ما ومن الممكن ألا تعجبهم، لكن التحدي هو بأن نجعلهم يحبّونها. هذا دوري، من خلال الصوت الحنون، أن يحب الناس الغناوة، وعندما يعودون للبيت يبحثون عنها ويستمعون إليها، وهكذا نكون قد نشرناها في العالم".
وُلدت أسماء حمزاوي في الدار البيضاء (كازابلانكا) "في بيت غناوي"، حسب تعبيرها. والدها هو معلم غناوة ووالدتها مقدّمة. منذ أن عرفت الدنيا، مالت إلى الغناوة، وطلبت من أبيها أن يعلمها كل شيء. وتضيف: "ما من أبناء لوالدي، أنا وأختي فقط، ولم يكن والدي يناديني يا بنتي إنما يا ولدي.
وأراد هو أن أكون محترفة غناوة، وبدأت أعزف على الطبل قبل أن أوصل للقمبري… مع الوقت، دخلت الغناوة من بابها، وتعلمت القمبري عندما كنت في السابعة من عمري، وعزفت في مهرجان غناوة في الدار البيضاء عندما كنت في الثالثة عشر من عمري. عندما أصبحت في السابعة عشر، جمعت من حولي مجموعة من البنات، وأسسنا فرقة غناوة نسائية… منذ الصغر أردت أن أكون معلمة غناوة، أعزف القمبري وأسافر في العالم بصوتي الأنثوي، وهذا ما حصل ويحصل اليوم".
الغناوة إرث عالمي
لن تكون هذه نسخة المهرجان الأخيرة، حيث يرى القائمون على المهرجان أهمية مواصلة تسليط الضوء على موسيقى الغناوة، ضمن احتفاء الأمم المتحدة بالثقافات الأفريقية ما بين الأعوام 2015 إلى 2020، عن هذا يضيف علاء زويتن: "موسيقى الغناوة جزء من الثقافات الأفريقية، وهي مرشحة لأن تكون إرثاً عالمياً يجب الحفاظ عليه، إلى جانب تقديمها إلى الجمهور البرليني المتنوّع والفريد من نوعه".
أما عن النسخة القادمة، فيتابع زويتن: "نفكّر في نسخةٍ تضم المزيد من فناني وموسيقيي الغناوة من المغرب الكبير أجمع. هذه الموسيقى التي تعتمد على آلات بسيطة كالقمبري والقراقب، بالإضافة إلى تقنيات المناداة والرد، هي عالية الإحساس، وتولّد شعوراً جمعياً من حولها، وإحساساً يفوق أحياناً الأوركسترات الكبيرة التي تضم عشرات العازفين بآلات معقّدة، فالغناوة بسيطة ومهمّة وإرث عالمي يجب مواصلة الحفاظ عليه والاحتفاء به".
لربما من أكثر اللحظات تأثراً في أيام المهرجان، وأكثر ما جعل رغبتنا بأن نكتب عنه، وكذلك للدور الذي يمكن للموسيقى أن تلعبه تجاه أبنائها وبناتها أيضاً، هو حديث قصير مع بهية، وهي مغربية تقيم في برلين منذ أكثر من عشرة أعوام. والتي قالت في حديثٍ خاص لرصيف22: "عندما كنت أعيش في المغرب، لم أكن أحب الموسيقى التراثية ولا الغناوة، كأني هربت منها إلى ما يُسمى بالموسيقى العالمية غير العربية حتّى، ولكن منذ نسخة المهرجان الأولى، وقعت في غرام الغناوة، كأنه كان عليّ أن أسافر بعيداً عن البيت لأعرفها وأتعلّم أن أحبّها وأقدّر أهميتها المغربية والعالمية أيضاً".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...